في مجتمعنا السوري، تقف كل إنجازات الكائن البشري أمام شهادة البكالوريا أو شهادة الثانوية العامة، رافعة الراية البيضاء معلنة استسلامها، حتى وإن كان الثمن حياة هذا الكائن.
تناولت وسائل التواصل الاجتماعي خبر موت طالب البكالوريا محمد سبيريج (18عاماً) في محافظة القنيطرة السورية، نتيجة نقص الأكسجة، بعد محاولته الانتحار بلف قطعة قماش حول عنقه سبّبت له أذية دماغية، وذلك بسبب الضغط النفسي المتعلّق بامتحانات الثانوية العامة التي تجرى حالياً في البلاد.
لن أحكم من بعيد أن للأهل يداً في موضوع الضغط أم لا، لا يكفي أن يكون الأهل هما مصدر الضغط الوحيد، غياب ضغط الأهل لن يلغي توقعات المحيط الضخمة من طالب البكالوريا، و استقاء من تجربتي الشخصية ومراقبة لما يحدث حولي ، تُعتبر البكالوريا بعبع مراهقي مجتمعنا، فالبكالوريا في المعنى العام هي شهادة ثانوية تختم 11 سنة مدرسية في حياة الطالب، وشهادة عبور تؤهّله لبدء المرحلة الجامعية، بينما في مجتمعنا، لم يكتف أهالي الطلاب والمجتمع المحيط بهم بالنظر للبكالوريا على أنها تقرير مصير حياة، وأن طالب البكالوريا عليه الكد والجد كجندي في الميدان، بل تعدّى مفهوم البكالوريا كل هذه الاعتبارات ليصبح عند بعض الأهالي قضية حياة أو موت، وللأسف ، كانت عند سبيريج قضية موت، مع تشديدي على أن لا معرفة لي بنوعية تعاطي عائلته مع موضوع البكالوريا.
حياة طالب البكالوريا عبارة عن مزيج من الفيتامينات المنشّطة على اختلاف أنواعها، ومضادات الاكتئاب والقلق، (خصوصاً التي لا تسبب النعاس)، والتوبيخات من بعض العائلات، توازيها نوبات قلق عند البعض الآخر، ومقارنات مع أبناء فلان وفلانة، وسلسلة دورات خصوصية مكثّفة لكافة المواد، (هذه الموضة الدارجة) والتي تبدأ عند البعض من قبل سنتين من مرحلة البكالوريا، أي منذ الصف العاشر، مع تجاهل الطالب للمناهج الدراسية لصفي العاشر والحادي عشر، والتي من المفترض أنها تؤسس الطالب لينتقل لمرحلة البكالوريا، والأهم من هذا كله هو حذف مفردة راحة، ترفيه، هواية ، وقت فراغ، نوم... من حياة هذا الطالب.
تناولت الأخبار خبر موت طالب البكالوريا محمد سبيريج (18عاماً) نتيجة نقص الأكسجة، بعد محاولته الانتحار بلف قطعة قماش حول عنقه سبّبت له أذية دماغية، وذلك بسبب الضغط النفسي المتعلّق بامتحانات الثانوية العامة في سوريا
عندما وصلت لمرحلة البكالوريا، حاولت ألّا أنساق خلف تيار "بعبع البكالوريا" ومسلسل الدورات الخصوصية، وأن أعتبرها سنة دراسية تتطلب جهداً مضاعفاً لا أكثر، إلا أنني لم أنج من الضغط النفسي، وما زاد من سلبية الامر هو انتشار فيروس كورونا في نفس السنة، وإقفال المدارس وتأجيل الامتحانات لموعد لم يحدّد حتى بعد فترة طويلة من تأجيله، والذي اعتبره البعض فرصة كي ندرس أكثر، إنما لم يكن بالنسبة لي سوى ضغط نفسي مضاعف.
في بداية سنتي الدراسية عزمت ألا أتعب نفسي بدورات خصوصية لمواد لا تحتاج إلى دورات، سيما أنني أدرس الفرع الأدبي، الفرع الذي أحبه وأستهويه وأستمتع فيه، فقرّرت أن أقوم بتلقي دورات خصوصية فيما أنا ضعيفة فيه فقط، لتقتصر الدورات التي خضعت لها على مادتي اللغة العربية في الصيف، واللغة الفرنسية في جلسة واحدة قبل الامتحان. أذكر عندما سألني أستاذ التاريخ مستغرباً، لمَ لم أقم بدورة خصوصية عنده في مادة التاريخ، تلك المادة التي اعتبرتها من أمتع المواد وأسهلها في تلك السنة الدراسية، ونجحت بمعدل جيد جداً أهّلني لأدرس فرعاً أحلم بدراسته منذ الطفولة.
والأمر سيان بالنسبة لطالبة البكالوريا سلام (اسم مستعار). بدأت مرحلة التحضير للبكالوريا بدورات خصوصية لمادتي الفيزياء والرياضيات، كانت قد بدأتها في عطلة الصيف التي تسبق سنة البكالوريا الدراسية، وعندما بدأت السنة الدراسية خفّ حماسها تدريجياً إثر روتين الحياة النمطي الضاغط الذي تعيشه، وما عزّز من تجربتها المريرة هو عدم مرونة الجو المحيط بها في المنزل، فكانت سنتها الدراسية عبارة عن نزاعات بينها وبين عائلتها. لم تتفهّم العائلة كمية التوقعات المجتمعية من سلام وأثرها عليها نفسياً، وتعرّضت لأكثر من نوبة هلع بمستويات ، هلع من الدراسة، ومن نتائج الامتحانات، ومن كلام الناس وحكمهم عليها.
أثّرت تلك الضغوط النفسية عليها جسدياً، فتعرّضت لعدة وعكات في الجهاز العصبي وغيره. بعد معاناة من قبل أخت سلام في إقناع أبويها باصطحاب سلام إلى طبيب نفسي، أقنع طبيب العصبية الوالدين بفكرة الطبيب النفسي وقاما بأخذها، ومن بين التشخيصات التي شخّصها الطبيب هي هلع الدراسة. ظن الأبوان أن جلسة واحدة عند الطبيب تكفي لكي تتخلص سلام من معاناتها، ولم يدركا أنها لن تتخلّص من هلعها هذا دون جلسات علاج نفسي مع "معالج نفسي" كي يتبع طريقة لتتخلص من هذا الهلع، فالطبيب مهمته التشخيص ووصف الدواء المناسب لا أكثر، أما الكلام وطرائق تخطي هذا الهلع إن لم يقم الدواء بإزالته فهما من مهمة المعالج النفسي، ولعدة أسباب، من بينها تأزم الجو العائلي، ولوم العائلة لها جراء زيادة ساعات نومها بفعل الآثار الجانبية للدواء أثناء تناوله في الفترة الأولى.
أيها الآباء، كونوا عوناً لأولادكم، طمئنوهم واجعلوهم يحسّون بقيمتهم وبحبكم لهم غير المشروط بمعدل دراسي أو بآراء الناس في إنجازاتهم، وتعاملوا مع شهادة البكالوريا بمنطقية، دون أن تجعلوها قضية حياة أو موت
ازداد وضع سلام النفسي سوءاً، وانعكس على صحتها الجسدية، واستمرت العائلة بنزاعاتها المتكرّرة، ووقعت سلام بين نارين، هل تكمل هذه السنة وتقدم الامتحان رغم كل العوارض الصحية التي تعاني منها، أم تؤجل موعد تقديمها للسنة القادمة وتخسر سنة من عمرها؟
جاءت فترة الامتحانات، و لم يتبق أمام سلام سوى خيار الاستمرار في حربها هذه، فالاستمرارية مفروضة عليها رغم كل النكسات التي مرّت بها.
لنكن منطقيين وواقعيين: البكالوريا ليست سوى مرحلة دراسية تحتاج لجهد مضاعف، لن تختفي البشرية إن مرّ الطالب بمرحلة ضعف وقرّر الاستسلام، فإن طالب البكالوريا "إنسان" يمر بمراحل ضعف والراحة ليست محرّمة عليه. لنوقف انسياقنا خلف ترّهات تفرضها المظاهر الاجتماعية السطحية، اليوم راح محمد سبيريج، لكن، كم محمد سيلحق به إن بقيت نظرتنا إلى طالب البكالوريا محصورة بتلك الترهات في كل سنة دراسية؟!
أيها الآباء، كونوا عوناً لأولادكم، طمئنوهم واجعلوهم يحسّون بقيمتهم وبحبكم لهم غير المشروط بمعدل دراسي أو بآراء الناس في إنجازاتهم، وتعاملوا مع شهادة البكالوريا بمنطقية، دون أن تجعلوها قضية حياة أو موت بالنسبة لابنكما، فمجتمعنا قد سئم حالات الانتحار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت