شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
في حياتي رجالٌ لا يعرفون الحب

في حياتي رجالٌ لا يعرفون الحب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء نحن والتنوّع

الاثنين 19 يونيو 202312:22 م

خلال أيام طفولتي، كنتُ محاطةً برجال وسيمين وأقوياء، ولهم حضور ووقع في حياتي الصغيرة والمحدودة بين عائلة أبي وعائلة أمي، والتي كان لذكورها الأثر الأكبر في تشكيل شخصيتي. كنت "مدللة" العائلة زمناً طويلاً، وكان أخوالي، على اختلاف شخصياتهم، متفقين على حُبي. أذكر حتى اليوم مئات المرات التي ذهبنا فيها معاً للدكان وحملت كل ما أشتهي، وكيف كنت أعود حملاً على الأكتاف، ولطالما شاركت معهم في أحاديث الكبار، وكنت أرى نظرة فخر في كلّ خطوة خلال طفولتي من جدّي، والذي ترك الأثر الأكبر في رؤيتي للحياة. لم أجد شخصاً حنوناً حتى بملامحه مثله.

جدّي إمام مسجد وله صوت عذب وشعر أبيض بالكامل منذ كان أربعينياً. خلال مراهقتي وعندما بدأت كأي فتاة استخدم مساحيق التجميل، جاءه خبر من صديق عمره وجاره بأن بنتاً من منزله تضع "الماسكارا" خلال ذهابها للمدرسة. قلقت حينها من ردة فعله ومن أن يغيّر رأيه بي، إلا أنه أجابه مسرعاً: "وأنت كيف استطعت أن تعرف لو لم تركّز كثيراً في عيونها؟". حينها حُسم الأمر لصالحي، وكذلك الأمر عشرات المرات تلتها، لم أكن مراهقة كما المفروض، ولم  انتظر بركات المجتمع ورضاه، رغم حساسية وضع العائلة واسمها والخوف من أن توصم بناتها بأنهنّ خارجات عن العرف والمألوف، ورغم عيشي في قرية محافظة على أطراف مدينة دمشق، عشت بالطول والعرض كما يقولون.

جدّي إمام مسجد، وعندما بدأت استخدم مساحيق التجميل، جاءه خبر بأن بنتاً من منزله تضع "الماسكارا"، إلا أنه أجابه مسرعاً: "وأنت كيف استطعت أن تعرف لو لم تركّز كثيراً في عيونها؟"

إلى الآن جميلٌ ما ذكرت. إلا أن أحداً منهم لم يكن يحبني، ففي انعكاس الصورة وبخط مواز للحقيقة، كانوا يعاملوني على أنني "ذكر" أو بألف "ذكر"، أي أنهم يحبون صورة في خيالهم، هيَ لست أنا. صورة صبيّ، فأنا  بالفعل ساعدتهم في البناء، جبلت الباطون، وحملت "البلوك" وتدرّبت على عدد لا بأس به من الأسلحة. لا ألومهم، فهذه طريقتهم في تحمّل أنّي لست مثل شقيقتي على الأقل، وبهذه الطريقة فقط وجدوا توازناً بين تمرّدي حينها والحصار الاجتماعي الذي فُرض عليهم وفرضوه على نساء العائلة، واستطاعوا تقبّلي لكن بطريقتهم.

*****

أما أبي فكان يخاف الحبّ، أرى عروق رقبته نافرة كلّما اقتربت منه لأقبّله، كان ينفرُ من الحنيّة تحديداً، يريد أن يبقى دائماً متمترساً خلف رجولته وملامحه القويّة. سرقت منه لحظات حبّ عنوةً، واعترافات بأني ابنته المفضلة حتى على أخي الوحيد "الذكر". أتعبني وأنا ألاحقه ليحكي، فلطالما لم تعنِ لي شيئاً كل النظرات والتلميحات والمواقف إن لم تكن مترافقة مع سيل من الكلمات لتشرح وتعبّر عن الشعور بشكل واضح. أحبّ أن أسمع الحبّ، لكن أبي كان صامتاً، ذكياً، لماحاً، وخفيف الظل، لكنّه احتمى بالصمت جلّ حياته، لذا أيضاً أبي لم يكن يعرف الحب، فالحب فعلٌ وقولٌ واحتواء.

*****

في السادسة عشرة بدأت علاقات الحب تتعدّى مقاعد الدراسة، والرسائل الخجولة بعد انتهاء الدوام، وأصبحت أكثر جديّة، فهناك شابّ وفتاة، وعلى مدار عمري كاملاً، كنت أميل لمن أرَى فيه بعضاً من صفات أبي أو جدي، دون تفكير أو تخطيط. كانوا يظهرون وحدهم ودون عناء، وكان يكفيني بعضٌ من خصال المذكورَين لأحبّ أحداً ما، إلا أنهم جميعاً دون استثناء ظننت أنهم أحبوني، فأحدهم أحبّ الاهتمام الذي أمنحه ضمن العلاقة، والآخر كان يبارز بموهبتي في إدارة الحوار وترويض الأحاديث أينما كنّا، وآخر كان الجنس مجال حدود رؤيته، وبالطبع الكرم والقوّة والاستقلاليةّ جميعها أسباب، هذا لا يعني أني لست جميلة أو أن روحي فقط تسيطر على شخصيتي، أبداً، فلقد سمعت غزلاً  وضحكنا ضحك طفلين معاً، وتبادلنا الهدايا والأغاني، لكنيّ وفي قرارة نفسي كنت أعرف أنّ هذا ليس حبّاً، كلّ ما مضى ليس حبّاً.

أصبحت لديّ قناعة متجذرّة بأنّ المنع والرفض والتقويم، وجمل من قبيل "أخاف عليكِ" و"لأجل مصلحتكِ" ليست اهتماماً أو حباً بشكل حتميّ، جميعها خطوات أولى ولبنات لبناء سور من العنف النفسيّ بالدرجة الأولى

تعمقّت في قراءتي حول الحب ومعناه. قال لي صديق يوماً نقلاً عن أحد الفلاسفة إن الحب هو تحقيق الذات، حينها شعرتُ أني وجدت ضالّتي، فعندما تستطيع تحقيق ذاتك مع أحدهم هذا ما يسمّى حباً، أيُّ ذات، وليست بالضرورة الذات التي يتمناها هو أو يحبها هو أو يشتهيها هو. ذاتك أنتِ تتحقق مع شخص آخر وبناءً على رغبتكِ وحدك، دون سلطة أو سطوة، حتى تلك التي يعتبرها الشريك/ة حباً، وأصبحت لديّ قناعة متجذرّة بأنّ المنع والرفض والتقويم، وجمل من قبيل "أخاف عليكِ" و"لأجل مصلحتك" ليست اهتماماً أو حباً بشكل حتميّ، جميعها خطوات أولى ولبنات لبناء سور من العنف النفسيّ بالدرجة الأولى، وغالباً ما يتطور إلى عنفٍ جسديّ وقتل بذريعة الحب، فنحن أيضاً تربينا وعششت في ذاكرتنا الجمعية بأن من الحب ما قتل، رغم أن قصة المقولة والتي كان بطلها المزعوم الشاعر عبد الملك الأصمعي، قتل فيها العاشق نفسَه لعدم مقدرته على كتمان حبّه أو الوصول إلى محبوبته، ورغم عدم أصالة الرواية ونسبها لكنّ أثرها العنيف مازال يحكمنا إلى يومنا هذا.

*****

لم أقتنع يوماً أيضاً بأغاني جيلي التي تتحدث عن الحب، جميعها مشروطة، ومعظمها مليئة بالتهديد من الهجر والترك وخوف "الذكر" من الرفض، وانتهاء الحياة عند قدمي المحبوب، لذا سمعت أم كلثوم عندما قالت "هجرتك" و "العيب فيكم يا ف حبايبكم" وكذلك محمد منير عندما قال "وده حب إيه من غير أيّ حرية"، و أيضاً لا بدّ للحب أن يكون حريّة، أن تكون القيمة الأسمى، يأتي بعدها الاحترام والحنيّة والعطف والقسوة  والغضب إن لزم الأمر، جميعها جزء من الذات التي يجب أن يحققها الحب، إضافة إلى الفرح، الكثير من الفرح غير المعلّب بمشاوير محدّدة وإغداق ماديّ ومكانة علمية أو اجتماعية، الفرح الصافي، الذي لخصّه الفنان المصري صلاح العبد الله عندما قال:

أجمل حاجه بجد فيكي مش عينيكي

ولا ثغرك ولا شعرك ولا عودك

أجمل حاجه بجد فيكي إني بفرح

لما أشوفك، إني برتاح في وجودك

وعليه، ومع استخدامنا لمصطلح الحب مع أطفالنا وأصدقائنا وعملنا والحياة بشكل عام، لا بدّ لنا من تعريف واضح للحب، والتصريح به، وإخبار كل هذا المحيط عن منظورنا واحتياجاتنا من الحب، الحب الذي أظنّ أنيّ وجدته إلى حين، ومضات وساعات كالخيال لا شيء يوحي بأنها موجودة أو ملموسة، إلّا أن القلب دليل، لكنّه انتهى، لم أسقط عنه أنّه حبّ بمفهومي الصحيح، إلا أنني لم أمت وفي قلبي سؤال عن ما إذا كان موجوداً، كنت بحاجة إلى دليل أن هذا الحبّ موجود، وإنّ من كان في حياتي رجال لا يعرفون الحب.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard