شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
رائحة الجنس الشرقية... كيف كانت جدّاتنا يتعطرن لأجدادنا؟

رائحة الجنس الشرقية... كيف كانت جدّاتنا يتعطرن لأجدادنا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 26 يونيو 202311:51 ص

"غير هالميات مافي...إلي الله مو مطيّب ريحته بين الناس، شو بده يطيّب ريحته يا جدة"، هكذا تبدأ السيدة السورية فيروز عبد الكريم الحكاية، لتعود بذاكرتها إلى قريتها التي لا زالت تحتفظ بعبارات جدتها وبرائحتها أيضاً، إنها قرية "معربة" المحاذية لمدينة بصرى الشام، الواقعة في الريف الشرقي لمحافظة درعا السورية.

صباحات الريحان 

تقول فيروز لرصيف22: "كانت المرأة تقف جنباً إلى جنب مع الرجل في الحقل وأعمال التنقيب عن الآثار، بالإضافة لأعمالها الخاصة من نقل الماء والخبز والغسيل، لذلك لم يكن هناك متسع من الوقت للتطيّب، أو بالأصح اعتمدت النساء على ما توفره البيئة للحفاظ على النظافة الشخصية".

تبتسم فيروز (45 عاماً) ابتسامة قصيرة، وهي تتذكر كيف كانت والدتها تحضّر عطورها الخاصة: "اليوم أنفض عن ذاكرتي غبار ثلاثين عاماً، أعود لصباحات أمي وجاراتها، صباحات تفوح منها روائح الريحان وبهار القرنفل الثقيل، كنت أرى النساء يلتقن وريقات نبات الريحان، ويتركنه فوق قطعة قماش تحت أشعة الشمس ليجف، ثم تنهمك أمي بدقه بالهاون حتى يتحول إلى بودرة تستعمله لتطيب رائحتها".

وتضيف: "أذكر أن إحدى النساء وكانت حاملاً، حاولت أخذ كمية من أمي لريحنة المولود الجديد، صاحت بها أمي توبيخاً وتنبيهاً، كانت تقول كلمات تشير إلى أن رائحة الريحان تجلب الجن للأطفال، ووثقت لها عدة حالات لأبناء من قريتنا توفوا مباشرة بعد أن "ريحنتهم أمهاتهم".

"كنت أرى النساء يلتقطن وريقات  الريحان، ويتركنه فوق قطعة قماش تحت أشعة الشمس ليجف، ثم تنهمك أمي بدقه بالهاون حتى يتحول إلى بودرة تستعمله لتطيب رائحتها"

وتتابع: "لا أعلم مدى صحة الكلام لكن يخيل إلىّ بأن رائحة الريحان قوية بما يسبب اختناق الطفل، أو أن هناك مرضاً سارياً كان يقتل الأطفال، وبدلاً من تحري السبب وعلاجه، كان يلقى باللوم على الريحان".

وتعود فيروز إلى هاون أمها الذي دقت به حبات من القرنفل دقًا خفيفًا مع بضع حبات من المحلب ثم افرغتها في زجاجة طويلة وصبت فوقها زيت الزيتون ثم أحكمت إغلاق الزجاجة بقطعة فلين، وتركتها تحت أشعة الشمس الحارة، على اعتبار أن هذا يفيد الشعر ويطيب رائحته: "كانت أمي تستخدمه لخصلات شعرها بعد كل حمام، كانت رائحته نافذة ومميزة، كنت أستسيغها جداً، وهي اليوم جزء من ماض عتيق جميل يذكرني بأمي".

الحجاب العطري 

بعد محاولة أخذ الحديث لفراش الزوجية مع الشابة السورية ليليان وسؤالها عمّا إذا كانت تستخدم العطور الشرقية لتزيد عشق زوجها لها، ضحكت وأجابت: "ذكرتني بأمي، أذكر أنني بينما كنت أحاول فك قطب اللحاف الخاص بأمي وأبي، وجدت شيئاً مثل الحجاب، خفت وأخذته بعيداً، فتحته لأجد فيه حبات مدقوقة من القرنفل وجوزة الطيب، قالت أمي بأن ذلك يحافظ على رائحة طيبة للفراش الزوجية".

تقول ليليان كمال (38 عاماً) لرصيف22: "إن كلمة العطر لم تكن معروفة في قريتنا البعيدة في ريف دمشق، جاءت مع عطور الكولونيا والريفدور، فكل ما كان يعرفه الناس هو البخور المتوافر دائماً في المضافة، أي غرفة استقبال الضيوف، أما مادة البخور فلم تكن واضحة بالنسبة لي، كنت أسمع بمسميات مثل (حصلبان) أي بخور عرائس، الذي كانت تشتريه النساء من رجل يحمل بضاعته فوق الحمار ويمر من قريتنا كل شهر مرة، محضراً ما توصيه به النساء والرجال، مثل البخور والصابون وكذلك الحناء".

"بينما كنت أحاول فك قطب اللحاف الخاص بأمي وأبي، وجدت شيئاً مثل الحجاب، خفت وأخذته بعيداً، فتحته لأجد فيه حبات مدقوقة من القرنفل وجوزة الطيب، قالت أمي بأن ذلك يحافظ على رائحة طيبة للفراش الزوجية"

ماذا عن الحنّاء، هل تستخدمينها؟ تجيب ليليان: "نعم، أحياناً استخدمها لتجميل لون شعري،الحناء هي الموروث الوحيد المنفلت من فلك الزمن، والقادم إلينا وهو يحمل روائح الجدات، غير أن عجينة الحناء بدأت في زمننا تتشكل بغير ما كانت عليه، وأخذت تظهر بنقوش فنية متقنة فوق أجساد العرائس تحديداً، أما في الماضي فالحناء كانت زينة النساء في ذلك الزمن الموسوم بالبساطة، حنة للشعر، للكفين، للقدمين، وإن ظهور الحناء في كفوف المرأة يدل على أنها تحظى بمكانة عالية أو أنها مدللة في بيت أهلها وقلما تمارس الأعمال داخل وخارج المنزل".

بالغار كُللتِ يا شامُ 

يأتي صوت سامر عبر سمّاعة الهاتف من دمشق، أحاول سؤاله عن روائح العطور الشرقية، فيدندن: "بالغار كُللتِ أم بالنار يا شام، أنتِ الأميرة تعلو بإسمك الهام... إنها أغنية السيدة فيروز، كلمات الشاعر سعيد عقل"، فأضحك ضحكة قصيرة، وكأنني عبر هذه الأغنية زرتُ دمشق لبضع ثوانٍ وشممت رائحة الغار تفوح من حمّاماتها الشعبية.

يحكي سامر قصة جدته: "لطالما تفاخرت جدتي بجمالها، خصوصاً بشعرها القمحي الطويل الذي أعجب جدي، فتقدم لخطبتها وهو الرجل الذي تتمناه نساء القرية، أستاذ اللغة العربية في أربعينيات القرن الماضي، وصاحب مكانة اجتماعية في قريته، أما جدتي فلم تكشف سر جمال شعرها إلا لحفيدها، الذي كان أنا".

يضيف سامر : "ارتبطت رائحة الغار بوجه جدتي، حتى بعد وفاتها، عندما اشتم رائحة الغار، يرتسم وجهها الأبيض وشعرها الطويل أمامي وكأني أراها تضع وعاء نحاسياً على النار، تملؤه بكوبين من الماء ثم تضيف إليه أوراق الغار وتتركها لتغلي ثم تسكب المحلول في علبة بلاستيكية وتستخدمه لتسريح شعرها، أسرّت لي مرة أنها تجاوزت الستين من عمرها دون أن تظهر شعرة واحدة بيضاء في رأسها، والسبب محلول الغار الذي واظبت على استخدامه حتى آخر سنواتها". 

تاريخ العطور 

تهتم الشعوب العربية منذ القِدم بالروائح العطرة، حيث يظهر التطيّب كحاجة دينية وثقافية، أكثر منها عادة يومية.

في كتابه (العطور ومعامل العطور في مصر القديمة) يقول الكاتب المصري محمد عبد الحميد شيمي "وادي النيل كان منذ قديم العصور أرض الأدهان والعطور، امتلك أبناؤه ناصية التعامل مع الزهور وأوراق جذور النباتات التي تنمو في تربة أرض الكنانة مصر، وسواء أراد المصريون القدماء أن يعدّوا المتوفى للحياة الآخرة وانتقاله إلى عالم الخلود أو أرادوا أن يحموا أنفسهم من أشعة الشمس أو ينالوا إعجاب الآخرين أو حتى أن يأخذوا بمجامع قلوبهم، فقد استخدموا جميعاً رجالاً ونساءً، الأدهان ومساحيق التجميل والعطور".

ويضيف: "حوّل المصريون القدماء المواد التي تنتجها سوريا وليبيا وموانئ شرق البحر المتوسط إلى خلاصة مواد عطرية مصرية، ومزجوها جميعاً، إلا أن الزنبق الأبيض واللوتس كانا من أكثر الزهور استخداماً، واستخدمت هذه العطور لتطيّب الآلهة، ولما كان الإله يجسد الخير، فلم يكن من المقبول أن يفوح منه سوى شذا الروائح الطيبة، شأنه شأن البشر الملتزمين بالنواميس الإلهية".

ومن هذا المنطلق، يرى الكاتب أن الشعوب القديمة نظرت للعطر باعتباره ترياقاً مضاداً للتعفن، وتظهر هذه الفكرة بصورة واضحة في المفاهيم التي استعادتها المسيحية وتبنّتها، ومن المتفق عليه أن مادة الزيوت والشحوم العطرية، كانت من أهم مفردات ترتيبات الطقس الديني في العالم المقدس. 

زهرة مقطّرة 

يقول محمد نوري بوادقجي، وهو صاحب محل عطور في منطقة السليمانية في حلب، إن العطور لم تكن موجودة سابقاً، بل كانت عبارة عن مواد طبيعية مثل المسك والعنبر والغار والريحان والبخور، كانوا يقطّرون الأزهار ويستخرجون منها عطور.

ويحكي بوادقجي لرصيف22 قصة العطور في حلب: "اشتهرت حلب بوردة الدريان التي كانوا يستخرجون من تقطيرها العطور، زُرعت هذه الوردة في اسطنبول وتعرف حالياً بالورد الاسطانبولي، لكن أساس هذه الورد هو حلب".

"حوّل المصريون القدماء المواد التي تنتجها سوريا وليبيا وموانئ شرق البحر المتوسط إلى خلاصة مواد عطرية مصرية، ومزجوها جميعاً، إلا أن الزنبق الأبيض واللوتس كانا من أكثر الزهور استخداماً"

ويضيف: "أما دمشق، فمشهورة بالوردة الدمشقية (الجوري) التي يستخرجون منها ماء الورد، وهو عبارة عن مقطّر الوردة الشامية، الذي يستعمل كأساس لمواد التجميل الحديثة، كما يساعد على زيادة نضارة البشرة، ويعطيها رأئحة عطرة، وما زالت النساء إلى الآن تستخدمه".

ويفضّل زوّار بوادقجي الروائح الشرقية رغم توّفر العطور الحديثة، على حدّ قوله: "حالياً تعتبر أوروبا هي المصدّر الأول للعطور، خصوصاً فرنسا، لكن الناس ما زالت إلى الآن تهتم بالعطور الشرقية المركبة لأنها تخلو من المواد الكيميائية، وإذا أردنا الحديث عن الزيوت العطرية فهنالك الكثير من المواد التي نستخرج منها العطور كجلود الحيوانات والأخشاب وجذور النباتات والطحالب وغيرها".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image