خلال عصر الفاطميين، ظهرت طائفة في مصر عُرفت بـ"الكارمية"، كان لها الفضل في دعم الاقتصاد المصري، إذ جعلت مصر مركزاً اقتصادياً ليس في الوطن العربي وحسب، بل في العالم كله، وذلك عندما سيطرت على أهم طرق التجارة ومراكزها بين الشرق والغرب.
كيان الكارمية التجاري
كان أهل الكارمية قوةً اقتصاديةً لا يستهان بها خلال العصر الفاطمي والأيوبي والمملوكي، وتدل على ذلك ضخامة حجم تجارتهم وارتفاع أسعار بضائعهم وعظم حجم ثرواتهم، التي ازدادت في عهد المماليك عما كانت عليه في العهدين الفاطمي والأيوبي، حيث ازداد حجم تجارتهم وأرباحهم، وبلغ حجم ثروات بعض الكارمية أكثر من مليون دينار، كما ذكر الدكتور عطية القوصي، في دراسته "أضواء جديدة على تجارة الكارم"، وهذا ما شجع حكام مصر في مختلف العصور على تأمين مراكبهم في البحر، وقوافلهم في البر، بحسب الدكتور القوصي في كتابه "تجارة مصر في البحر الأحمر".
القلقشندي يرى أنها مشتقة من كلمة "كانم"، وهو بلد في السودان الغربي، بينما يُرجع المقريزي أصلها إلى وصف سوق العنبر بـ"الكارم أو القهرمان"، في أسواق القاهرة، لكن المؤكد أن "الكارمية" تطلَق على تجار المحيط الهندي والبحر الأحمر
ونظراً إلى مكانة الكارمية الاقتصادية وقوتها، أصبح لها كيان، ورئيس يرأسها، يسمّى "ريس الكارمية" أو "ريس التجار" أو "وكيل التجار" أو "شاهبندر التجار"، وكانت هذه الرئاسة وراثيةً يرثها الابن عن الأب، جيلاً بعد جيل، حسب ما قال القوصي.
أصل الكارمية
يشير كتاب "موجز دائرة المعارف الإسلامية" إلى اختلاف الباحثين والمؤرخين حول أصل كلمة الكارم، فنجد القلقشندي يرى أنها مشتقة من كلمة "كانم" وهو بلد في السودان الغربي، بينما يُرجع المقريزي أصلها إلى وصف سوق العنبر بـ"الكارم أو القهرمان" في أسواق القاهرة، لكن المؤكد أن "الكارمية" تطلَق على تجار المحيط الهندي والبحر الأحمر، وأيضاً أنها أُطلقت على التجار المسلمين المشتغلين في تجارة التوابل بشتى أنواعها والأحجار الكريمة والمنسوجات، التي كان يجلبها تجار الكارم من جنوب شرق آسيا والهند إلى موانئ اليمن ومصر ثم إلى بلاد الشام وأوروبا.
طرق التجارة الكارمية
ارتكزت تجارة الكارم المنطلقة من الشرق الأقصى وإفريقيا إلى أوروبا، على طريقين؛ الطريق الأول عُرف بالطريق الأوسط، ومركزه بغداد، التي يخرج منها طريقان؛ الأول شمالاً إلى ديار بكر، والثاني غرباً إلى دمشق، وهناك تتفرع من الطريق فروع عدة بعضها متجه إلى موانئ البحر المتوسط في الشام ومصر، وبعضها إلى القاهرة عبر الصحراء، وهناك فرع آخر يتجه شمالاً إلى حلب ثم آسيا الصغرى ليجتمع مع طريق الحرير المؤدي إلى القسطنطينية ثم إلى أوروبا، حسب ما ذكرت الدكتورة إيلاف عاصم، في دراستها "التجارة الكارمية في عصر المماليك بمصر".
وتذكر عاصم، أن هذا الطريق فقد أهميته خلال غزوات المغول، لذلك لجأ الكارمية إلى طريق آخر بحري يبدأ من الشرق الأقصى إلى البحر الأحمر، ومنه يتفرع فرعان؛ الأول يؤدي عبر صحراء سيناء إلى دمشق ثم موانئ البحر المتوسط، والآخر عبر الصحراء الشرقية إلى نهر النيل فالقاهرة ثم الإسكندرية وأخيراً أوروبا.
أما الطريق الثاني، فهو طريق بحري يبدأ من الشرق الأقصى وينتهي إلى البحر الأحمر من دون أن يمر بالخليج العربي وعُرف بالطريق الجنوبي، وعندما يصل إلى البحر الأحمر يتفرع منه فرعان، أحدهما يؤدي إلى الشمال من البحر الأحمر إلى سيناء ومنها إلى دمشق ثم موانئ البحر المتوسط، أما الآخر فيؤدي عبر الصحراء الشرقية إلى نهر النيل ثم القاهرة ومنها إلى الإسكندرية ثم أوروبا، بحسب عاصم.
وبرغم طول الطريق البحري، إلا أنه امتاز بكونه أكثر أماناً، وذلك لما توفره دولة المماليك من حماية للسفن العابرة من خلاله، مما جعل مصر وموانئها مقصداً لتجار أوروبا.
مناورة أوروبا لحصار مصر
في دراستها "تجار الكارم أثرهم الاقتصادي والحضاري من القرن الرابع وحتى القرن التاسع الهجري"، تستعرض الدكتورة عبير كريم، أسباب ازدهار الطريق البحري وتعزوه إلى اهتمام سلاطين المماليك بتأمين الطريق البحري والتصدي لغارات القراصنة التي تستهدف سفن الكارم، هذا إلى جانب توفير الحماية المناسبة لجميع الموانئ التي تمر بها، ثم تأمين الطرق البرية التي تسير فيها القوافل التجارية سواء في سيناء أو الصحراء الشرقية، بجانب توفير الخدمات اللازمة لتجار الكارم من مياه وزاد وعلف للدواب وأماكن للراحة.
نظراً إلى مكانة الكارمية الاقتصادية وقوتها، أصبح لها كيان، ورئيس يرأسها، يسمّى "ريس الكارمية" أو "ريس التجار" أو "وكيل التجار" أو "شاهبندر التجار".
ولم يغفل سلاطين المماليك عن إبرام المعاهدات التجارية بين مصر ودول أوروبا، لدعم النشاط التجاري في ما بينها، وذلك دعماً لتجار الكارم، مما جعل أوروبا تشعر بأن قوة مصر الحقيقة ليست في موقعها أو مواردها وحسب، بل في تجار الكارم الذين يسيطرون على طرق التجارة الرئيسة في العالم، لذلك فكرت أكثر من دولة أوروبية في إحياء الطريق الأوسط التجاري لعدم مروره بمصر، فيتم القضاء عليها اقتصادياً.
المغول يتحالفون مع أوروبا
وتشير كريم، إلى أن الضرائب الباهظة التي فرضها المماليك على التجارة، ومنعهم التجار الأجانب من الحركة في الأراضي الشرقية أو الجنوبية لمصر، خوفاً على معرفة مصادر الكارم، مما شجع إيلخانات المغول على تقديم تسهيلات مع تجارة أوروبا، بدايةً من تخفيض الضرائب المفروضة عليهم، وتأمين الطرق البرية المتجهة من آسيا إلى أوروبا، وعلى نهجهم سارت أرمينيا فخفضت الضرائب على البضائع المارة بأراضيها بنسبة 2 إلى 4%، فازدهرت حركة التجارة بين المغول وأوروبا، وظلت تزداد تدريجياً مقابل تراجع النشاط التجاري بين مصر وأوروبا، حتى منتصف القرن الثامن الهجري.
يضاف إلى ذلك سقوط عكا على يد المماليك سنة 691هـ/1291م، وهو من أسباب غضب الباباوات في أوروبا ودعوتهم إلى فرض حظر اقتصادي على مصر وفرضهم قرارات على التجار الأوروبيين بعدم التعامل مع تجار الكارم في مصر واستخدام الطريق البري، المعروف بالطريق الأوسط.
الدولة العثمانية ترسم ملامح العالم الجديد
في كتاب "تاريخ الدولة العثمانية النشأة والازدهار"، أن أورخان غازي (1324-1360م/724-761هـ) هو المؤسس الحقيقي للدولة العثمانية، ويرجع ذلك إلى حركات التوسع التي قام بها، وضمّه الكثير من الأراضي وبسط نفوذهم عليها في غرب الأناضول. ونظراً إلى الحروب التي كان يخوضها في الأراضي التي تمر بها الطرق التجارية بين آسيا وأوروبا، عزف التجار عن المرور من هذه الطرق والعودة إلى الطريق البحري لكونه أكثر أماناً.
لم يغفل سلاطين المماليك عن إبرام المعاهدات التجارية بين مصر ودول أوروبا، لدعم النشاط التجاري في ما بينها، وذلك دعماً لتجار الكارم، مما جعل أوروبا تشعر بأن قوة مصر الحقيقة ليست في موقعها أو مواردها وحسب، بل في تجار الكارم
لم يكن هذا فحسب سبب عودة التجارة إلى الطريق البحري ومصر، لكن ضعف المغول بعد سنة 763هـ/1335م، دافع لهجرة الكثير من التجار من الأراضي المغولية إلى مصر وبلاد الشام، لاستئناف نشاطهم التجاري، حتى يكونوا بعيدين عن الصراع العثماني التركماني، ثم العثماني الصفوي، بحسب كريم.
عودة مصر إلى عرشها التجاري
بحسب كريم، فإن سفن البندقية لم تكن تأتي إلى الموانئ المصرية، بعد التحالف بين المغول وأوروبا، واستخدام الطريق البري، لكن ونتيجةً للتوسع العثماني، وحاجة التجار في أوروبا، خاصةً تجار البندقية إلى البضائع، طالبوا باستئناف تجارتهم في الأسواق المصرية والشامية، فعادوا مرةً أخرى للتجارة وشراء السلع غير الحربية وبيعها (745هـ/1344م).
يضاف إلى ذلك أن بعض الدول الأوروبية خلال عنايتها بالطريق البري للتجارة، لم تقطع علاقتها بمصر فكانت ترسل سفناً إليها للتبادل التجاري، مثل تجار مارسيليا، وتجار برشلونة، ويرجع ذلك إلى أن دولة المماليك، كانت تهتم بتأمين حركة التجارة بحراً أو براً، وتحصين الموانئ البحرية بطول الطريق البحري، ونقاط استراحة تجار الكارم، وساهم ذلك في تشجيع باقي التجار الأوروبيين على العودة إلى التجارة مع مصر، خاصةً أن سلاطين المماليك اهتموا بدعم التجارة وتشجيع التجار الأجانب من خلال عقد المعاهدات التجارية معهم.
كما أن مصر بما لديها من مقومات وخدمات وفرتها للتجار، ساهمت في استمرار تدفق تجار شرق آسيا عليها، وجلب بضائعهم إليها، وإقبال تجار أوروبا على زيارة الموانئ المصرية لشراء ما يلزمهم من البضائع الجيدة التي ينتظرها الأوروبيون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com