المشكلة هنا ليس في اختلاف اللهجة بل في طريقة توظيفها في سيناريوهات المسلسلات والأفلام، وطريقة تقديم الشخصية الصعيدية للمشاهد، تلك الشخصيات التي مهما اختلفت أدوارها إلا أنها لم تخرج عن إطار الشخصية الغبية، المتخلفة، الساذجة أو التي تشتغل في مهن بسيطة، على غرار السواق، الشغالة، حارس العمارة وغيرها.
مع مرور العمر، أصبح لدي شغف بأن أعرف تلك الشخصيات، الفلاحين والصعايدة، هل هم كما يبدون في الأفلام؟ هل أثرت على نظرتهم لأنفسهم؟
"كرهت اللون الأخضر"
أحمد علي (اسم مستعار)، يعمل في الإنتاج المرئي الإعلامي، عاد إلى قريته في محافظة المنوفية في بدايات انتشار جائحة كورونا، وبعد عودته إلى القاهرة مؤخراً، نسي أن يغير شكلياته المعبّرة عن هويته كقروي، كمظهره وتسريحة شعره ولهجته. كان يتأمل المنتجات في سوبر ماركت بحي السيدة زينب بجوار مسكنه، ففوجئ ببعض العاملين يسألونه بسخرية عن وقفته طويلاً أمام المنتجات وكأنه سيسرقها.
وعندما رد بلهجته القروية ناسيا، كلموه باستهزاء وسخرية. بعد تلك الواقعة أصر علي على التجرد من كل ما له علاقة بهويته القروية، حتى لا يكون موضع شك، سخرية أو تنمر.
"إن لم يصل الشخص إلى ذروة النجاح، فإنه يحاول أن يتحرر من لهجته وأدائه المحلي. حتى في الزي، أصبح اللون الأخضر مكروهاً لأنه يشعر الآخرين بأنه فلاح، وهذه يضعه موضع السخرية"
يرى علي أن للسينما والدراما دوراً كبيراً في تنميط شخصيات الريفيين المهاجرين إلى القاهرة، يقول لرصيف22: "الدراما والسينما قدمت الفلاح كتير على أنه ساذج ومش بيفهم ومتخلف، وخصوصاً الأعمال اللي بيكون معظمها بيدور عن الحياة في المدن، زي "رجب فوق صفيح ساخن"، و"رمضان فوق البركان" وغيرها".
ويقول علي إن هذا التنميط أثر حتى على فنانين ومثقفين احتكّ بهم في مجال عمله، يقول: "إن لم يصل الشخص منا إلى ذروة النجاح، فإنه يحاول أن يتحرر من لهجته وأدائه المحلي. حتى في الزي، أصبح اللون الأخضر مكروهاً لأنه يشعر الآخرين بأنك فلاح، مما يضعه موضع السخرية".
غريب الأطوار وساذج
في تونس أيضاً يقولون عن القرويين "فلان من وراء البلايك"، أي من وراء اللافتات، وهي صفة تطلق على كل القادمين من الأرياف بقصد الاستهزاء.
وقد حقق السيتكوم الساخر "جاري يا حمودة "، مشاهدة عالية في تونس، وهو مسلسل كوميدي تتمحور أحداثه حول عائلة قادمة من الريف إلى المدينة، صورت أفرادها غريبي الأطوار وسذّج.
إضافة إلى سلسلة "نسيبتي العزيزة"، حيث اختار مخرجها أن يكون الأبطال من أحد الأرياف في تونس، فصورهم على أنهم أغبياء، إضافة إلى طريقة لبسهم غير المنظمة، فشخصية خميسة مثلاً، وهي شابة قادمة من الريف، تلبس ألواناً غير متناسقة وتضع مكياجاً غير مرتب، وبشعر أشعث لا يعرف أدوات التسريح، وزوجها صاحب محل لبيع الملابس المستعملة، يتكلم لهجة ريفية ويرتدي ملابس غير متناسقة، بينما ظهر أخوها "الفاهم" بصورة شاب ريفي، غبي وساذج، يرتدي ثياباً رثة وغريبة، وقد أحب "ابنة المدينة" التي رفضته، وتزوجت من شاب من نفس طبقتها الاجتماعية.
"تهكموا من اللهجة التهامية"
أما في اليمن، فقد تهكم مسلسل "همي همك" من اللهجة التهامية في أجزائه الأربعة. يقول عثمان، صحفي يمني متابع للدراما المحلية، لرصيف22: "صور هذا المسلسل المرأة التهامية بسخرية، فهي تتسم بالاسترجال و"قلة الأدب" على عكس عادات وتقاليد تهامة المحافظة، والتي تعد المرأة فيها نموذجاً في مشاركة الرجل الحياة والعمل. كما أنها صورت اللهجة في حوار درامي فيه من المبالغة بالكوميديا حد التهريج المقرف، رغم أنها لهجة عريقة وأصحابها ذوو علم وفقه وأدب".
"كما نجد في اليمن أيضاً مسلسلات عدة تتهكم على لهجات القرويين، على غرار مسلسل "حاوي لاوي"، ومسلسل "حالتي حالة"، وآخر اسمه "حارة دبش"، وجميعها تسيء للهجة القروية التعزية التي ينحدر منها معظم مثقفي وسياسيي اليمن".
أما في المغرب، فترى سناء (35 عاماً)، إعلامية من الدار البيضاء، أن برامج "ستاند أب كوميدي" لعبت دوراً كبيراً في التنمر على لهجات القرويين، تقول لرصيف22: "غالباً من يتحدث اللهجة القروية في المدن يصنف بأنه في مستوى اجتماعي متدنٍ، وقد اعتدنا التهكم على اللهجات القروية أو الريفية في الدراما العربية، لكن المؤسف أن الشباب ترسخت لديهم فكرة ارتباط الكوميديا بتلك اللهجات، فالمشاركون في برنامج ستاند أب كوميدي في المغرب مثلاً، يقدمون معظم عروضهم باللهجة القروية بغية الإضحاك".
"لهجتي تشوّه ذوقهم"
وتهكم المسلسل الأردني الفلسطيني "وطن ع وتر" في أغلب حلقاته على القرويين من خلال تصرفات الشخصيات ولهجاتهم، يقول براء مصور، فلسطيني: "يبدأ التنمر في بعض حلقات المسلسل من العنوان أحياناً مثل حلقة "كديم وهلا"؛ فهي تنم عن سخرية واضحة".
ويضيف براء لرصيف22: "أنا من أحد أرياف فلسطين، وغالباً ما أتعرض للتنمر على لهجتي حتى من قبل الأصدقاء بطريقة غير مباشرة، مثلاً نحن ننطق حرف القاف كاف، فأول ما بيعرفوا إني من المتحدثين بالكاف بيقولولي "كال" بدل "آل"، بطريقة فيها الكثير من التنمر الممزوج بالمزح، إضافة إلى التمييز من خلال كلمة "أنا" و"أني"، هذه الأخيرة الخاصة بالأرياف، عادة ما تكون محل تندر من قبل بعض سكان المدن".
في الجزائر أيضاً يتم التعامل مع اللهجة الريفية بنوع من التنمر، ويصل ذلك حد رفض توظيفهم لأن لهجتهم "لا تليق بمقام المؤسسات"، حسب تصريح الشابة سليمة (24 سنة)، من أحد أرياف الجزائر.
"أول ما بيعرفوا إني من المتحدثين بالكاف بيقولولي (كال) بدل (آل)، بطريقة فيها الكثير من التنمر الممزوج بالمزح، إضافة إلى التمييز من خلال كلمة (أنا) و(أني)، هذه الأخيرة الخاصة بالأرياف، عادة ما تكون محل تندر من قبل بعض سكان المدن"
وترى سليمة أن الأمر منتشر اجتماعياً من الأساس، ثم جسدته وكرسته السينما. تقول سليمة لرصيف22: "في السنوات الأخيرة، شهدت الجزائر هجرة من الأرياف نحو المدن الكبرى، والذين وصفوا بصفات خاصة بهم مثل "العرب الرحالة" أو "تاع البلاد"، وهي فئة حكم عليها بالتخلف والبدوية التي تشوه المدينة، فبعض الجزائريين يرجعون عدم نظافة الشوارع إلى الريفيين، ويصفون لهجتهم بالمستخشنة، خاصة إذا ما تعلق الأمر بالفتيات، ويتباهى بعض سكان المدن بلهجاتهم، معتبرين أن باقي اللهجات تشوه الذوق العام للبلاد، وهو ما ينعكس أيضاً من خلال الأعمال السينمائية التي تصور الشخصية الريفية دائماً مضحكة وغبية، مثل فيلم "عايلة كي الناس" وفيلم "رحلة شويطر".
"يتباهى بعض سكان المدن بلهجاتهم، معتبرين أن باقي اللهجات تشوه الذوق العام للجزائريين".
أما المختص في علم الاجتماع، فؤاد غربالي، فيُرجع سبب التمايز بين الريف والمدينة في الأعمال الدرامية والسينمائية إلى التوجه "السياسي"، يقول لرصيف22: "قبل الاستقلال، كانت تونس عبارة عن طبقة واحدة ريفية بالأساس، لكن بعد الاستقلال كان التوجه السياسي يرنو إلى التحديث، وبالتالي حاول من خلال الدراما والسينما التهكم على الريفيين، من خلال توظيف لهجتهم ومن خلال تصوير الشخصيات الريفية على أنها غبية وبدائية ومتخلفة، مثل الفيلم الكوميدي "فردة ولقات أختها"، الذي جسد فيه الممثل لمين النهدي، دور البطولة، بشخصية فتى ريفي سافر إلى العاصمة برفقة صديقه، واعترضتهما عدة صعوبات بسبب جهلهما بأبسط أساليب التحضر".
ويضيف غربالي: "لم يقتصر التندر على سكان الأرياف على تلك الحقبة فقط بل تواصل إلى اليوم، وإن دلّ على شيء فهو يدل على جهل صناع الدراما الذين انساقوا انسياقاً أعمى وراء السائد، دون تقدم ولا تطور في مجالهم. فبدل التركيز على معالجة القضايا الكبرى سلطوا تركيزهم على سكان الأرياف، طريقة عيشهم ولهجتهم، وهو ما يسبب قلة ثقة بالنفس بالنسبة لهؤلاء، حتى اضطر العديد منهم لتغيير لهجته عندما ذهب إلى المدن".
على عكس ما تروج له الأعمال السينمائية والتلفزية عن سكان القرى والأرياف والتي أبى غير قليل من معديها العدول عن فكرة "إلصاق" كل ما هو سلبي بتلك الشخصية الريفية، رغم التطور الذي شهده ميدان التمثيل في العالم، ,فإن الأرياف "أنجبت" ولا تزال العديد من المثقفين والعلماء وصناع الرأي والقرار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...