فتى مصري فعلها، وجعل من ذكرى هزيمة 1967، للمرة الأولى، مناسبة للتفاؤل العام. فجر الثالث من حزيران/يونيو 2023 تجاوز الخط الفاصل بين مصر وفلسطين، وتوغل مطارداً جنوداً للعدو، وتمكن بسلاحه الخفيف من قتل ثلاثة وإصابة اثنين، قبل أن يرصدوه ويقتلوه. اسمه محمد صلاح، جندي مهمته مطاردة المهربين والمجرمين، وهوايته الرسم، ولقبه "الشهيد".
واحد من زرّاع الأمل، يثبتون أن الشعب لا تخدعه الدعاية والطنطنة والإذعان لشروط آخرَ يرانا أعداءه. البيان الرسمي المصري جرّده من اسمه: "قام أحد عناصر الأمن المكلفة بتأمين خط الحدود الدولية بمطاردة عناصر تهريب المخدرات"، فنهض الشعب العربي يرفع صور الشاب، ويتغنى باسمه، ويضيفه إلى قائمة "شهداء الحدود".
بمثل مفاجأة الشهيد محمد صلاح ستنفجر ثورة، حتى صناعها سيفاجأون بها. باطمئنان يمكن القول إن الشعب، بعفويته واتساقه حتى مع تناقضاته، لا يكف عن إثارة العجب. قام بثورة، وراقب اختطافها المتكرر، واحتمل أذى يطلقه إخوان ومتأخونون ومتعالمون ومتفاصحون يصفونه بالجبن، وعبادة البيادة. وكانوا يمتدحونه. ما أقسى قيام البعض بدور قادة يريدون أن يأمروا شعباً، فإن تمهّل شتموه.
بمثل مفاجأة محمد صلاح ستنفجر ثورة، حتى صناعها سيفاجَأون بها. باطمئنان يمكن القول إن الشعب، بعفويته واتساقه حتى مع تناقضاته، لا يكفّ عن إثارة العجب
شعب لا يستريح من اللهاث، يحتمل عذابات استعمار توالت غزواته لأكثر من ثلاثة وعشرين قرناً، وانتهى باستبداد محلّيّ. وقبل الفرح بإزاحته، واجه منحنى الإخوان. وصدّق بيان الجيش، أول تموز/يوليو 2013: "لقد عانى هذا الشعب الكريم، ولم يجد من يرفق به أو يحنو عليه".
جملة عاطفية، ذكية جداً، ذكاء في التوقيت، وفي الإيجاز الأشبه بمقذوف يرشق عصباً عارياً. استعادة هذه الجملة، الآن، قد تدفع إلى الندم على استجابة متعجلة، خالية من التبصر، ولم تتوقع مصائر حضرت فيها الدماء طرفاً في معادلة القوى، بعد أن كانت إراقة الدم المصري من مهارات غزاة أجانب لا يترددون في الاقتتال؛ للفوز بالغنيمة.
لا يعيب الشعب أن يخطئ. الخطأ دليل الحياة. الموتى وحدهم معصومون. سرعان ما يفيق الشعب. انتهى سريعاً تغييب أثمرته الدعاية الساداتية للسلام مع العدو. وفي 26 شباط/فبراير 1980، استبق المواطن سعد حلاوة استقبال أنور السادات لسفير العدو، باحتجاز موظفين في الوحدة المحلية لقرية أجهور بمحافظة القليوبية.
سعد حلاوة طالب بطرد السفير. هيبة السلطة تضحي بأي روح. تم قنصه، وكالعادة ادّعوا أنه مجنون، فكتب نزار قباني مرثيته "صديقي المجنون سعد حلاوة"، وبدأ بهذا العجب: "مجنون واحد فقط خرج من هذه الأمة العربية الكبيرة العقل المتنحسة الجلد الباردة الدم، العاطلة عن العمل. فاستحق العلامة الكاملة. في حين أخذنا كلنا صفراً. مجنون واحد تفوق علينا جميعاً واستحق مرتبة الشرف في ممارسة الثورة التطبيقية في حين بقينا نحن في نطاق التجريد والتنظير. هذا المجنون العظيم اسمه سعد إدريس حلاوة... وعلاماته الفارقة مجنون... وبالنسبة لتاريخ المقاومة المصرية فإن سعد إدريس حلاوة هو أول مجنون عربي لم يحتمل رأسه رؤية السفير الإسرائيلي".
الشعب يصحح أخطاءه، ويجيد اختيار أبطاله. في العشرية الأولى لحكم حسني مبارك، اختار الشعب بطلاً اسمه سليمان خاطر، كان أيضاً جندياً على الحدود. ولم تتوقف الدماء، وفي العشرية الثالثة لمبارك قتل جيش العدو أكثر من 20 مصرياً، مواطنين في مزراعهم، وأطفالاً يلعبون أمام بيوتهم في رفح، و13 ضابطاً وجندياً. أما الشرطيان محمد بدوي محمد وأيمن سيد حامد فسحبهما الصهاينة إلى داخل فلسطين، للادعاء بأنهما تجاوزا الحدود. الجريمة لم تمنع مبارك، مساء 4 حزيران/يونيو 2006، أن يستقبل رئيس وزراء العدو إيهود أولمرت. ابتسم للكاميرا، وسأله صحافي أجنبي هل ناقش مع أولمرت قضية قتل الجنود داخل الحدود المصرية؟ ردّ باستهانة: أولمرت اعتذر.
لا يعيب الشعب أن يخطئ. الخطأ دليل الحياة. الموتى وحدهم معصومون. سرعان ما يفيق الشعب.
من حدد موعد الزيارة عشية ذكرى الهزيمة؟ ليت الرئيس احتج بالحادث ورفض لقاء أولمرت، وطالب بالتحقيق، تمهيداً لمحاسبة الجناة. لو فعل لأرضى الشعب الذي لا ينسى سليمان خاطر. بطولة محمد صلاح (حزيران/يونيو 2023) جددت ذكرى سليمان الذي استنكر تسلل سياح إسرائيليين إلى نقطة حراسته. أهانوا العلم المصري، يوم 5 تشرين الأول/أكتوبر 1985، عشية ذكرى النصر. حذرهم أن يتقدموا، فتجاهلوه، استفزوه، فأطلق النار، وقتل أحدهم وأصيب ستة. وحكم عليه بالسجن المؤبد، ثم عثر عليه ميتاً في 7 كانون الثاني/يناير 1986. وقد أصرت إسرائيل على أن تدفع مصر مليون دولار تعويضاً لأسرة القتيل، ومئة ألف دولار لكل جريح، ولو كان جرحه مجرّد خدوش.
كان عامي الأول في كلية الإعلام بجامعة القاهرة. أنيس منصور ترك دار المعارف ورئاسة تحرير مجلة "أكتوبر" لصلاح منتصر. لا انتقاء في مرحلة الفتوة، عافية المعدة تهضم أي كتابة. مجلة "أكتوبر" وجبة أسبوعية، وقررت أن أكون أحد كتابها.
أرسلتُ مقالات إلى رئيس التحرير، وانتظرت النشر، ولم أتلق أي ردّ. وشغلتني القصة القصيرة. وصرفني سليمان خاطر عن "أكتوبر". وفي عام 2003 بلغ صلاح منتصر السبعين ورشحته الحكومة نقيباً للصحفيين. النظام يتعهد أبناءه، ولا يتخلى عنهم. وجاءنا في "الأهرام المسائي"، وواجهته: لا أنسى مقالاتك الأسبوعية التي استهانت بالغضب الشعبي المصاحب لقضية سليمان خاطر، فكيف أنتخبك؟ أحدها حمل عنوانه مسيئاً على غلاف "أكتوبر".
سألني صلاح منتصر: أي عنوان؟ قلت: "قضية بغير موضوع وبطل بغير بطولة!". تعجب واتهمني بأنني أحاسبه بعد سبع عشرة سنة. من الطبيعي أن ينسى.
الشعب قاسٍ، وذاكرته لا تتسع إلا لمن يصطفيهم، كما اصطفى محمد صلاح ومنحه لقب الشهيد، واستدعى زميلاً له أحرز بطولة، ونجا بحياته. إنه الجندي أيمن محمد حسن
لا أحد يتذكر أسماء ضحاياه. الضحية هي الحقيقة. والعبد مأمور. مصدر عجبه أن يظل لجندي فقير، قالت السلطة إنه انتحر، ذكرٌ بعد تلك السنين، وفي اجتماع يقدم فيه نفسه نقيباً. لم ينجح الرجل، ثم خلف أنيس منصور في الكتابة بأهم مكان في الصحافة المصرية، عمود في الصفحة الأخيرة في "الأهرام". وأصدر كتاباً هنا وكتاباً هناك، وظل يكتب عموده اليومي حتى توفي في أيار/مايو 2022 عن 89 عاماً. نال منتصر كل ما يحلم به صحفي من مناصب.
أبناء النظام يشبعون أياماً ودلالاً وحظوات. يتخمون، ثم تطوى أعمالهم طيّ السجل. لا أحد الآن يطلب كتب صلاح منتصر أو يتذكر عناوينها، أو يذكره. أذكرُه هنا مقترناً بكبوة مهنية تستهين بالضمير الشعبي المتعاطف مع شاب أعزل. الشعب قاسٍ، وذاكرته لا تتسع إلا لمن يصطفيهم، كما اصطفى محمد صلاح ومنحه لقب الشهيد، واستدعى زميلاً له أحرز بطولة، ونجا بحياته. إنه الجندي أيمن محمد حسن الذي رأى، في تشرين الثاني/نوفمبر 1990، جنوداً يتجاوزون الحدود، وأحدهم يمسح حذاءه بالعلم المصري. هاجمهم وقتل أكثر من عشرين ضابطاً وجندياً إسرائيلياً وجرح مثلهم، وسلم نفسه للسلطات المصرية، ثم حُكم عليه في نيسان/أبريل 1991 بالسجن اثني عشر عاماً.
للشعب المصري ذاكرة حديدية، قاسية أحياناً، تستحق وقفة متمهلة أمام الأشرار والأخيار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...