شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الفتاة التي أُعجبت بها قالت لي:

الفتاة التي أُعجبت بها قالت لي: "تفضّل عَمُّو"!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الجمعة 23 يونيو 202312:12 م

أنا أصغر إخوتي، ولم أتزوج حتى الآن. عدد أولاد أخي وأخواتي 19، أكبرهم عمره 42 سنةً، وأصغرهم 16 سنةً، وأنا معتاد على سماع كلمة عَمُّو وخالو منذ طفولتي، بالإضافة إلى أن بعض أصدقاء أبناء أخي وأخواتي ينادونني عَمُّو وخالو، كنوع من الاحترام. لذلك لم تكن تزعجني كلمة عمُّو أو خالو في حال سمعتها من أشخاص أصغر مني بخمس سنوات أو أقل، إلى أن جاء اليوم الذي دخلت فيه عيادة أحد الأطباء ورأيت السكرتيرة التي بدت في الـ27 من عمرها. يومها كنت قد تجاوزت الأربعين بأشهر.

خلال سنواتي الأربعين، لم أصادف وجهاً لوجه سوى عدد قليل من الفتيات اللواتي يمتلكن مثل هذا الجمال الذي يجعلني أشعر بالارتباك ويجعل قلبي يخفق بشدة. كان جمالها يشبه الحقائق العلمية التي لا مجال للشكّ فيها، بل كان مثل كل الحقائق على كوكب الأرض. النار تحرق من يلمسها؛ من يجرؤ أن يشك في هذه الحقيقة أو يدحضها؟

مرتبكاً، وبقلبٍ يخفق بشدة، اقتربت من تلك الجميلة وسلمت عليها قائلاً: "الدكتور موجود؟"، مبتسمةً ردّت: "إي موجود". ثم سألتني عن اسمي وعمري، وإنْ كانت هذه أول زيارة لي وما شابه هذه الأسئلة... بعد أن أخذت كل المعلومات اللازمة، قالت: "تفضّل استريح ع الكرسي بس يجي دورك بخبرك"، ثم انشغلت بترتيب بعض الأوراق أمامها.

تجاهلت كلامها، وبقيت واقفاً مكاني مردداً بيني وبين نفسي: "شو هالجمال هاد". ولحظة أنهيت هذه الجملة، تلاقت نظراتنا مع بعضها، فابتسمتُ لها، وابتسمت لي وقالت: "تفضّل عَمُّو استريح ع الكرسي، لسا بكير ليجي دورك".

خلال سنواتي الأربعين، لم أصادف وجهاً لوجه سوى عدد قليل من الفتيات اللواتي يمتلكن مثل هذا الجمال الذي يجعلني أشعر بالارتباك ويجعل قلبي يخفق بشدة. كان جمالها يشبه الحقائق العلمية التي لا مجال للشكّ فيها

الرفض العاطفي

عَمُّو! ردّدتُ تلك الكلمة في داخلي مرات عدة وأنا أتجه إلى خارج العيادة بدل الجلوس على الكرسي. أحسستُ أنني أسقط من علوٍّ شاهق، وبدأت الأفكار المزعجة تزدحم في داخلي. أشعلت سيجارةً، ورحت أمشي في الشوارع محاولاً أن أجد إجابةً عن سؤالٍ قاسٍ ومؤلمٍ طرحته على نفسي، وهو: لماذا أزعجتني، ولأول مرة في حياتي، كلمة عَمُّو؟

أول جواب خطر ببالي هو: لأنني كنت معجباً وبشدة بتلك الفتاة، بينما هي لم تكن مهتمةً بي، وتعاملت معي على أساس أنني عَمُّو، بمعنى آخر هناك فتاة رفضتني وبشكل قاطع قبل أن تسمع مني أي كلمة إعجاب!

الرفض العاطفي الذي تعرّضت له قد يراه البعض عادياً، ولا يُعدّ صدمةً عاطفيةً، لكن بالنسبة لي، أنا الذي أبحث عن الحب وأرغب في الزواج والإنجاب، يُعدّ صدمةً وخيبة أمل.

على صعيد آخر، جعلني هذا الرفض أشعر بأن قيمة الذات لديّ قد تعرضت لصفعة قوية، رافقها شعور بالوحدة والإحباط والفراغ العاطفي وضيق في النفس وتسارع في ضربات القلب، وبدأ جهازي النفسي، بشقّيه العقلي والعاطفي، يفقد السيطرة والقدرة على ضبط انفعالاتي وقلقي ومخاوفي المتعلقة بالحياة والموت والأمان والطمأنينة.

في ظل هذا التوتر والقلق، انتبهت إلى أن حجم الانزعاج والقلق والتوتر في داخلي لا يمكن للرفض وحده أن يجعله هائلاً إلى هذه الدرجة، فأنا قد تعرّضت في ما مضى للرفض مرات عدة، ولم أشعر بهذا الكم الهائل من المشاعر السلبية البشعة.

هذا الانتباه جعلني أشعر بالتوتر والقلق أكثر، بالإضافة إلى الخوف... لماذا شعرت بالخوف؟ لأن السبب الذي جعلني قلقاً ومتوتراً كان مجهولاً وغامضاً بالنسبة لي.

أسئلة تحتاج إلى أجوبة صادقة

منذ أكثر من 15 سنة، وأنا أستخدم طريقةً لحل الضغوط والمشكلات النفسية الكبيرة التي تواجهني، ولأكون صادقاً، أحياناً كانت هذه الطريقة تنجح وتجعلني أصل إلى الحل، وأحياناً أخرى كانت تخفّف من تأثير هذه الضغوط والمشكلات عليّ إلى حد كبير. وبالطبع كانت تفشل في بعض الأحيان.

تعتمد هذه الطريقة على طرح أسئلة على نفسي والإجابة عنها بصدق ووضوح.

يومها، سألت وأجبت عن عشرات الأسئلة التي كان أهمها:

س1: هل أنت منزعج لأن كلمة عَمُّو أيقظت في لا وعيك قلقك الوجودي ومخاوفك المتعلقة بالحياة والموت؟

- حسناً، لا أظن ذلك لأنني في ما مضى ناقشت هذه الأمور طويلاً، ودارت بيني وبينها حروب عنيفة حققت فيها الكثير من الانتصارات.

س2: هل أنت واثق من أنك انتصرت كثيراً في هذه الحروب؟

- ربما لم تكن كلها انتصارات، لكن يمكنني القول إنني قمت بتفريغ تلك المخاوف من محتواها الانفعالي، ونقلتها من المكان الحارّ في جهازي النفسي إلى المكان البارد، وأصبح تأثيرها أقل مما كان عليه.

تصالحت أكثر مع فكرة أنني كبرت في العمر، وبدأت أقترب من الموت. وأصبح واضحاً بالنسبة لي أن كلمة عَمُّو وما شابهها، ليست سوى مؤثرات خارجية تعمل على إيقاظ بعض حالات القلق والتوتر والمشكلات النفسية الموجودة في داخلي

س3: هل يخيفك أن تكتشف أن حروبك ضد قلقك ومخاوفك لم تقضِ عليها بشكل نهائي؟

- نعم يخيفني وبشدة!

س4: ألا ترى أن انتصاراتك واهية، خاصةً بعد أن أقلقتك كلمة عَمُّو وأزعجتك؟

- ليس لدي جواب في الوقت الحالي عن هذا السؤال. للدقة أكثر أخاف في هذه اللحظات من أن أفكر في سؤال كهذا، ويرهقني أن أبحث عن جواب له.

س5: ألا تظن أنك كنت مغروراً وساذجاً حين عددت نفسك منتصراً في أكثر الأحيان، ولم تنتبه إلى أن الخصم خدعك وتظاهر بالهزيمة كي يهاجمك مرةً أخرى ومن مكان آخر؟

- لا أعرف. دعني أفكر قليلاً... حسناً لقد فكرت، وما زلت لا أعرف. لكنني لاحقاً سأفكر في الأمر أكثر.

ثم تتالت الأسئلة من هذا النوع، وكان السؤال ما قبل الأخير: ما الحل الذي تفكر فيه الآن؟ أجبت: لا أملك حلولاً سحريةً وسريعةً، لكنني سأراهن على الوقت كما أفعل عادةً عند التعرّض لأي ضغط نفسي من العيار الثقيل، فمن خلال تجربتي اكتشفت أن مرور الوقت سيجعل الصدمة أقل تأثيراً، وهذا بدوره سيسمح لجهازي النفسي بأن يتعافى بشكل تدريجي، وبعدها سأعلن الحرب على مخاوفي وقلقي، وسأنتبه إن كنت فعلاً قد هزمت الخصم قبل أن أقول لنفسي إني انتصرت بشكل مؤقت.

ملاحظة: الانتصار المؤقت شيء عظيم ورائع، لأن الاستسلام للضغوط النفسية يجعل الإنسان معطلاً وعاجزاً عن عيش حياته اليومية بشكل طبيعي.

بعد ذلك طرحت على نفسي السؤال الأخير: ماذا تريد أن تفعل الآن؟

- سأتصل ببعض الأصدقاء لنسهر ونسكر، لأن الإنسان يتعافى بوجود الأصدقاء.

بعد الذي حدث في عيادة الطبيب، أصبحت كلمة عَمُّو تزعجني، ولكن في الوقت الحالي وبعد تحليل وتفكير داما سنوات عدة، لم يعد لهذه الكلمة أثرٌ كما في السابق، بمعنى آخر لقد تصالحت أكثر مع فكرة أنني كبرت في العمر، وبدأت أقترب من الموت. وأصبح واضحاً بالنسبة لي أن كلمة عَمُّو وما شابهها من الكلمات والمواقف، ليست سوى مؤثرات خارجية تعمل على إيقاظ بعض حالات القلق والتوتر والمشكلات النفسية الموجودة مسبقاً في داخلي.

في الحقيقة، كل شيء حولي يقول إنني كبرت في العمر؛ جسدي الذي يأخذ وقتاً طويلاً ليتعافى من أي وعكة صحية، وأيضاً الشاب الذي دخل المقهى الذي أملكه مع حبيبته، وقال لي: هل تتذكّرني، أنا الذي كسرت لك واجهة المحل الزجاجية حين كنت طفلاً ألعب كرة القدم أمام المقهى؟ وأيضاً الشاب في باص النقل الداخلي الذي قام من مقعده ودعاني إلى الجلوس مكانه، وأيضاً... وأيضاً...

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard