تندرج هذه المادة ضمن ملف "أسرار الروائح الشرقية"
يقف العم عبد الرحمن الزند، في محله الصغير في سوق القيمرية في دمشق، ليشرح عن الزيوت العطرية التي ينتجها، بينما تدغدغ روائحها الذاكرة لتبحر بعيداً إلى زمن قديم جداً، كان يُطلب فيه من زوار دمشق إحضار "علبة ريحة"، كإحدى أفخم الهدايا التي يمكن أن يحصل عليها أي أجنبي أو عربي من سوريا في سبعينيات القرن الماضي.
بدأ الزند تصنيع الزيوت العطرية قبل أكثر من 20 عاماً، يصنع أنواعاً متعددة، مثل زيت حبة البركة، وزيت جوز الهند، إضافة إلى زيت النعنع وزيت الورد، وكل ما قد يخطر بالبال من الأنواع الأخرى.
زيت الوردة الشامية
يقسّم العم عبد الرحمن الزيوت العطرية إلى قسمين، الأول مصنوع من النباتات وهو الأغلى ثمناً إذ يتراوح ثمن الغرام الواحد من 14 وحتى 20 ألف ليرة (نحو 2.5 دولار)، والقسم الآخر هو الزيوت العطرية المستخرجة من البذور مثل زيت حبة البركة والسمسم، ويباع بالكيلو والذي يبلغ متوسطه 125 ألف ليرة (نحو 15 دولار).
يقف الزند قليلاً، بينما يحاول ترتيب علب الزيوت بعناية فائقة، إذ يحرص على لمسها بحنية مفرطة بشكل دائم، ويمسح الغبار عنها كأنما يمسح رأس طفل ولد للتو.
لا ينتج العم عبد الرحمن زيت الوردة الشامية، أحد أكثر الزيوت العطرية شهرة في العالم، والذي يدخل بتركيب العديد من العطور العالمية. ويبرر الرجل السبعيني ذلك بالقول، إن تكاليف زراعتها عالية جداً، وهناك صعوبة بالغة بتصريفها وتصديرها، إذ أن هذا النوع من الزيوت ليس مطلوباً في السوق المحلية، ويصل ثمن الغرام الواحد منه لأكثر من 20 دولاراً اليوم، وكان قبل عام 2011 يصل لنحو 200 دولار بحسب الجودة.
عطار دمشقي: "تقسم الزيوت العطرية إلى قسمين، الأول هو الزيت المصنوع من النباتات وهو الأغلى ثمناً ويباع بالغرام، والثاني هو الزيت المستخرج من البذور مثل حبة البركة والسمسم، ويباع بالكيلو"
قبل توديعه والمغادرة، يحذرنا العم عبد الرحمن، من الزيوت المغشوشة التي تنتشر بكثافة وتباع بسعر الأصلية، ويقول إن الزيوت العطرية زيوت طيارة، بمعنى أنه وفي حال تركت علبتها مفتوحة لعدة أيام فإنها تتبخر ولا يبقى منها شيء، بالطبع فإن تجربة هذه الحيلة تعتبر مجازفة بثروة جميلة نكون قد حصلنا عليها للتو، لكن لا ضير من التجربة ولو بكمية صغيرة مثلاً.
زيوت الزنبق والياسمين والفل
غالبية منتجي الزيوت العطرية في سوريا، لا ينتجونها بدافع استخدامها بالعطور، إذ أن صناعة العطور لم تعد رائجة، والغالبية يفضلون العطور الجاهزة التي يتم استيرادها، يقول العم عبد الرحمن، إن البعض القليل ما يزال ينتج زيوت الزنبق والياسمين والفل، ويبلغ ثمن الغرام الواحد نحو 150 ألف ليرة، وهي مخصصة للتصدير.
يقول أبو غسان، وهو صاحب محل مملكة العطور في سوق الحميدية في دمشق، إن الزيوت العطرية الثقيلة ليست مرغوبة جداً بين أوساط الشباب، لذا فهم يلجؤون لاستيراد زيوت العطور الشهيرة، أو زيوت عطرية مختلفة يقومون بتركيبها وتخفيفها بالكحول لتصبح ملائمة لذوق الشباب اليوم ولجيوبهم أيضاً، إذ أن ثمنها لا يساوي حتى 1 بالمئة من ثمن العطور الشهيرة عالمياً.
رائحة دمشق تفوح بالعالم
قالت العجوز الشامية اللاجئة في أوروبا في تعبيرها عن الحنين لدمشق جملة لا يمكن نسيانها "بكفي الشام إنه وسخ شوارعها ياسمين".
قالت العجوز الشامية اللاجئة في أوروبا في جملة حنينها: "بيكفي الشام إنه وسخ شوارعها ياسمين"
دمشق عاصمة الياسمين، لطالما اشتهرت بعطورها المستخرجة من النباتات، خصوصاً الوردة الشامية والياسمين، إذ ساعدتها تربتها الخصبة ومناخها الملائم لإنتاج بتلات الأزهار التي كان يستخرج منها الزيت، قبل أن تندثر هذه الصناعة مع بداية الحرب عام 2011، لصعوبة التصريف.
وعرفت دمشق صناعة العطور منذ أكثر من ألف عام، حتى قبل فرنسا التي تعتبر اليوم أشهر بلدان تصنيعها، وكان يتم تصنيع العطور أو "الريحة" كما تسمى شعبياً، عبر عملية التقطير، ولاحقاً تصنيع الزيوت العطرية، لتضيف فرنسا الكحول لتخفيفها وصناعة العطور بشكلها الحالي اليوم.
استخراج الزيوت
في حقله الصغير في منطقة الصفصافة في محافظة طرطوس، يحاول عمار مصطفى نصر، صاحب مشروع إنتاج زيوت عطرية، أن يعتني بأزهاره وهي من النوع الشامي الذي يسمى السلطاني، والتي زرعها قبل عدة أعوام بهدف الحصول على زيتها وبيعه، لكن صعوبة التصريف ألغت المشروع ليتحول لإنتاج مربى الورد وماء الورد.
إلى جانب ذلك، ينتج نصر مختلف أنواع الزيوت العطرية، مثل زيت النعنع البري أو "المنتول"، ولأجل ذلك يتوجب عليه البحث عن هذا النبات على ضفاف الأنهار ومجاري المياه، يحضر كميات وافية من زهوره لتبدأ عملية استخراج الزيت.
يستخدم نصر "الكلكة"، ومبدأ السلق عبر البخار، ليحصل على ماء النعنع وعلى وجهه تطفو قطرات الزيت، يجمعها ومن ثم يقوم بتعبئتها سريعاً كونها زيوت طيارة، ويحضرها للبيع.
في حقله الصغير في منطقة الصفصافة يحاول عمار وهو منتج زيوت عطرية، أن يعتني بأزهاره وهي من النوع الشامي الذي يسمى السلطاني، لكن صعوبة التصدير ألغت المشروع ليتحول لإنتاج مربى الورد وماء الورد
ينطبق الأمر على زيوت البابونج، إلا أنه يستخدم طريقة مختلفة عبر استخدام المذيب العضوي والكحول والبابونج، بكميات متشابهة، ثم يتركها نحو 40 يوماً بمكان مظلم، بعد ذلك يقوم بتطيير الكحول والحصول على الزيت العطري.
يكشف نصر عن طريقة ثالثة، عبر استخدام الدهون، ويقول لرصيف22، إن هذه الطريقة تنفع مع عدة أنواع، مثل زهر الليمون، وتقوم على مبدأ رصها كطبقات متبادلة بين الدهن وزهر الليمون، ثم تترك في الشمس لفترة طويلة حتى "تتعطن"، لتبدأ مرحلة الغلي والعصر حيث يطفو الزيت على وجه الإناء، ويضيف أن هذه أقدم أنواع طرق استخراج الزيوت العطرية، وهي التي تستخدم مع الياسمين.
ويصف الأسعار بالمنطقية قياساً بالوقت والجهد والكلفة، ويضرب مثالاّ على ذلك سعر كيلو زيت النعنع، الذي لا يتجاوز الـ350 ألف ليرة، (نحو 40 دولار).
يصرّف نصر كامل منتجاته من الزيوت العطرية إلى المعامل الطبية، التي تستخدم تلك الزيوت في الصناعات التجميلية، وحتى الدوائية، وأحياناً تستخدم لدى معامل الأغذية كمنكهات طبيعية، كما يقول.
الزيوت العطرية والطب البديل
في محله الصغير في حي الرمل الشمال بمدينة اللاذقية، والذي بالكاد يتسع لشخصين، وهو ثالثهما، يحاول العم بسام حميدوش، أن يتحدث عن متعة صناعة الزيوت العطرية، التي بدأ بها قبل مدة قصيرة، ويبدو متحمساً لها للدرجة التي يفكر بها تخصيص محله لبيعها وبيع المنتجات التي يصنعها منها بالتعاون مع أحد الصيادلة المختصين بتركيب أدوية الطب البديل.
يقول حميدوش لرصيف22 إنه ينتج الكثير من أنواع الزيوت العطرية، مثل زيت الغار والذي يستخدم في صناعة الصابون وكريمات التجميل، إضافة لزيت الحشيش، وزيت الكافور، والنعنع والورد، ويصفها بأنها زيوت معالجة.
للغرابة.. تبدو أسعار الزيوت العطرية في محلات العطارة في اللاذقية زهيدة مقارنة بأسعارها في دمشق
لا يكشف الرجل الستيني الكثير عن أسرار المهنة، ويكتفي بالقول إن كل نوع يعالج مرضاً معيناً، وبعض الأمراض الجلدية تحتاج لخلط أكثر من نوع زيت عطري، لكنها في العموم تعالج مشاكل الصدفية، وتساقط البشر ومشاكل البشرة.
قياساً على أسعار الزيوت العطرية في دمشق، تبدو أسعارها لدى العم بسام زهيدة جداً، حيث لا يتجاوز ثمن الـ50 غرام من أي نوع الـ5000 ليرة سورية (الدولار الواحد يساوي 900 ألف ليرة سورية)، ويبرر الأمر بأنهم يصنعونها بطريقة يدوية غير مكلفة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون