"لن أتحدث معك إلاّ بلغتي"؛ ماذا لو قيلتْ لك هذه الجملة؟ ماذا ستكون ردّة فعلك؟ في الواقع، علينا أن نتوقع أيّ شيء في زمنٍ يتزايد فيه منسوب العنصريّة والشّعبوية والخطابات المتطرّفة؛ لكن ماذا لو كان الأمر غير مدفوع بجرعات العنصرية وإنما بتصرف "عفوي" نابع من شخص محبّ حد الجنون للغته الأم؟
لكن، هل التعلق باللغة الأم، إلى درجة لا تقبل التفاوض، عنصرية؟ ربّما قد يحدث هذا عِند بعض الأمازيغ في جنوب شرق المغرب، فهل نعدّ أيضاً هذا التصرف "العفويّ" عنصريةً حقاً؟ هل الأمازيغ في هوامش المغرب متعصّبون فعلاً كما يمكن أن نسمع عنهم عند خصومهم التقليديين من الذين آمنوا بفكرة "القومية العربية"؟
سعيد: لم نرضَ بتاريخ "التعريب"
لا تتحوّل الدماء إلى ماء عند سعيد (28 سنةً)، وهو ناشط أمازيغي، إذ يرى أن "علاقة الأمازيغي بالدم والتراب، ما زالت تعاند الحصار، وتعاند هذه التّحولات القِيميّة التي تحدث في العالم. من يسمع هذا سيعتقد أنه انشداد إلى الماضي، لكنه لا يعكس سوى نداء عالٍ في إطار ما يُعرف بـ'الأمن الثّقافي'. الحداثة لا تقتل أي لغة إلا إذا اغتالها أهلها وفرّطوا في قيمتها وأهميتها الأنثروبولوجيّة والسوسيولوجية والسيميولوجية. لا أحد منّا رأى الواقع بمعزل عن امتدادات اللّغة". وهنا يستطرد سعيد: "وبرغم ذلك، هناك تساؤلات عدة حول هذه الطريقة التي تكاد تنحسر بها اللغة الأمازيغية اليوم. ولا ننسى طبعاً، أنّ التاريخ القومي للأمازيغ خضع لتزييف مروع".
حين تحدث سعيد إلينا، أصرّ على ألا يذهب بعيداً، وارتأى ذكر نموذج القبائل الأمازيغية التي قاتلت الاستعمارَين الفرنسي والإسباني لتحرير المغرب، و"مباشرةً بعد استقلال المغرب تمّ طمس هوية الأمازيغ سياسياً من خلال إعلان اللغة العربية لغةً رسميةً، كما رُفع حينها شعار القومية ليستمرّ في تحجيم تراث المغاربة. هذا التاريخ المتعسف ليس مُرضياً لأيّ أمازيغي. ومنذ ذلك الحين والنضال الأمازيغي لا يهدأ حتى اليوم، بما معناه أنّ السياسة اللغوية المغربية تعرّضت للتلف بسبب الحساسيات السياسية التي كانت تستبطن ضغينةً ما تجاه الثقافة الأمازيغية".
واليوم، يقول محدثنا: "حزب الاستقلال (أكبر الأحزاب المغربية تاريخياً)، دجَّن موقفه العنيف تجاه الأمازيغية، وصار من أكثر المدافعين عنها. يعني، من يعتقد أن الأمازيغ بدفاعهم عن هويتهم عنصريون، فهو يصرِّف موقفاً خارج التاريخ. نعم، حين أكون في بلدتي تنغير، لا أسمع سوى الأمازيغية، وهذا يشعرني بالاستقرار، لكن في الوقت ذاته نتخوف من أن تصبح لغات أخرى منتعشةً بالقدر نفسه في هذه المناطق الأمازيغية التقليدية. الرأسمال الرمزي هنا هو الأمازيغية ونحب أن نعلّمها للضيوف الذين يرغبون في ذلك".
لا إشكال بالنسبة لسعيد في التحدث بلغات أخرى مع من لا يتحدثون الأمازيغية، فهم يتواصلون بالدارجة أيضاً في معيشتهم اليومية، و"هذا يعكس الغنى والتنوع فينا كمغاربة"، على حدّ تعبيره. ثم يمضي قائلاً: "نحن نريد أن يتعلم الآخرون لغتنا، لذا يمكن أن نتواصل معهم عبر لغتهم لنصحح لهم كل المغالطات عنا، وهكذا يمكن أن نحبب إليهم ثقافتنا ولغتنا، أما أن نرفض التواصل معهم بغير الأمازيغية فهذا شيء لا يحضر إلا عند قلة قليلة منّا".
ماذا عن المتحدث بلغة غير الأمازيغية؛ لماذا يصرّ ضمنياً على أن يجعل ثقافتي ولغتي بياضاً، ويعدّني المُطالَب حصراً بالحديث بلغته؟
حسب سعيد، المشكلة ليست مع المجتمع، أو مع المغربي الذي لا يتحدث لغتنا ولكن يقاسمنا المصير نفسه والأهواء والرغبات والأحلام ذاتها، بل مع الدولة التي خانت معظم وعودها. وهذا الضعف الذي تعيشه اللغة الأمازيغية في الفضاء العام، وفي السياسات العمومية، نتيجة حتمية للوتيرة المتأخرة في تطبيق الطابع الرسمي للأمازيغية (الذي أتى به دستور 2011). نجد الآن عائلات أمازيغيةً بينها أبناء لا يتحدثون سوى العربية، وذلك لأن السياقات المجتمعية في بعض المناطق لا تشجّع على التحدث بلغة الأجداد.
ويختم سعيد: "الأمازيغيّ والحال هذه يكون مطالباً بالتأقلم مع السياق الجديد، بينما حين نطلب من الزائر أن يتأقلم مع لغتنا، يرون ذلك عنصريةً وعنجهيةً، مع أننا لا نطلب ذلك كرهاً، أو نرغم أحداً على تعلّم لغتنا، لكن نحاول إدماجه لكي نتجاوز حدود اللغة. البعض يرون في ذلك عنصريةً، مع أنني لا أعرف المعايير التي يفكر بها هذا العالم".
لحسن: نحصّن لغتنا الأمازيغية فحسب
لا يتحرج لحسن (25 سنةً)، في الاعتراف بأنه يفضّل أن يتحدث بالأمازيغية عوض أيّ لغة أخرى، وذلك لكونه يشعر بالانتماء، وفق قوله، قبل أن يضيف بلكنة أمازيغية مكسّرة: يطلبون مني التحدث بالعربية، لماذا سيكون عليّ أن أبذل ذلك الجهد حتى أظهر في لغة الآخر؟ ماذا عن المتحدث بلغة غير الأمازيغية؛ لماذا يصرّ ضمنياً على أن يجعل ثقافتي ولغتي بياضاً، ويعدّني المُطالَب حصراً بالحديث بلغته؟ نعم، أحياناً لا أتواصل إلا بالأمازيغية. هذا يعيق عملية التواصل، لكنني أحصّن ثقافتي ولغتي فقط، وأحفظها من الاندثار، فلا أجد معنى في أن تبقى لغتنا حبيسة العائلة و"القبيلة".
يقول لحسن، في تصريحه لرصيف22، إنّ من يعدُّ الأمازيغيّة لهجةً فقط ولا تستحقّ التعلم، هو الذي يصرف موقفاً إسقاطيّاً وعنصريّاً؛ بل يحاول أن يفكّ روابطنا النفسية بلغتنا، ويودّ ببساطة أن يحطّم حقنا في الانتماء. هو يقول لي من حيث المبدأ: إذا لم تتحدث العربية، أو الدارجة، فلا تواصل، وأنا أقول الأمر ذاته، بشكل غير معلن، من زاويتي. أودّ، كغيري، أن تغدو ثقافتي عنصراً حيوياً في مجمل تفاصيلي اليومية؛ وأودّ، بالتبعة، أن يتشرّب الكلّ هذه الثقافة. لا أنكر أي ثقافة أخرى، وأحترم كل الثقافات، وعدم إتقان المغاربة للأمازيغية، مشكلة تعليمية، وقبل ذلك كانت أيديولوجيةً.
إنّ من يعدُّ الأمازيغيّة لهجةً فقط ولا تستحقّ التعلم، هو الذي يصرّف موقفاً إسقاطيّاً وعنصريّاً؛ بل يحاول أن يفكّ روابطنا النفسية بلغتنا، ويودّ ببساطة أن يحطّم حقنا في الانتماء
يعتقد لحسن أنّ المعضلة تتجاوز الحدود اللغوية، بما أنّها دفاع عن استمرارية اللغة الأمازيغية. يقول: "لا مشكلة عندي مع اللغة العربية أو أي لغة أخرى، لكني أحبّ ذلك الإصرار على التحدث بلغتي. ليس ذنبي إن لم يعرف الطرف الآخر من العملية التواصلية لغتي، وليس ذنبي ألا أتحدث لغته بطلاقة. يوجد بالفعل مغاربة لا يعرفون سوى الأمازيغية فقط: هل يستقيم وصمهم أيضاً بالعنصرية؟ يبدو أن الوضع يكرس تمييزاً واضحاً ضدّ الأمازيغ في الفضاءات العامة، لنحصِ مثلاً عدد المسؤولين الذين يقدّمون تصريحات باللّغة الأمازيغية؛ هم نادرون جداً في وقت تُعدّ فيه الأمازيغية لغةً دستوريةً".
زهرة: حب الأمازيغية ليس عنصريةً
زهرة، ناشطة أمازيغية في الحركة الثقافية الأمازيغية داخل الكلية متعددة التخصصات في مدينة الراشيدية، وهي مدينة ذات غالبية أمازيغية اللسان، لا تعدّ "عدم التواصل بغير الأمازيغية عنصريةً، بقدر ما هي غيرة على ثقافة يحاولون إخصاءها وتخصيب غيرها من اللغات لكي تكون قدراً محتوماً في أفق كلّ المغاربة. نحن نعرف أنّ اللغة الأمازيغية تعرضت للاختطاف من قبل جماعات أيديولوجية وسياسية وتمّ الزج بها في متاهات تضرّ بالأمازيغية أكثر مما تخدمها. وبسبب المغالطات وسوء الفهم، ينعتوننا بـ"الشّوفينية"، برغم أنّ كلّ الأقليات العرقية في العالم تدافع عن حقوقها الإثنية والثقافية لكي تحظى بالاعتراف. المثير أننا في المغرب لسنا أقليةً، وشعارنا دائماً هو الوحدة في التنوع".
بيّنت المندوبية السامية للتخطيط (مؤسسة رسمية) في وقت سابق أن زهاء ربع سكان المغرب، هم فقط من يحافظون على التحدث بالأمازيغية
لا تنفي المتحدثة التي تتحدر من مدينة كلميمة الأمازيغية، خلال حديثها إلى رصيف22، أنّه "أحياناً، يحدث أن أطلب من شخص ما أن يتواصل معي بالأمازيغيّة، وألا يتواصل معي بغيرها. هذا جنون، لكنه عمل نفسي خالص، يمنحني شعوراً لا أريد أن أفلته. أشعر بأنني أتحدّث حروفاً تشبهني، وكلمات تعكسني وتحاكي كلّ ما يعتمل في داخلي". وتضيف زهرة: "الأمازيغية هي كلّ ما أعرف. ويؤلمني جداً هذا القياس الذي تمّ وضعه تعسفاً للّغة الأمازيغية في المعيشة اليومية للمغاربة. لقد صارت الأمازيغية مثلاً لغةً رسميةً وفق دستور 2011، إلى جانب اللغة العربية، وصرنا نرى حروف تيفيناغ في الواجهات والمباني واللافتات... إلخ. لكن حضورها في يوميات المغربيّ بشكل عام ما زالت متعثرةً".
تقول زهرة بحرقة واضحة في صوتها: "يُغضبنا أنّ الدولة المغربية أخلفت كل وعودها، وحتّى إدماج دروس اللغة الأمازيغية في المنظومة التربوية ظلّ يراوح مكانه، ولم يشهد تطوراً برغم كلّ الشعارات. هذا الوضع يهدّد لغتنا بالاندثار والتّلاشي، وهو ما يولّد لدينا ردة فعل انفعاليّةً، ليست دائماً نابعةً من تعقل وانضباط، لكنها تُرضينا؛ وهي ألا نتواصل بغير لغتنا. تموت اللغة حين تفقد المتحدثين الطبيعيين بها؛ فكيف استمرت هذه اللغة إلى اليوم وهي لا تدرَّس؟ ببساطة، لأن الأجداد خلقوا نسقاً تواصلياً لا يتمّ إلا عبرها. لكن اليوم، مع الإنترنت، الحمل علينا نحن الشباب.
ليس في الأمر إنكار للّغات الأخرى، حسب زهرة، وليست مسألةً متصلةً بالاعتقاد بالتفوق العرقي أو اللغوي، بل هي إستراتيجية حمائية فقط. لهذا تقول المتحدثة: "حين نحمل علم الأمازيغ فهذا ليس انفصالاً أو تجاوزاً لتمغربيت (الانتماء إلى المغرب)، أو القيم المغربية الأصيلة فينا، بل هو فقط تعبير عن عدم المساواة اللغويّة التي تحصل، والتهميش الممنهج الذي تتعرض له الأمازيغية بشهادة الخصوم أنفسهم. حتى المناطق الأكثر فقراً في المغرب، غالبيتها تقطنه عائلات أمازيغية. لسنا عنصريين، ولا نقول إن العربية مثلاً لا ينبغي أن تكون، كما يحبّ العربيّ لغته نحن نحب لغتنا، ونعدّ هذا التنوع أصل الهوية المفتوحة للذات المغربية.
لنذكّر، في النهاية، بأنّ المندوبية السامية للتخطيط بيّنت في وقت سابق أن زهاء ربع سكان المغرب، هم فقط من يحافظون على التحدث بالأمازيغية، لذلك عدّ الأمازيغ أنّ لغتهم الأمّ فقدت ثلثي الناطقين بها في الخمسين سنةً الأخيرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم