يتميز الوشم الأمازيغي (وهو اسم بولينيزي قديم أصله Tatou أو Tatahau، وهو أيضاً العياشة وتعني من يعطي الحياة، أو التُكاز باللغة الأمازيغية الحديثة)، بما له من بعدٍ سيموطيقي وأيقوني، فهو تراث يمثل الذاكرة المتصلة والمشتركة لأحد أعرق شعوب منطقة شمال إفريقيا عموماً، ومن ضمنها الجزائر، حيث يتوزع الأمازيغ اليوم على أكثر من عشرة بلدان إفريقية من المغرب العربي شمالاً، حتى جنوب الصحراء الكبرى عبر مصر والنيجر.
يعود استخدام الوشم لديهم إلى العصر الحجري الحديث، ويرتبط بالمعتقدات القديمة والعناصر الخارقة للطبيعة عند الأمازيغ البربر (الرجال الأحرار)، مع مؤثرات رومانية ومسيحية لاحقة. وطوال 1400 عام من دخول الإسلام، لم تُلغَ هذه الممارسة حتى النصف الثاني من القرن الماضي، وتحديداً سنة 1970، كما يقدّر المتخصصون في علم الاجتماع وعلماء الأنثروبولوجيا.
يعود استخدام الوشم لدى الامازيغ إلى العصر الحجري الحديث، ويرتبط بالمعتقدات القديمة والعناصر الخارقة للطبيعة عند البربر
"الرمز-الصورة"
ويبدو ذلك جلياً لدى المؤرخ والأنثروبولوجي المغربي عبد الكبير الخطيبي، في كتابه الشهير "الاسم العربي الجريح"، ترجمة محمد بنيس. فالوشم عنده هو "الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة"، و"علامة رمز-صورية"، على اعتبار الجسد فضاءً يحمل في ما وُشم عليه من رموز وكتابات ورسوم زخرفية لها خصوصيتها الدينية والثقافية وحتى السحرية، علاقة الفرد الأمازيغي بجماعته سواء أكانت أسرةً أو عشيرةً أو قبيلةً. وهي، أي الوشوم، بمثابة "تعبير جمالي صامت" و"لغة حرة" خارج نطاق الأرضي انتقالاً نحو السماوي.
كما يبدو ذلك جلياً أيضاً في كتاب آخر للفرنسية لوسيان بروس، التي قضت شطراً كبيراً من حياتها في الجزائر تعمل ممرضةً في مناطق القبائل، بعنوان "الجمال الأنثوي والهوية: الأوشام البربرية الأنثوية في منطقتَي بسكرة وتقرات"، جمعت فيه مئات الرسوم بمساعدة صديقتها إليان أوكري، واضعةً ما تسميها "دراسةً متواضعةً، وليست شاملةً ولا تاريخية ولا مقارنة"، كما تقول في مداخلة لموقع "Huffpost" خلال تقرير نُشر عبره عن كتابها في الثاني عشر من كانون الأول/ نوفمبر 2015.
الوشم كهوية وفتنة
في محاولة للبحث عن معاني تلك الوشوم ورموزها التي على أجساد النساء من كبار السنّ، كرموز للوضع الاجتماعي والانتماء الأسري، وكمصدر للفتنة والإغراء كـ"أنثى مكتملة"، ومدى ارتباطها بالطابع الاعتقادي والتصوري لعوالم الآلهة المؤنثة، يتبين أن الأمازيغ البربر قاموا بوشم جباههم وذقونهم وخدودهم وظهور أيديهم وأصداغهم، عن طريق استخدام أصباغ من مواد ذات أصل نباتي، أو من الفحم الممزوج بالماء والدم، وغالبية تلك الرسوم كانت بداية الأمر ذات بعد اجتماعي-ثقافي أكثر منه تجميلي-تزييني، يدلل على خصوصية عرقهم عن العرب تحديداً
فالوشم الذي يدل على ثقافة عرقية ثرية، هو شكل من أشكال التمرد لدى البربر الأمازيغ ضد الغزاة الفاتحين العرب. ففي تقليد القبائل يرتبط الصليب الموشوم عموماً على قدم الرجل الأمازيغي أو ذراعه، بالحرية، ويرمز إلى إرادة الشعب تحرير نفسه. وعند النساء يظهر الوشم ذاته على اليدين، ففي القرن السابع وخلال الحروب العربية الأمازيغية، قامت النساء بوشم أيديهن وكواحلهن، لتمثيل أسر أزواجهن وتقييدهم من قبل المسلمين.
وبالنظر إلى الوشم كفتنة، فهو أيضاً زينة وزخرفة مصممة لإبراز مفاتن المرأة وجماليات جسدها. وهنا، لا بد من الإشارة إلى الدلالة الجنسية للوشوم، وتحديداً الوشوم المرسومة في المناطق الحساسة، سواء على مستوى الفخذين أو بين الثديين أو أعلى المؤخرة، والتي تجعل المرأة أكثر إثارةً للشهوة ومرغوبةً أكثر على سرير الزوجية. بالإضافة إلى ذلك كله، يحمل الوشم فائدةً علاجيةً بالنسبة للأمازيغ، سواء ضد الصداع أو التهاب المفاصل، وهو طريقة لإبعاد الأرواح الشريرة سواء عن الطفل المولود أو عن أمه الحامل.
الوشم المحرم
لكن هذه الممارسة القديمة، قِدم وجود الأمازيغ في المنطقة، والتي لا تزال على أجساد الجدّات والأجداد اللواتي/ الذين برحيلهن/ م عن حياتنا ستغيب تماماً، تعرف اليوم اضمحلالاً وزوالاً منذ أواسط القرن الماضي، بسبب مؤثرات إسلامية تقوم على مبدأ التحريم المطلق كونها "تدنيساً للجسد" الذي "خلقه الله على أحسن تكوين"، ومحاولة بشرية لـ"تعديل صنعة الخالق".
التحريم الإسلامي يبدو جلياً من خلال ما يشير إليه "مسلم" في صحيحه، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود عن النبي محمد قوله: "لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله". من خلال النهي المقترن باللعن "بصيغته الصريحة"، ارتبط الوشم بالتدليس، ومشابهة الفاسقين والجهال، وإيذاء الجسد باستخدام الإبر وما تسببه من ألم، بالإضافة إلى كون الوشم "نجساً" لاختلاط الدم بالصبغ.
وبعيداً عن الدواعي الدينية المحرمة لهذه الظاهرة، هناك دواعٍ أكثر واقعيةً يأتي على رأسها "تغريب المجتمع"، وتأثّر الريف الأمازيغي بمخرجات الحضارة الحديثة، ووقوف الوشم كعائق أمام الاندماج في الحياة العامة في المدن، وفي المؤسسات الرسمية والجامعات ودخول الوظائف، والقوانين التي تمنعه.
بين "العياشة" و"العدسيات"
ذكرنا أن الوشم يُسمّى شعبياً بين القبائل بصفة عامة بـ"العياشة"، وهي عبارة عن ممارسة محددة، ضمن نطاق الأرياف باستخدام السخام (هباب الفحم)، وبألوان متعددة كالأزرق والأخضر. وتتم العملية عبر الوخز بالإبر من ضمن تفاصيل دقيقة تتطلب خبرةً عند الواشمة التي تروي المرويات الأسطورية الأمازيغية عن امتلاكها قدرات سحريةً خاصةً كالعلاج من الأمراض وحماية الموشوم من العين الحاسدة والشريرة وفك السحر.
تجلس الواشمة (التي تختار عادةً شكل الوشم)، على الأرض وأمامها الفتاة أو السيدة التي تريد وشمها، وحولهما سيدات القرية، ثم تقوم بتخطيط الشكل المطلوب رسمه على جسد الفتاة، مستعملةً الفحم الأسود ثم تعمل على وخز المكان بالإبر حتى يخرج الدم. بعد ذلك، تحكّ المنطقة بالسخام المحروق الذي يُترك لبعض الوقت، ليُرَشّ بالماء المملح وبأعشاب خاصة. بعد أسبوع من العملية الدقيقة، يتحول الجرح الملتئم إلى زخرفة جميلة لها دلالاتها الخاصة تتباهى بها الفتاة الموشومة، ويدعو الجميع للواشمة بالسعد والبركة.
يحمل الوشم فائدةً علاجيةً بالنسبة للأمازيغ، سواء ضد الصداع أو التهاب المفاصل، وهو طريقة لإبعاد الأرواح الشريرة عن الطفل المولود أو عن الحامل.
ثمة تصور آخر لانتشار الوشم بين قبائل الأمازيغ، يفيد بأن انتشاره بينهم كان على يد الواشمات البدويات "العدسيات"، وهن نساء ينتمين إلى مجموعات بدوية من الصحراء الجزائرية أو وهران أو تونس. عالمة الأنثربولوجيا الجزائرية ياسمين بنداس، تقول لموقع The Casbah Post، في تقرير منشور بعنوان "الوشم التقليدي في الجزائر: الأساطير والحقيقة"، إن "العدسيات" في التاسع عشر من شباط/ فبراير 2017، استبدلن خدمات الوشوم بمختلف المواد الغذائية أو المنتجات. وكانت الواحدة منهن تطرق الباب، وغالباً ما تقبل الطحين والبيض والأحذية بدلاً من المال مقابل خدماتها.
كانت ممارسة الرسم التقليدي للوشم قد اختفت مع نهاية هذا الشكل من التجارة، بالتزامن مع محو الأمية وانتشار الممارسات الدينية التي تحظر تعديل الجسم. في وصف البدو، لاحظ الأشخاص الذين تمت مقابلتهم أن العدسية تحدثت بالعربية، مما يفسر سبب كتابة أسماء الوشوم باللغة العربية وليس باللغة الشاوية. ولذلك فقد ساهم طرد السلطات الجزائرية للغجر ومطاردتهم في الحد من نشاط "العدسيات" مع مرور الزمن
من "عين الله" إلى النقطة
العديد من الرموز والزخارف المرسومة على أجساد أبناء الأمازيغ، تحمل دلالات وتشكل علامات لها ارتباطها العميق والموغل في القدم لديهم عقائدياً وثقافياً، وفلسفتهم الخاصة في الحياة، وأبرزها إشارة (+) وتعني عين الله، ولها معنى أكثر شاعريةً، فهي بمثابة النجم الذي يُرشد الإنسان إلى نور الله، والبحث الدائم عن العدالة.
وهناك "وردة النجمة"، وهي مكونة من مثلثين متعاكسين في الاتجاه، الأعلى يشير إلى النار والرجولة، والآخر نحو الأسفل يدلّ على الماء والأنوثة، دلالةً على التوازن الطبيعي واتحاد الرجل والمرأة. ورمز "المربع" يشير إلى المنزل، والانتماء إلى الأسرة، والانسجام داخل البيت الواحد. وهناك "المربعان فوق بعضهما" ويشير إلى جهاد الله الأبدي ضد قوى الشر والظلمة. و"الدائرة" تمثل المطلق. و"الخط العمودي" يدلل على الله والحياة بصفة عامة. أما "الخطان المتوازيان" فيمثلان الصراع بين الخير والشر داخل كل نفس بشرية.
"الهلال" يدل على الدورة، أي دورة التوالد والتطور من الحياة إلى الموت، وهناك دلالة إسلامية خاصة بوجود الهلال وداخله نجمة، إذ يدلل على الالتزام الديني لصاحب الوشم. وبالنسبة إلى "دوامة النقطة" فهو وشم يدل على الانسجام والهدوء الداخلي والسلام. وأهم الرموز الطبيعية هي "أشجار النخيل" على جبين المرأة الأمازيغية وترمز إلى الآلهة الأم المؤنثة. والوشم المتصل بين الأذنين على وجه المرأة دلالة على لحية زوجها المتوفى.
وهنا يمكن الحديث عن الوشم كسلاح استخدمته الأمازيغيات لتنفير جنود الاحتلال، وجعل أنفسهن قبيحات، لكن عالمة الأنثروبولوجيا ياسمين منداس، تنفي ذلك عادّةً أن الموضوع لا أساس له من الصحة، لأن بعض النساء خلال فترة الاستعمار تبنّوا الوشم بالفعل لأغراض سياسية، وكان من الممكن أن تكون مشبعةً برموز محلية للمقاومة والحماية، مثل الركائب التي يستخدمها سلاح الفرسان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين