عقارب الساعة تشير إلى السادسة مساء يوم الثلاثاء 6 يونيو/ حزيران، الشمس تلملم خيوط ضوئها من سماء حي عين شمس الواقع شمال شرقي القاهرة. وشوارع مكتظة بالناس والمحال التجارية وعربات الميكروباص والتوك توك قادتنا إلى الموقع المنشود، منزل شاب مصري يافع قتل ثلاثة جنود إسرائيليين وجرح اثنين آخرين أثناء تأدية خدمته العسكرية على الحدود المصرية الإسرائيلية المشتركة. منحه المصريون وسواهم من الشعوب العربية لقب البطل الشهيد، ونعته إسرائيل بالإرهابي، بينما التزمت مصر الرسمية الصمت مكتفية بموضعته ضمن "القتلى" في بيان صادر عن المتحدث العسكري مساء يوم الواقعة.
الوصول إلى منزل المجند "الشهيد" محمد صلاح لم يكن صعباً، بعد الشهرة التي اكتسبها الشاب البسيط عقب إعلان هويته وصورته في وسائل الإعلام الإسرائيلية.
رصت الأسرة نحو 6 كراس سدت مدخل الحارة الضيق، هذه الكراسي هي كل ما سمحت به أجهزة الأمن، فيما اصطف على الجانبين نحو 15 شخصاً وسط صمت مطبق تكسره همهمة الواقفين وتحيات العابرين لشقيقه الأكبر محمود
بمجرد وصولنا إلى شارع الهادي سلامة، المتفرع من أحمد عصمت، كان السؤال عن منزل محمد صلاح كافياً لنجد عشرات الأيدي والألسنة تدلنا على بيته الكائن في حارة عطيتو المتفرعة عن شارع الهادي سلامة، مصحوبة بالتحذيرات من الاقتراب من أفراد الأسرة، بسبب انتشار رجال الأمن بالمنطقة.
كان من المفترض أن يعج هذا الشارع بالمئات الذين أعلنوا رغبتهم في تحويل عزائه إلى وداع شعبي غفير يليق بعمله البطولي، لكن إعلان أقاربه عن اقتصاره على مجلس صغير أسفل منزله، بفعل الضغوط الأمنية، وقيام قوات الأمن التابعة لقسم عين شمس بمنع مئات المعزين من الوصول إلى بيته، أحبط هذا السيناريو.
رصيف22 كان بين الحاضرين في "التعزية" أمام بيت المجند محمد صلاح، وتابع الإحباط الذي سيطر على رفاقه وجيرانه من سكان الشارع. "هو مفيش عزا كده خلاص؟ يا خسارة! في ناس كتير بتكلمني عشان تجي تقف جنب أهله" قالها شاب ذو بنية ضخمة يقف على بعد أمتار من منزل صلاح، فيما حسم صديقه الرد بعبارة واحدة "الحكومة منعت العزا".
تسلمت الأسرة جثمان نجلها فجر الإثنين بعد وصوله من إسرائيل، وتم التشييع سراً بمقابر الأسرة، فيما أشارت تقارير صحافية محلية إلى أن "ضيق الوقت" منع معظم أفراد العائلة من حضور الدفن، بمن في ذلك والدة صلاح
عند السادسة مساء، دلفنا إلى حارة "عطيتو" التي يقع بها منزل صلاح، رصت الأسرة نحو 6 كراس سدت مدخل الحارة الضيق، هذه الكراسي هي كل ما سمحت به أجهزة الأمن، فيما اصطف على الجانبين نحو 15 شخصاً وسط صمت مطبق تكسره همهمة الواقفين وتحيات العابرين لشقيقه الأكبر محمود.
حاول كاتب هذه السطور التواصل مع شقيقه الأكبر، لكنه تلقى تحذيرات من جيران وأصدقاء لصلاح بأن شقيقه كان في هذه اللحظة محاطاً بعناصر من الأمن في لباس مدني، بعدما أمضى هو وعمه الذي يقطن بالعقار ذاته قرابة الـ48 ساعة في أحد المقار الأمنية، لاستجوابهما عن الميول السياسية والدينية لشقيقه الأصغر محمد صلاح، في محاولة لاستجلاء حقيقة دوافعه في حادث معبر العوجة.
تسلمت الأسرة جثمان نجلها فجر الإثنين بعد وصوله من إسرائيل، وتم التشييع سراً بمقابر الأسرة في قرية العمار بمحافظة القليوبية، في دلتا مصر، فيما أشارت تقارير صحافية محلية إلى أن "ضيق الوقت" منع معظم أفراد العائلة من حضور الدفن، بمن في ذلك والدة صلاح التي تقيم في القاهرة.
في هذه الأثناء، استوقفنا شقيقه الأصغر عبدالرحمن، وهو طفل أشقر يدرس بالمرحلة الابتدائية، وقال: "لا صحافة لأ. مفيش الكلام ده خلاص اتفضل امشي من هنا"، قالها الصغير بصوت متشنج، خوفاً من جلب المزيد من المتاعب لأسرته.
بمرور الساعات، بدأ التوافد تدريجاً مع توغل المساء، من جيران وأغراب لا تربطهم صلة بفقيد عين شمس، ثم عادوا بخفي حنين، بعضهم قطع مسافات طويلة لمشاطرة الأسرة أحزانها والتعبير عن الفخر ببطلهم الذي اخترق الحاجز التأميني وقتل وحده ثلاثة من الجنود الإسرائيليين.
يُجمِع أصدقاء وجيران محمد صلاح على أن أن المجند الشاب لم يكن منخرطاً في أية تنظيمات سياسية، وليست له أية انتماءات سياسة أو خلفيات دينية، فهو ينتمي إلى أسرة بسيطة، تكافح من أجل قوت يومها، ولا تشغله هذه الأمور
محمد محروس، شاب في الثلاثين من عمره، كان أحد أولئك المتحمسين لمواساة الأسرة والتعبير عن الامتنان، لم يقض أكثر من 5 دقائق، استقبله أحد أقارب الفقيد أسفل البناية، ولم يستطع أن يلتقي بأخيه أو أمه، يقول: "شعور لا إرادي جعلني أتوق للمشاركة في وداع بطل زي محمد صلاح، كان نفسي أطبع قبلة على رأس أمه وأحتضن أخيه لكن الجو ملبِّش جداً".
في الشوارع المجاورة لمنزله، يمكنك ملاحظة حجم الاهتمام بقضية المجند "الشهيد قاتل الإسرائيليين"، حيث تناثرت صوره المعلقة معنونة بـ"الشهيد البطل محمد صلاح"، وتنضح النقاشات الجانبية بأحاديث عن رجولة وشجاعة ابن المنطقة الذي تخفَّى لساعات في معبر العوجة من دون أن ترصده نقاط التفتيش الإسرائيلية.
"أما شوفت صورة محمد على الفيسبوك وإن الناس بتقول ده البطل اللى قتل الإسرائيليين مصدقتش أن ده محمد ابن منطقتنا. معقولة قدر يعمل ده لوحده؟ إحنا أهله جيرانه وصحاب مش مصدقين، بس طبعاً فرحانين" قالها شاب يمتطي دراجة بينما تتوالى الأسئلة من الراغبين في العزاء للوصول إلى منزله.
على أعتاب الشارع المؤدي إلى المنزل، وقف أحد أصدقاء طفولته، يدعى أحمد علي، يتابع بذهول مظاهر وداع صديقه، في حضور رجال يتبعون جهات أمنية مختلفة لم يأتوا لغرض تقديم واجب العزاء. شاب نحيف يرتدي نظارة طبية، زامله في مراحل التعليم الأساسية قبل أن يقطع محمد صلاح علاقته بالتعليم في المرحلة الإعدادية، يقول لرصيف22: "أعرف صلاح من وإحنا صغيرين في المدرسة، طول عمره جدع وشقيان ومحب للحياة زيه زي شباب كتير من حتتنا على باب الله، حلمهم على قدهم يعيشوا مستورين".
لم يكمل صلاح تعليمه، إذ انخرط في العمل الشاق لمساعدة أسرته على نفقاتها، بعد وفاة أبيه العامل بهيئة النقل العام قبل سنوات، فعمل في ورشة عمه، ثم لحق بأخيه الأكبر في مجال الملابس، لكنه لم ينسجم كثيراً في هذا المجال وقرر العودة إلى حرفته الأساسية كفني ألوميتال.
سلطت مواقع إسرائيلية بارزة الضوء على ما قالت إنه سلوك المجند المصري، إذ نشرت "تايمز أوف إسرائيل" نقلاً عن صحف مصرية لم تسمها، أنه اشتكى عدة مرات من خدمته العسكرية، بما في ذلك في الآونة الأخيرة، وغاب دون إذن 18 يوماً في السابق
يُجمِع أصدقاء وجيران محمد صلاح على أن أن المجند الشاب لم يكن منخرطاً في أية تنظيمات سياسية، وليست له أية انتماءات سياسة أو خلفيات دينية، فهو ينتمي إلى أسرة بسيطة، تكافح من أجل قوت يومها، ولا تشغله هذه الأمور.
ما لاحظناه أن هذا ما يريد الجمع إسباغه على الرواية، لا أحد يريد تلطيخ بطولته الشعبية، إذ ينفون عن أنفسهم الانشغال بالسياسة، وينظرون لقضية الصراع مع إسرائيل باعتبارها قضية قومية دينية، منفصلة تماماً عن تأييد أو معارضة نظام الحكم في مصر.
هل عانى صلاح من أزمات في فترة تجنيده؟
ثمة رواية أخرى جرى تداولها عل نطاق واسع بين سكان هذا الحي، بأن المجند كان يعاني من حالة نفسية سيئة في إجازاته الأخيرة، جراء ما يلقاه من معاملة أدت إلى تغيبه لفترة عن معسكر الخدمة بالشريط الحدودي، كما أنه حاول الهروب في بدايات التحاقه بكتيبة الأمن المركزي المكلفة بحماية منطقة العلامة الدولية رقم 47.
إمعانا في تحليل شخصيته، سلطت مواقع إسرائيلية بارزة الضوء على سلوك المجند المصري، إذ نشرت "تايمز أوف إسرائيل" نقلاً عن صحف مصرية لم تسمها، أنه اشتكى عدة مرات من خدمته العسكرية، بما في ذلك في الآونة الأخيرة، وغاب دون إذن 18 يوماً في السابق.
كغيره من العاديين، كان ينتظر صلاح أن ينهى فترة تجنيده، المقررة 3 سنوات لغير حملة الشهادات، للحصول على فرصة عمل جيدة، وتدشين أسرته المستقلة بالزواج، إذ حالت ظروفه المادية الصعبة دون استكمال خطبته بإحدى الفتيات
التقارير الصحافية تركز على الإشارة إلى أن صلاح "عانى من اضطرابات نفسية" بعد وفاة أحد أفراد كتيبته بالشريط الحدودي، وشعر أن القضية لم تؤخذ على محمل الجد، فيما نسبت إلى أحد أصدقائه أنه كان يحاول الحصول على إعفاء طبي من خدمته بسبب مشاكل جسدية.
غير أن هذه الرواية لا يدعمها بعض أصدقائه، فأحمد علي يرى أن صلاح "شاب طبيعي جداً زي أي شاب"، له هواياته المحببة كالرسم، وفي مرحلة تجنيده كان يجتمع بأصدقائه بالمقهى، ويدخن السجائر على ناصية مدخل الحارة.
كغيره من العاديين، كان ينتظر صلاح أن ينهى فترة تجنيده "المقررة 3 سنوات لغير حملة الشهادات"، للحصول على فرصة عمل جيدة، وتدشين أسرته المستقلة بالزواج، إذ حالت ظروفه المادية الصعبة دون استكمال خطبته بإحدى الفتيات.
لا يعلم علي السبب الذي دفع صديقه إلى اختراق حاجز التأمين وفتح خزائن سلاحه على الإسرائيليين، فهو لا يستوعب حتى الآن أن صديقه الهادئ، محب الخيل والرسم بات بطلاً شعبياً يطوف اسمه وصورته صفحات التواصل الاجتماعي، مشيراً إلى أن جميع سكان حي عين شمس بما فهيم أسرته لم يعلموا بنبأ مقتله إلا بعد حضور رجال الشرطة لإبلاغهم والتحري عنه في الوقت عينه.
صديق آخر لمحمد، يدعى محمود الصعيدي، يمتلك محل حدائد ودهانات، يستبعد أن يكون الحادث له علاقة بالتزامه الديني، فهو "أبسط من كده، آخره يصلي يعني" بحسب تعبيره، لافتاً إلى أن آخر لقاء جمعه به كان في مايو/ أيار الماضي، ولم يلمس خلاله أي تغيير في سلوكه.
يقول محمود الصعيدي: "عيل جدع الناس كلها تعرفه في المنطقة وكان بيحب يضحك مع الناس ومش مهموم، كلنا مش مستوعبين اللى حصل ومحدش يقدر يقول استتناج واحد منطقي".
مع اقتراب عقارب الساعة من العاشرة، دلفت إلى شارع الهادي سلامة سيارة ميكروباص لا تحمل ركاباً، بدا أنها تتبع جهة أمنية، مكثت لدقائق ورحلت بينما كان رجال المباحث ينتشرون وسط الوافدين الذين تجاوز عددهم في هذه الأثناء المئة، وقفوا في حلقات صغيرة يتهامسون عن بطولة ابن عين شمس، فيما بقيت مصابيح الشارع كلها مطفأة.
يمكن للمتقصي وراء حكاية محمد صلاح أن يتبنى جميع الروايات، فالعاصمة تزدحم بهؤلاء العاديين الذين تنقلب حياتهم رأساً على عقب دون سابق إنذار، لذا ليس مستبعداً أن يتحول الشاب الهادئ المكافح الذي يشبه تماماً ملايين في مثل عمره، إلى أيقونة شعبية، وليس هذا بمعزل عن الاشتباك السياسي، وإن كان غير مؤهل دراسياً لاستيعاب تعقيدات السياسة، حتى أننا لا يمكن أن نغض الطرف عن جانب من الرواية الإسرائيلية التي أحالت الموضوع إلى جملة أسباب دينية وسياسية واجتماعية، ما دفع الشرطي إلى عبور معبر العوجة "نيتسانا" وقتل الجنود الثلاثة، بعد أن سار 5 كيلومترات وصولاً لبوابة الطوارئ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...