شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
من النبي حتى العباسيين... الدوافع الاقتصادية للتوسّع الإسلامي

من النبي حتى العباسيين... الدوافع الاقتصادية للتوسّع الإسلامي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الأحد 5 فبراير 202310:01 ص

عرف المسلمون فكرة الجهاد باعتبارها فريضة دينية أساسية ومركزية في الدين الإسلامي. كانت وسيلة مهمة لنشر الإسلام في البلدان والمناطق المحيطة بشبه الجزيرة العربية. ومن خلال موجات الجهاد الحربي المتلاحقة في القرن السابع الميلادي، تمكن العرب من نشر الدعوة المحمدية في كل بلاد الشام والعراق وبلاد فارس ومصر والمغرب الكبير.

رغم الصبغة الدينية الواضحة التي ميّزت تلك الحروب، إلا أن الدافع الاقتصادي لعب دوراً محورياً في إنجاحها. رغب عشرات الآلاف من المقاتلين المسلمين المشاركين في تلك المعارك بالاستحواذ على الغنائم الثمينة التي كانوا يحصلون عليها عقب كل انتصار.

الدور المهم الذي لعبه الدافع الاقتصادي في إنجاح حركة التوسع والغزو يمكن لحظه بدايةً في الحقبة النبوية، واستمر حتى العصر العباسي الأول مروراً بالعهدين الراشدي والأموي.

عهد النبوة

بدأ تأثير الدافع الاقتصادي في حركة الجهاد الإسلامي بالتزامن مع الهجرة إلى يثرب وتأسيس دولة المدينة. يحدثنا ابن هشام الحميري في "السيرة النبوية" عن الظروف التي ارتبطت بوقوع غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية من الهجرة، فيقول: "إن رسول الله سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلاً من الشام في عير لقريش عظيمة، فيها أموال لقريش وتجارة من تجاراتهم… ندب المسلمين إليهم وقال هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها…". وبحسب الروايات التاريخية، اعتبر المهاجرون تلك الغنيمة تعويضاً عن أملاكهم التي تركوها خلفهم في مكة.

بشكل عام، ارتبطت جميع الغزوات والسرايا التي وقعت في العهد النبوي بالغنائم بصورة أو بأخرى. وهُزم المسلمون في غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة بعدما ترك الرماة مواقعهم على الجبل ونزلوا إلى ساحة المعركة طمعاً في جمع الغنائم.

وفي أحيان كثيرة، وقع خلاف بين المقاتلين المسلمين حول طريقة توزيع الغنيمة. على سبيل المثال، يذكر البخاري في صحيحه أن قبيلة دوس قدمت على النبي أثناء حصار خيبر في السنة السابعة من الهجرة، وأن أبا هريرة طلب من النبي أن يشركه في مغانم الغزوة فأعطاه النبي من الغنيمة رغم اعتراض بعض المسلمين الذين شاركوا في القتال. كذلك يذكر ابن هشام في سيرته أن توزيع النبي لغنائم إحدى الغزوات لم يرضِ الأنصار "فوجدوا على النبي في أنفسهم". ويذكر البخاري في موقف آخر أن بعض رجال بني تميم غضبوا من طريقة توزيع الغنائم حتى أن أحدهم قال للنبي: "يا رسول الله، اعدل".

يمكن فهم الدور المهم الذي لعبته الغنائم في تقوية الصف الإسلامي في الحقبة النبوية من خلال مراجعة مفهوم المؤلفة قلوبهم. ورد هذا المصطلح في سورة التوبة في معرض الإشارة إلى أحد الأصناف التي تستحق الزكاة. وقد عرّف ابن جرير الطبري المؤلفة قلوبهم في تفسيره بأنهم "قوم كانوا يُتَألَّفون على الإسلام، ممن لم تصحّ نصرته، استصلاحاً به نفسَه وعشيرتَه، كأبي سفيان بن حرب، وعيينة بن بدر، والأقرع بن حابس، ونظرائهم من رؤساء القبائل".

ومن أشهر الروايات التي تبيّن الدور الكبير الذي لعبته الغنائم في اجتذاب المؤلفة قلوبهم إلى الإسلام ما رواه ابن عساكر في كتابه "تاريخ مدينة دمشق" بخصوص توزيع غنائم غزوة حنين في السنة الثامنة للهجرة. يروي أن أبا سفيان بن حرب طلب من النبي أن يعطيه من أموال الغنائم "فقال -النبي- يا بلال، زن لأبي سفيان أربعين أوقية وأعطوه مائة من الإبل. قال أبو سفيان: ابني يزيد أعطه! قال رسول اللَّه: زنوا ليزيد أربعين أوقية، وأعطوه مائة من الإبل. قال أبو سفيان: ابني معاوية، يا رسول اللَّه! قال: زن له يا بلال أربعين أوقية، وأعطوه مائة من الإبل...". ونجحت تلك الطريقة في تشجيع أبي سفيان وبنيه على استمرار تأييدهم الإسلام، ولم يمرّ وقت طويل حتى شارك الأمويين بشكل مؤثر في الغزوات الحربية التي وقعت في عهد الخلفاء الراشدين بعد وفاة النبي.

ويمكن تفهم الأهمية الكبرى للغنائم في الحقبة النبوية من خلال مراجعة النص القرآني نفسه. سُميت إحدى السور الطوال في القرآن الكريم باسم الأنفال. وجاء في الآية الأولى منها {يَسْأَلُوَنَكَ عَن الأَنْفالِ قُل ِالأَنْفالُ لِلِّهِ والرَّسُولِ فاتَّقُوا اللَّهَ وأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وأَطِيْعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مؤْمِنْين}.

وبشكل عام، اتفق الفقهاء المسلمون على أن أربعة أخماس الغنائم توزع على المقاتلين الذين شاركوا في المعركة، أما الخُمس الخامس فيوزع على النبي وأقاربه من بني هاشم، وبيت المال، واليتامى، والمساكين، وأبناء السبيل.

في كتابه "العقل السياسي العربي"، يُجمل المفكر المغربي محمد عابد الجابري الدور المؤثر الذي لعبته الغنائم في العصر النبوي بقوله: "إذا كانت قلة من المسلمين وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار قد ربطوا تحركاتهم من أجل المساهمة في الفتح بالدعوة المحمدية، ونشر رسالتها، فإن الغالبية العظمى من جمهور المسلمين، وتتكون أساساً من المسلمين الجدد من قريش والأعراب، علاوة على المنافقين، كانت تتحرك بدافع الغنيمة أساساً، وقد كان هذا أمراً واقعاً وسائداً حتى زمن النبي نفسه".

عهد الخلفاء الراشدين

مثلت الغنائم دافعاً رئيساً للجهاد والحرب في زمن الخلفاء الراشدين. يقول البلاذري في كتابه "فتوح البلدان": "لما فرغ أَبُو بكر من أمر أهل الردّة، رأى توجيه الجيوش إلى الشام، فكتب إلى أهل مكة والطائف واليمن وجميع العرب بنجد والحجاز يستنفرهم للجهاد ويرغّبهم فيه وفي غنائم الروم، فسارع الناس اليه من بَيْنَ محتسب وطامع وأتوا المدينة من كلّ أوب، فعقد ثلاثة ألوية لثلاثة رجال…".

وفي عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، انضم آلاف المرتدين السابقين إلى الجيوش الإسلامية المحاربة على جبهتي العراق والشام. ومن المُرجح أن الأغلبية الغالبة من هؤلاء لم ينخرطوا في تلك الحروب لأسباب دينية بحتة، وأن الدافع الأهم بالنسبة لهم كان الحصول على أكبر قدر من الغنائم والمكاسب الدنيوية.

وظهر ذلك في كثير من الروايات الواردة في المصادر التاريخية. على سبيل المثال، يورد الطبري في تاريخه في أخبار فتوح بلاد فارس أن خالد بن الوليد قام خطيباً في جيشه قبل إحدى المعارك فقال مشجعاً لهم على القتال: "لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله عز وجل ولم يكن إلا المعاش لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به ونولي الجوع والإقلال مَن تولاه ممن اثاقل عما أنتم عليه…".

رغم الصبغة الدينية الواضحة التي ميّزت حروب المسلمين الأوائل، إلا أن الدافع الاقتصادي لعب دوراً محورياً في إنجاحها، فقد رغب عشرات الآلاف من المقاتلين المسلمين المشاركين في تلك المعارك بالاستحواذ على الغنائم الثمينة...

كذلك، يذكر تقي الدين المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار" أن عمرو بن العاص لمّا قابل عمر بن الخطاب بعد الانتهاء من فتح الشام، شجعه على غزو مصر وأغراه بمواردها العظيمة فقال له: "ائذن لي أن أسير إلى مصر، فإنا إنْ فتحناها كانت قوّة للمسلمين وعوناً لهم، وهي أكثر الأرض أموالاً، وأعجزهم عن القتال". ويشير المقريزي إلى سعي الجيش المنتصر للوصول إلى الغنائم بشتى السبل إذ يذكر أن عمرو بن العاص، لمّا دخل مصر، جمع أعيان القبط، وقال لهم مهدداً: "يا معشر القبط إن مَن كتمني كنزاً عنده فقدرت عليه قتلته".

تسبب بحث الجيوش الفاتحة عن الغنائم في معارضة مبادئ الشريعة الإسلامية الداعية إلى العدل والرفق بالضعيف في الكثير من الأحيان. على سبيل المثال، يذكر ابن عبد الحكم في كتابه "فتوح مصر والمغرب" أن عمرو بن العاص لما استولى على مدينة برقة الليبية فإنه "صالح أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار يؤدّونها إليه جزية، على أن يبيعوا مَن أحبّوا من أبنائهم في جزيتهم…".

زمن الأمويين

استمر السعي للحصول على الغنائم كواحد من الدوافع الأكثر تأثيراً وأهميةً في عهد الدولة الأموية. يلفت أبو حنيفة الدينوري في كتابه "الأخبار الطوال" النظر إلى دور الغنيمة في تغير موازيين القوى في الحرب الأهلية التي وقعت بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان عقب مقتل الخليفة عثمان بن عفان في أواخر السنة الخامسة والثلاثين من الهجرة. يذكر أن عمرو بن العاص عرض تأييده على معاوية بن أبي سفيان في تلك الحرب وربط ذلك التأييد بولايته على مصر فقال له: "اجعل لي مصر طعمة ما دامت لك ولاية…". وبموجب ذلك الاتفاق، استأثر عمرو بن العاص بخراج مصر حتى توفّي سنة 43هـ.

ولعبت الغنائم دوراً مهماً في تحريك الجيوش العربية على الجبهة المغربية تحديداً. يذكر الدكتور محمد بن مدين في كتابه "الطرفة المليحة في أخبار المنيحة" أن القائد العربي موسى بن نصير أرسل للخليفة الوليد بن عبد الملك، بمئة ألف أسير عقب إحدى الغزوات التي قام بها في المغرب الكبير، وهو ما تعجب له الخليفة وقتها ووصفه بأنه "محشر الأمة".

في السياق نفسه، يذكر أحمد بن محمد المقري التلمساني في كتابه "نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرّطيب" أن موسى بن نصير، لما أتم فتح الأندلس، حمل ما غنمه وتوجّه إلى عاصمة الخلافة الأموية في دمشق، وكان "يجر الدنيا بما احتمله من غنائم الأندلس من الأموال والأمتعة يحملها على العجل والظهر، ومعه ثلاثون ألف رأس من السبي…".

من جهة أخرى، صرّحت بعض المصادر برغبة الخلفاء الأمويين في الاستكثار من السبي والغنائم. وبأنهم وجهوا اللوم للولاة والقادة بسبب قلة الغنائم. يذكر الدكتور محمد الطالبين في كتابه "الدولة الأغلبية: التاريخ السياسي" أن الخليفة هشام بن عبد الملك أرسل إلى والي المغرب يأمره بأن يرسل له "الجواري البربريات الماليات للأعين الآخذات للقلوب"، وذكّره بالأعداد الكبيرة من السبايا التي اعتاد موسى بن نصير إرسالها إلى دمشق في عهد أسلافه.

زمن العباسيين

تغيرت طبيعة العمل الحربي في زمن العباسيين. كانت الدولة الإسلامية قد وصلت إلى أقصى اتساع لها في أواخر الدولة الأموية. عرف العباسيون أن صراعهم مع الإمبراطورية البيزنطية المتاخمة لهم صار صراعاً على الحدود بعدما كان صراعاً على الوجود في عهد أسلافهم من الأمويين.

استغلّ الخليفة العباسي هارون الرشيد ضعف الإمبراطورة البيزنطية إيرين فأخذ منها مبالغ مالية عظيمة بشكل سنوي. وفي ما بعد، رفض الإمبراطور نقفور دفع تلك الجزية فحاربه الرشيد وأجبره على تجديد الصلح وعلى دفع المال من جديد

كان من الطبيعي -والحال كذلك- أن تقلّ الغنائم المباشرة من الحروب، وأن تتعاظم الموارد المالية المستمدة من الجزية والعشور والخراج، الأمر الذي تسبب في حرص الخلفاء العباسيين على ملء خزائنهم بشكل مستمر لضمان استقرار أحوال الدولة. وظهر ذلك في وصية الخليفة العباسي الثاني أبي جعفر المنصور لابنه المهدي: "قد جمعت لك في هذه المدينة (يقصد بغداد) من الأموال ما إنْ كسر عليك الخراج عشر سنين كان عندك كفاية لأرزاق الجند والنفقات وعطاء الذرية ومصلحة الثغور، فاحتفظ بها فإنك لا تزال عزيزاً ما دام بيت مالك عامراً"، بحسب ما ورد في تاريخ الطبري.

وزاد الاهتمام بتحصيل الجزية المفروضة على الإمبراطورية البيزنطية في عهد الخليفة هارون الرشيد. استغل الرشيد ضعف الإمبراطورة إيرين فأخذ منها مبالغ مالية عظيمة بشكل سنوي. وفي ما بعد، رفض الإمبراطور الجديد نقفور دفع تلك الجزية فحاربه الرشيد وأجبره على تجديد الصلح وعلى دفع الجزية من جديد.

اهتمام العباسيين بالجزية، كبديل عن الغنائم، تسبب في وقوع الكثير من الأحداث الدامية في شتى أنحاء الدولة العباسية. على سبيل المثال، يحكي ساويرس بن المقفع في كتابه "تاريخ البطاركة" عن ظروف وقوع ثورة البشموريين في مصر في بدايات العصر العباسي فيقول: "وكان متوليا الخراج في ذلك الزمان رجلين، أحدهما اسمه أحمد بن الأسبط، والآخر إبراهيم بن تميم، هذان مع ما كانوا الناس عليه من البلايا لا يراعيان طلب الخراج بغير رحمة، وكان الناس في ضيق زايد لا يحصى وأصعب ما عليهم ما يطلبه منهم متولو الخراج، وطلب ما لا يقدرون عليه، وبعد هذا أنزل الله الكريم بأحكامه الحق غلاءً عظيماً على كورة مصر، حتى إن القمح بلغ خمس ويبات بدينار، ومات بالجوع خلق كثير من النساء والأطفال والصبيان والشيوخ والشبان، ومن جميع الناس ما لا يحصى عدده من شدة الجوع...".

وتذكر المصادر الإسلامية أن الخليفة عبد الله المأمون اضطر إلى المسير بنفسه إلى مصر لضبط أمورها وللقضاء على الثورة. ويذكر الكندي في كتابه "الولاة والقضاة" أن المأمون عنّف والي مصر وقتها وقال له: "لم يكن هذا الحدث العظيم (يقصد الثورة) إلا عن فعلك وفعل عمّالك، حمّلتم الناس ما لا يطيقون، وكتمتموني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطرب البلد".

في بعض الأحيان، عرف العصر العباسي عودة دور الغنائم المؤثر في التوسعات العسكرية من جديد. مثلاً، تحاكى المؤرخون بغزو الخليفة المعتصم بالله لعَمّورية سنة 223هـ. يقول ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" واصفاً غنائم تلك المعركة: "وأَخذ المسلمون من عمورية أموالاً لا تحد ولا توصف فحملوا منها ما أمكن حمله".



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image