منذ أول لوحة قبطية مصرية عامرة بالتفاصيل تجسد السيدة العذراء مريم وهي تحمل الطفل يسوع، والمنسوبة إلى الطبيب البشير "لوقا الإنجيلي"، اعتبر الفن القبطي فناً شعبياً بامتياز، لم يولد ملكياً أو يتبع امبراطورية، على العكس فقد كان ميلاده في مصر كباقي مناطق العالم التي استقبلت المسيحية في سنواتها الأولى، مطارداً مُجرّماً مخبأً، واستغرق الأمر نحو أربعة قرون حتى ظهر من دون مواراة.
أيقونة العذراء للوقا الإنجيلي
نشأ هذا الفن وتطور على يد الفنانين الفطريين في مصر من الرهبان والمتدينين البسطاء، بداية من القرن الرابع. وقتها بدأ البابا كيرلس الأول (البابا 24) الاهتمام بالأيقونات وتعليقها في الكنائس القبطية والأديرة (422 ميلادية). قبل أن تخرج جماعة دينية متشددة وتحرم الأيقونات وتقوم بحرق عدد كبير منها طوال سنوات (726 حتى 842)، سميت هذه الفترة بحرب الأيقونات، لكن مصر لم تشارك فيها، إذ كان الرهبان والفنانون يهربون الأيقونات واللوحات إلى دير "أبي سرجة" في مصر القديمة ودير الأنبا أنطونيوس بالبحر الأحمر، وذلك لحمايتها والحفاظ عليها.
كان ميلاد فن الأيقونة المسيحية في مصر كباقي مناطق العالم التي استقبلت المسيحية في سنواتها الأولى، مطارداً مُجرَّماً مخبأً، واستغرق الأمر نحو أربعة قرون حتى ظهر من دون مواراة
ولا تزال أقدم أيقونة للمسيح، هي البانتوكراتور الذي تحويه كنيسة دير سانت كاترين في سيناء المصرية.
أيقونة المسيح في كنيسة سانت كاترين- أقدم أيقونة باقية للمسيح
راغب عياد، فانوس إيزاك، حبيب جورجي، ورمسيس ويصا، كلهم رواد معاصرون في الفن المصري ورسم بعضهم لوحات تستلهم تراث فن الأيقونات القبطية. وحتى اليوم ينتشر تلاميذ لهم في ربوع مصر، يرسمون الأيقونات ويزينون بها جدران وأسقف الأديرة والكنائس المصرية، معظمهم فنانون فطريون، لم يدرسوا الرسم بشكل أكاديمي، بل وهبتهم الطبيعة الموهبة وطوروها وصقلوها وكرسوا حياتهم لفن الأيقونات القبطية.
هضم اسحق جورج فنون الرسم القبطية مبكراً، رغم أن لوحاته تنضح بالتاثيرات الأوروبية، لكنه يحافظ على الألوان القبطية في الرسم الأبيض والأزرق والأحمر، مضافاً إليها التأثير الأوروبي الممثل في اللون الذهبي
أيقونات المنيا
في حقول قريته الصغيرة "البرشا" بمحافظة المنيا في صعيد مصر، تعلم إسحق جورج (35 عاما) كل شيء تقريباً. قص الغاب وصنع منه صافرة اكتشف أنها ناي، فتعلم عزف الناي دون معلم، مسك بيديه الصغيرتين كتلة طين فحولها إلى تمثال صغير، ومع أول فرصة للرسم بالقلم الرصاص على ورقة بيضاء تعلم إسحق الرسم بمفرده. وبدأ تقليد كل شيء تقع عليه عيناه، لكن الأيقونات والصور القبطية والصلبان كانت أكثر ما أحب رسمه وتقليده. لم يكن يعرف أنه بجوار مسقط رأس الفنان "إيزاك فانوس"، رائد الفن القبطي المعاصر، الذي ولد في "مغاغة" بالمنيا.
يقول اسحق لرصيف22: "قبل القراءة والكتابة تعلمت الرسم، وهويت رسم الصلبان والصور الدينية اللي كانت في بيتنا وفي الكنيسة، وفي كل مكان حواليا، وكانت مجرد هواية بيشجعني عليها المدرسين في ابتدائي وإعدادي، وما كنتش أعرف إن ده هايبقى طريقي وحياتي طول العمر".
يشير إسحق إلى بداية عمله مع والده في مجال البناء: "كنت بعتبر العزف على الناي والرسم مجرد هواية، كذلك تعلمت العزف على العود، واستغليت كل طاقتي في الألحان الكنسية والترانيم ورسم الأيقونات البسيطة وتأملات من خيالي، حتى جاءت الفرصة للسفر مع فنان يعمل في رسم الجداريات والأيقونات في الكنائس الجديدة والأديرة، فاصطحبني معه في أول رحلة".
يقول اسحق إنه عرف وقتها أن هذا هو مكانه ورسالته: "هذا هو طريقي الذي يجب أن أسلكه وأخلص له، بدأت أعلم نفسي الفرق بين الفن القبطي ورموزه الكثيرة وألوانه، وبين الفن الكلاسيكي الإيطالي، وبدأت مرحلة جديدة من التعليم، وعلى مدار 15 سنة تعلمت كثيراً ورسمت في عشرات الأديرة والكنائس مئات اللوحات والأسقف والجداريات، ولسه كل يوم بتعلم جديد".
يرى إسحق جورج أن الحفاظ على هوية الأيقونة القبطية وخصوصيتها هو ما جعلها تصمد وتستمر: "ده اللي خلى فنهم يعيش لغاية دلوقتي جوه الكنائس والأديرة، وأطفال كتير بتتعلم الرسم القبطي في ورش الكنائس في مصر ويتعلموا رموزه وقصص كل أيقونة"
هضم اسحق فنون الرسم القبطية مبكراً، رغم أن لوحاته تنضح بالتاثيرات الأوروبية، لكنه يحافظ على الألوان القبطية في الرسم الأبيض والأزرق والأحمر، مضافاً إليها التأثير الأوروبي الممثل في اللون الذهبي، يحاول الالتزام بالخطوط الواضحة والبسيطة والرموز التي تحملها اللوحات، مثل الهالات النورانية والصلبان القبطية القديمة، وأسماك البلطي النيلية التي كانت رمزاً سرياً بين المسيحيين المصريين وقت الاضطهاد الروماني ليعرفوا بعضهم بعضاً، "كان الرهبان والفنانون المسيحيون زمان ممكن يعرضوا حياتهم للخطر علشان خاطر أيقونة".
حسب كتاب "كيف تقرأ الأيقونة؟" للراهب إيليا الأنبا بولا، فإن "الأيقونة" كلمة يونانية تعنى صورة أو مثال لشخص أو حدث. ولا تعبر الأيقونة عن تاريخ معين بل يمكن جمع أكثر من حدث في تواریخ مختلفة في أيقونة واحدة، مثل أيقونة الميلاد التي تظهر فيها ثلاثة أحداث. (الميلاد – زيارة المجوس – زيارة الرعاة). كما يمكن رسم أيقونة تحوي شخصيات من عصور مختلفة، مثل العذراء مريم مع أشعياء النبي أو إيليا النبي. علاوة على ذلك فالأيقونة لا تخضع للأبعاد الثلاثية (طول وعرض وعمق)، لأن ذلك يعطيها تجسيداً بشرياً، فهي تخضع لبعدين فقط (طول وعرض)، وحكمة ذلك هو تجسيد الرؤية الحقيقية في الإيمان والرجاء. كما أن الأيقونة تسمى بالفن "الليتورجي"، وله أصول وقواعد يجب مراعاتها بدقة. ورسامو الأيقونة ملتزمون بمراعاة تلك الأمور، لكونها تعد تسليماً آبائياً موروثاً تحكمه العقيدة والطقوس الكنسية المتفق عليها، فلا يملكون إضافة أو حذف أو تغير أي رمز من رموزها.
ويرى إسحق أن الحفاظ على هوية الأيقونة القبطية وخصوصيتها هو ما جعلها تصمد وتستمر: "ده اللي خلى فنهم يعيش لغاية دلوقتي جوه الكنائس والأديرة، وأطفال كتير بتتعلم الرسم القبطي في ورش الكنائس في مصر ويتعلموا رموزه وقصص كل أيقونة".
ترتيب الأيقونات ثابت في كل الكنائس القبطية، لكنها تختلف قليلاً في الكنيسة الكاثوليكية، على اعتبار أن لكل طائفة قديسيها وشهداءها، لكن الكنيستين اتفقتا على موضع أيقونات المسيح والعذراء
سميرة لمعي، أستاذة مساعدة بمعهد الدراسات القبطية، تقول "إن الفن القبطي فن واقعي بسيط في موضوعاته، لكنه خلق لنفسه خصوصية برموزه وألوانه، يشبه إلى حد كبير الفن المصري القديم، بإضافات قبطية. على سبيل المثال لم يميز الفنان القبطي في رسم شكل الأشخاص. تجد كل الأيقونات متشابهة، فالوجه بالنسبة للمسيح والعذراء والقديسين يرسم وهو ينظر مباشرة للأمام، لا إلى الجانب حيث يرسم الأشرار. كذلك استخدم الفنان القبطي بُعدين فقط في الرسم (الطول والعرض) مثل المصري القديم. لأن طبيعة المسيح ثابتة، بينما لم يستخدم البعد الثالث لأنه متغير. وميز الفنان المسيح بالهالة النورانية وبداخلها صليب. وكذلك في ملابسه يرسم المسيح مرتدياً اللون البنفسجي لأنه لون مقتصر على الأباطرة والملوك فقط في ذلك العصر. والعذراء تلبس الأبيض رمز الطهارة والنقاء، أو الأزرق لون السماء لأنها "السماء الثانية" التي حملت المسيح، وترسم بملابس حمراء قرمزية أيضاً لأنها "الأم الملكة". أيضاً اعتمد الفنان القبطي في رسمه على التكرار والترتيب في الشكل والحركة في رسم المجاميع، تختلف فقط في الألوان. مثل أيقونة القديسة دميانة والعذارى الأربعين. وهناك الشفافية في الرسم، حيث نجد السمك يظهر في الماء. أو أقدام المسيح ويوحنا المعمدان في لوحة المعمودية. وهو فن رمزي تماماً في معناه، ولا يميل إلى التفاصيل. فنجد "الغصن الأخضر" في بعض أيقونات يشير إلى العذراء مريم، والحمامة هي الروح القدس.
وتشير لمعي إلى أماكن وضع الأيقونات في الكنائس، إذ لم يتم وضعها بصورة عشوائية، وتقول: "هناك أيقونات توضع في أماكن لا يتم تغيرها مثل أيقونة للسيد المسيح والعذراء مريم وأخرى للقديس يوحنا المعمدان توضع بجانب الهيكل، أما داخل صحن الكنيسة فتوضع أيقونات القديسين حسب دورة البخور التي تتم بالقداس وجرى الحفاظ على هذه الطقوس منذ العصور الأولى للمسيحية حتى الآن. وهناك أماكن مخصصة وطقوس توضع فيها الأيقونات وقت الصلوات، ويتم وضعها بناء على طقس القداس الذى يصلى وقتها. فنجد أيقونة البشارة بجانب الباب الرئيسي على اليمين وبجوارها أيقونة العذراء الملكة. فترتيب الأيقونات ثابت في كل الكنائس القبطية، لكنها تختلف قليلاً في الكنيسة الكاثوليكية، على اعتبار أن لكل طائفة قديسيها وشهداءها، لكن الكنيستين اتفقتا على موضع أيقونات المسيح والعذراء.
الفنان روفائيل جرجس: "فنان الأيقونات القبطية يختلف عن أي فنان آخر، فعدا معرفته برموز الألوان ومقاييس وأبعاد الرسم القبطي، لا بد أن يكون دارساً ومتعمقاً في اللاهوت ويفهم ما وراء القصة أو الرسم، وهذا لا يحدث إلا بالتقرب من الكنيسة والصلاة وخلق حالة وجدانية بين الفنان وما يقوم به"
الأيقونة أول الرؤية
روفائيل جرجس، من المنيا، فنان أيقونات فطري لم يدرس الفن الأكاديمي، لكنه تعلم رسم الأيقونات منذ الصغر، مثل غيره من الأطفال المسيحيين الموهوبين في الرسم، فأول ما يصادفه هو الأيقونات والصلبان والصور الدينية المنتشرة في البيت أمامه طوال الوقت، فارتبط بهذا الفن.
يقول روفائيل لرصيف22: "فنان الأيقونات القبطية يختلف عن أي فنان آخر، فعدا معرفته برموز الألوان ومقاييس وأبعاد الرسم القبطي، لا بد أن يكون دارساً ومتعمقاً في اللاهوت ويفهم ما وراء القصة أو الرسم، وهذا لا يحدث إلا بالتقرب من الكنيسة والصلاة وخلق حالة وجدانية بين الفنان وما يقوم به. وهذا ما حدث معي. فلقد استفدت من كل النواحي الروحية والفنية والنفسية في هذا العمل، ولا يهم المكسب المادي في ما أمارسه، لأنه ليس مجرد عمل، بل أسلوب حياة أنا اخترته".
روفائيل شارك في رسم وتجميل أكثر من 30 كنيسة ودير في مصر، في المنيا وبني سويف وأسيوط وسوهاج، ويقول إن الفن القبطي باق طالما وجدت الكنيسة والأقباط، ولا يمكن أن تتأثر بالتكنولوجيا أو التقدم والذكاء الاصطناعي، لا سيما مع محافظة بعض الفنانين المصريين على استخدام الألوان والأكاسيد من المواد الطبيعية بنفس طريقة الأجداد في الرسم، وهذا ما لا يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 5 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين