مثل سائر المدن السودانية الأخرى التي وفد إليها الناجون من الحرب المستعرة في قلب العاصمة الخرطوم ومدن سودانية أخرى، بين الجيش وميليشيا قوات الدعم السريع، فتحت مدينة القضارف في شرق البلاد، قلبها وبيوتها واستقبلت الفارّين من الموت والنهب وويلات الحرب العبثية وجحيمها.
بدت المدينة مثل خلية طنّانة الأواصر، وانفتحت على مبادرات أهلية عديدة ومختلفة لإسكان القادمين إليها، أو أولئك العابرين نحو دولة إثيوبيا المجاورة، وإكرامهم. مثقفو المدينة التقطوا اللحظة فوراً، وأقاموا سلسلةً من الندوات تحت وسم "نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلاً"، رفضاً للحرب ومقاومةً لتأجيجها وتمددها، وبادر منتدى "شروق" العريق إلى تنظيم الفعاليات وسط حضور أسبوعي بارز وطاغٍ ومتنوع.
تحتفظ الذاكرة السودانية بمرارات فظيعة لمجاعات طاحنة بسبب الحروب السودانية الصفرية التي أكلت الأخضر واليابس
سودان ما بعد الحرب
يؤمن عضو منتدى "شروق"، الناشط حسن شاشوك، بأن الحرب ستنتهي، ولا بد من التحضر مبكراً لدرء آثارها ومعالجة السبل التي أدت إلى اشتعالها، بجدية أكثر. ويقول لرصيف22: "أنشأنا السلسلة كدور لـ'شروق' في رفض الحرب و'ملشنة' الصراع، وكسراً لمركزية الفعل الثقافي والاستفادة القصوى من القادمين من الخرطوم من شعراء وتشكيليين وعلماء اجتماع، مع جمعهم مع عناصر محلية لتلاقح الرؤى والأفكار، لبناء سودان ما بعد الحرب، على ميكانيزمات الواقع والكامن من تنوّع اجتماعي، والتهيؤ التاريخي للسودانيين".
من جانبه، يُرجع الباحث راشد بخيت، الحرب الحالية إلى خطأ مزمن في هيكل الدولة السودانية منذ الاستقلال، بتغييب فرص العدالة واحتكار الثروة والسلطة وهي مشكلات بديهية ومكررة. ويؤكد في الورقة التي كانت بادرةً للسلسلة، وعنوانها "سودان ما بعد الحرب"، أن سودان ما قبل الحرب يلزمه سودان آخر بعد الحرب، وهو السودان الذي قاد إلى حتمية الحرب المعيشة الآن في مركز الدولة، الخرطوم، وهي حرب ليست جديدةً، كما يصفها، ولها مسوغاتها التاريخية والتنموية والاجتماعية. ويؤكد بخيت في مداخلة مع رصيف22، أنه ليست هناك إعادة هيكلة لجهاز الدولة في البلاد، ولا مراجعة لتغيير طبيعته كي يكون فعالاً في حل المشكلات. ويضيف: "هناك غياب تام لمنطق الحدث نفسه، وغياب للصيرورة التاريخية، ما قاد إلى الحرب الذي كشف اندلاعها غياب جهاز الدولة نفسه وبالكامل، وهو أيضاً ما وضع المواطن أمام تدبير شؤونه ذاتياً، بعيداً عن أي عون، أو فليذهب إلى الجحيم".
ويجابه بخيت أسئلةً حارقةً عن مدة الحرب، وتاريخ انتهائها، واختبار قوة الطرفين وصمودهما في ميدان القتال، والمصلحة في استمرار الحرب، وهل بيدهما الآن قرار الحرب أم صار بين أيدي أطراف جديدة إقليمية ودولية، وكيفية صمود الشعب السوداني ومدى تكيفه مع الحرب، وما إذا الإجابة تكمن في التنازل عن الامتيازات لصالح هيكلة جهاز الدولة القديم والمختطف لصالح مجموع أكبر، والإرادة الكافية والحركة نحو ضرورة الوعي بالمظالم التاريخية لدولة ما بعد الاستعمار: التهميش والإقصاء والتجاوزات الممنهجة وتنميط الهوية. ويقرر أنه بعد ثلاث محاولات فاشلة لغزو الخرطوم، نجحت المحاولة الرابعة وها هي الحرب تدور.
وحول الممكنات التاريخية وتهيؤ السودانيين لواقع ما بعد الحرب، يكشف بخيت عن معادلتين ذاتَي ثقل تاريخي توازنان المسألة: الحرب الأهلية الشاملة والعودة إلى شكل ما قبل الدولة الحديثة وعودة الدويلات السابقة لما يعرف بالاستعمار التركي المصري في 1821، في مقابل وعي النخبة بمسؤولياتها، ولو لمرة واحدة، والوعي بالألم الذي تسببه الحرب، راجياً ألا يخسر السودانيون الفضاء المدني بكل محمولاته السياسية والثقافية والاجتماعية أمام عسكرة الدولة وإطالة الزمن في توحيد رؤى المدنيين والحوار بذهن مفتوح برغم الجحيم والضيق في العيش.
الفن والثورة
يذهب الفنان التشكيلي عبد الله محمد الطيب، في الندوة التي قدّمها ضمن السلسلة بعنوان "الفن التشكيلي والثورة"، إلى أن التشكيل كان عماد ثورة كانون الأول/ ديسمبر، التي فرشت لها الفنون متعاضدةً أرضيةً صلبةً في الشعر والغناء والمسرح. ويرى الطيب أن هناك ظلالاً دينيةً مغلوطةً سقطت على الفن وحجبته عن المجتمع، إذ كيف تخلصت قوى سلفية من منحوتات تمثّل شهداء ثورة تشرين الأول/ أكتوبر، من مدخل جامعة الخرطوم، وربما ألقي بها في النيل؟ بالإضافة إلى التخلص الممنهج من جداريات اعتصام الثورة أمام قيادة الجيش بعد الفض. ويسوق محمد الطيب مثلاً المنمنمات الأموية والفاطمية فائقة الدقة والجمال التي تزوّق جدران المساجد في مصر، داحضاً الرؤى الوثوقية المتشددة التي اعتملت مؤخراً حيال فن النحت خاصةً، ما راكم جهلاً بأهمية ودور النحت والتشكيل، ومتسائلاً، في الوقت نفسه، عن مصدرها. وقدّم محمد الطيب معرضاً مصاحباً من لوحاته الخاصة بعد الندوة عبر تقنية "البروجكتور"، أثمر عن فرجة واهتمام وعن حوار فاعل ونقاش مستفيض بين جمهور الحضور الذي أثار سؤال مصير الثورة نفسها في أثناء الحرب وبعدها.
ويجادل الصحافي جعفر خضر، في أن الثورة مستمرة ولن توقفها الحرب التي تمثل حشرجة موت السودان القديم الذي يتشبث عساكره بالسلطة، مثلما يتشبث الأطفال بلعبتهم المفضلة، وهم يختلفون عن الأطفال لافتقارهم إلى البراءة. يقول خضر لرصيف22: "ما بعد الحرب سنخطو بوضوح نحو وضع أسس الدولة المدنية". ويضيف: "نزح كثيرون بسبب الحرب، وهم ليسوا أرقاماً ترد في نشرات الأخبار، وإنما أشخاص فاعلون لهم مشاريع وأمل وطموح، وهم مبدعون اضطرتهم البنادق إلى تغيير الطريق لا الوجهة، فالوجهة دائماً وأبداً هي الدولة التي تحفظ حياة الإنسان وكرامته". ويؤكد أنه في الوقت الذي تحصد فيه الحرب الأرواح وتمارس فيه الميليشيا الاغتصاب والنهب وتدمير المتاحف والمكتبات ومراكز البحوث، يقدّم منتدى "شروق" والناجون في القضارف، المعرفة والفن والإبداع في تحدٍ وانتصار عنيدين للحياة.
تخلصت القوى السلفية من منحوتات شهداء ثورة تشرين الأول/ أكتوبر، لكن الأخطر أنها شيطنت الفن في عقول السودانيين
شبح المجاعة يتجول
تتوافر الذاكرة السودانية الجمعية على مرارات فظيعة لمجاعات طاحنة بسبب الحرب، فالحروب السودانية صفرية، تأكل الأخضر واليابس. ففي مجاعة "سنة ستة"، كما تُعرف محلياً و"توافق العام 1888"، اضطر الناس إلى طبخ العظام والجلود، والبعض ممن لم يجدوا شيئاً سوّروا منازلهم عليهم وقضوا جوعاً، في ظاهرة عُرفت بـ"التطويب"، والمجاعة تسببت فيها حروب الدولة المهدية.
واليوم تحذّر الأمم المتحدة من أن نصف سكان السودان بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة لم تصل أبداً. ويخشى السودانيون من المجاعة بسبب إطالة أمد الحرب الدائرة وبسبب سرقة الإعانات التي لم توزَّع على نحو أكثر من 10 ملايين نازح برغم الإعلان عن هدنات لمساعدة المدنيين.
وتمثل عملية الفلاحة لدى السوداني ثقافةً كاملةً تشكّل وعيه الوجودي ومدى التصاقه بالأرض، خصوصاً في ولاية القضارف التي تمتاز بتربة طينية سوداء عالية الخصوبة، وتهطل فيها أمطار بمتوسط 900 مليمتر في العام، حيث تؤّمن المنطقة نحو 40% من الحبوب في السودان، وهي من أكثر الولايات استقراراً أمنياً، بحسب الباحث عادل عركي، لذا يُعوّل عليها كثيراً في ظل الحرب لتكون المخرج للأمن الغذائي للسودان. يقول عركي لرصيف22: "معروف تاريخياً أن مشروعات الزراعة الآلية في القضارف كانت تمدّ جيوش الحلفاء بالمنتجات الزراعية المتنوعة، وكذلك إبان فترة المهدية، وكانت المخرج الوحيد لمجاعة 'سنة ستة' الشهيرة". ويضيف: "في ظل الحرب تنعدم مدخلات الإنتاج من وقود وزيوت وشحوم وأسمدة ومبيدات، وستعاني الزراعة من شح التمويل وانعدام السيولة والعمالة الوافدة من كردفان ودارفور".
ويصف الباحث عادل عركي في المحاضرة التي أقامها ضمن سلسلة "شروق"، كبار المزارعين بأنهم عالة على الاقتصاد السوداني، بإنتاجية متدنية وتمويل عالٍ في مقابل صغار المزارعين بإنتاج عشرين ضعفاً للفدان الواحد ومن دون تمويل، داعياً إلى الاهتمام بتمويلهم للحيلولة دون وقوع مجاعة بسبب الحرب. وحذّر عركي في الورقة التي عنونها "فرص الزراعة في ظل الحرب"، من شح العمالة الزراعية ونقص المدخلات واقترح إدخال تقنيات حديثة وعاجلة لإنقاذ الموسم الزراعي وإنقاذ السودان من شبح المجاعة الذي بدأ يتجوّل.
ويقول لرصيف22: "إذا نجح الموسم الزراعي ستعاني الولاية من شح مواعين التخزين وانعدام التسويق". ويوصي المزارعين بالاهتمام بزيادة إنتاجية الفدان وتقليل الرقعة الزراعية باستخدام حزمة من التقنيات، منها التبذير الجيد والمواقيت الزراعية والحراثة العميقة لتفتيت صلابة التربة والعمل بالإرشاد الزراعي لضمان إنتاج وفير، خاصةً أن جميع ولايات السودان تعوّل على القضارف كثيراً لتُخرجها من شبح المجاعة الذي يهدد كثيرين من مواطني السودان إذا استمرت الحرب، خاصةً في مناطق دارفور".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين