"غادي نعلّق راسي ونتهنّى منكم" (سأشنق نفسي وأتخلص منكم)، و"الله ما نتاع غير لي يموت" (الحل هو الموت)، أو "غادي نحرق راسي"، و"اللّهم الموت ولا عيشة الذل والكلاب"... إلخ؛ هذه بعض الجمل والكلمات الحارقة التي يرددها من يعانون مصاعب الحياة، والذين يعانون اضطرابات نفسيةً خطيرةً، في غياب أي دعم أو اهتمام من ذويهم، والتي تشي بالانهيار النفسي Burn out، وتعبّر عن انتشار "ثقافة الانتحار" في المجتمع المغربي، فيرددها الصغير قبل الكبير، والموظف والعاطل عن العمل، والطبيب والمسؤول الأمني، والرجل والمرأة. الكل سيّان في الترويج لهذه الأفكار القاتلة ولظاهرة متفشية بشكل كبير في المجتمع المغربي، الذي ينظر إلى المنتحر نظرة ازدراء واحتقار بسبب المعتقد الديني، الذي يعدّ الانتحار من كبائر الذنوب، إذ "يعاقب المنتحر بمثل ما قتل نفسه به"، ما يجعل وصمة العار تطارد أسر المنتحرين وذويهم.
فما هي أسباب ارتفاع حالات الانتحار في المغرب؟ ولماذا أصبح الانتحار يشمل جميع الشرائح المجتمعية والفئات العمرية؟ وهل ما يتوفر عليه المغرب من بنيات وأطر كفيل بمحاربة هذه الظاهرة؟ وهل هناك اهتمام في المغرب بالصحة النفسية والعقلية للمواطنين؟
المغرب ثاني بلد عربي
كشفت منظمة الصحة العالمية، والرابطة الدولية لمنع الانتحار، في أحدث تقرير لهما بمناسبة اليوم العالمي لمنع الانتحار، 10 أيلول/ سبتمبر الماضي، أن أكثر من سبعمئة ألف شخص يموتون سنوياً في جميع أنحاء العالم بسبب الانتحار، وأن هناك عشرين شخصاً يحاولون الانتحار مقابل شخص واحد يقدِم على ذلك فعلاً، وأن 77 في المئة من حالات الانتحار في العالم تحدث في الدول المنخفضة ومتوسطة الدخل.
حسب التقرير نفسه، فإن رابع سبب لمعدلات الوفيات للأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و20 عاماً، هو الانتحار، كما أن ملايين الأشخاص المقربين جداً من المنتحرين يعانون من حالات حادة من الاكتئاب، بسبب السلوك الانتحاري الذي يقدم عليه الآخرون، ولهذا دعت الرابطة الدولية لمنع الانتحار إلى ضرورة توحيد الجهود والعمل بشكل جماعي من أجل محاربة ظاهرة الانتحار، وخفضها إلى الثلث على الأقل في أفق 2030.
"غادي نعلّق راسي ونتهنّى منكم" (سأشنق نفسي وأتخلص منكم)، و"الله ما نتاع غير لي يموت" (الحل هو الموت)، أو "غادي نحرق راسي"، و"اللّهم الموت ولا عيشة الذل والكلاب"... إلخ؛ هذه بعض الجمل والكلمات الحارقة التي يرددها من يعانون مصاعب الحياة، والذين يعانون اضطرابات نفسيةً خطيرةً
بخصوص المغرب، تفيد تقديرات منظمة الصحة العالمية، بأنّه يُعدّ من الدول التي تسجل نسباً مرتفعةً للانتحار في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث ارتفع معدل الانتحار ليصل إلى 7.2 لكل 100 ألف نسمة، ويصل هذا المعدل إلى 9.7 لكل 100 ألف نسمة وسط الذكور، مقابل 4.7 لكل 100 ألف نسمة وسط الإناث، ما بوّأ المغرب المرتبة الثانية بعد مصر في قائمة الدول العربية من حيث معدلات الانتحار. واحتلت السعودية المرتبة الثالثة متبوعةً باليمن والسودان فالعراق والإمارات العربية المتحدة وتونس وسوريا وليبيا.
بالنظر إلى هذا التقرير، وإلى تقرير سابق للبنك الدولي، فإن الأرقام التي يسجلها المغرب في نسب الوفيات بسبب الانتحار مقلقة جداً، خاصةً أنها تفوق ما يُسجَّل بسبب الأمراض العضوية كالسرطان والسيدا، وتفوق في ذلك حتى الدول التي تشهد حروباً وصراعات مستمرةً كاليمن وليبيا مثلاً.
منظومة صحية ضعيفة
بهذا الخصوص، يقول فيصل طهاري، الأخصائي في العلاج النفسي السريري، في تصريح لرصيف22، إن عدد المنتحرين في ارتفاع مستمر عبر العالم، وقد سبق لمنظمة الصحة العالمية أن أعلنت عن انتحار شخص في العالم كل خمس عشرة ثانيةً، وأسباب الانتحار تعود إلى كون "المنظومة الصحية العقلية والنفسية في العديد من البلدان ضعيفة ومهترئة جداً، إن لم نقل إنها معدومة في بلدان العالم الثالث، إذ ما زال الكثير من البلدان لا يتوفر على منظومة صحية للأمراض العضوية والأمراض العضال حتى، مثل السرطانات وفيروس السيدا والأمراض الخطيرة، وما زال الرُضَّع لديها لا يستفيدون من اللقاحات الضرورية، ما يفسح المجال لظهور الاضطرابات النفسية والعقلية، وعلى رأسها الاكتئاب المنتشر في صفوف المواطنين، بالإضافة إلى اضطرابات المزاج، ما يؤدي إلى ظهور أفكار سوداء انتحارية، وبعدها محاولة تطبيق تلك الأفكار، ثم الانتحار الكامل والناجح".
يوضح طهاري، أن "سبب ارتفاع نسبة المنتحرين في المغرب، يعود إلى المنظومة الصحية العقلية والنفسية الضعيفة، لأن هناك أقاليم عديدةً ما زالت تفتقر إلى المستشفيات الخاصة بالأمراض العقلية، ولا تتوفر على أطباء أو معالجين نفسيين، وفوق هذا كله ما زالت شريحة كبيرة من المجتمع تلجأ إلى معالجة الاضطرابات والأمراض النفسية عبر الرقية والشعوذة بسبب قلة الوعي، وهو ما يجعل تشخيص المرض النفسي مثل الاكتئاب متأخراً، وتالياً يصعب معه علاج المريض، الذي غالباً ما يقدم على فعل الانتحار".
"سبب ارتفاع نسبة المنتحرين في المغرب، يعود إلى المنظومة الصحية العقلية والنفسية الضعيفة، لأن هناك أقاليم عديدةً ما زالت تفتقر إلى المستشفيات الخاصة بالأمراض العقلية، ولا تتوفر على أطباء أو معالجين نفسيين"
يضيف طهاري، أن من بين الأسباب الرئيسية التي تدفع الإنسان في المغرب إلى الانتحار، ضغوط الحياة الاجتماعية والاقتصادية، خاصةً مع الارتفاع المهول للأسعار، وتأثيرات سنتين من المعاناة مع مرض فيروس كورونا، التي ما زالت مستمرةً إلى الآن، وأرخت بظلالها على تدهور صحة الإنسان، خاصةً لدى الأطقم الطبية والأمنية التي كانت في الصفوف الأمامية لمواجهة هذه الجائحة.
انتشار ثقافة الانتحار
ومن جهته، يرى عبد ربه البخش، الباحث السوسيولوجي المشتغل على الانتحار في المغرب، خاصةً في جهة الشمال، أن ارتفاع حالات الانتحار عبر العالم سببها تفشي الأمراض النفسية التي تبقى العامل الرئيسي والمباشر في استفحال هذه الظاهرة، والسبب نفسه ينطبق على المغرب، خاصةً أنه يشهد تفشياً غير مسبوق للأمراض النفسية والإدمان على المخدرات النباتية والاصطناعية.
يؤكد البخش، في تصريح لرصيف22، أن "ظاهرة الانتحار تنتعش في المغرب، وترتبط بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي يعرفها البلد، وبمجموعة من الظواهر الأخرى كالهجرة غير النظامية والتطرف العنيف والإجرام، والقاسم المشترك بين هذه الظواهر هي فرضية الموت واستصغاره، فكلما فقد الموت رهبته كلما تحفز الأفراد على الإقدام عليه بأشكال متنوعة وغايات مختلفة".
الطفل يستقبل العبارات الانتحارية بوصفها خلاصاً من مختلف المشكلات والظروف والانكسارات التي تصيب الإنسان في هذه الحياة، وتالياً قد تسكنه هذا الثقافة ويفكر في الانتحار وقد يقدم عليه وهو قاصر أو راشد
يشير الباحث السوسيولوجي، إلى أن ظاهرة الانتحار تتجاوز معطيات السن والجنس والمستوى الاجتماعي والاقتصادي، إنها عبارة عن "ثقافة" تنتقل من جيل إلى آخر، عبر قنوات التنشئة الاجتماعية بطريقة لا شعورية، فعلى سبيل المثال عندما يصيح أب أو أم أو أخ راشد في لحظة غضب أو ضعف أو هزيمة، في وجه طفل بالعبارات التالية: "غادي نعلق راسي، الله يعطينا موتة، والله حتى نقتل راسي..."، فإن هذا الطفل يستقبل هذه العبارات بوصفها خلاصاً من مختلف المشكلات والظروف والانكسارات التي تصيب الإنسان في هذه الحياة، وتالياً قد تسكنه هذا الثقافة ويفكر في الانتحار وقد يقدم عليه وهو قاصر أو راشد.
ويوضح أنه يقصد بـ"ثقافة الانتحار"، أن "هناك مجموعةً من الناس يتقاسمون في ما بينهم نظاماً معقداً من ردود الأفعال والمعتقدات والأفكار والتمثلات وأنماط السلوك، يواجهون به مختلف العوائق التي تواجههم في الحياة، ويبدأ هذا النظام من تلقّي فكرة الانتحار، ويمر بتقبّل هذه الفكرة والميل إليها وينتهي بمحاولة الانتحار أو الانتحار بالفعل".
انتحار على المباشر
بالرغم من غياب أرقام مغربية دقيقة حول أعداد المنتحرين، إلا أن هذا الموضوع صار حديث الصحف والمواقع الإلكترونية ونشرات الأخبار بشكل شبه يومي، كما أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت الوسيلة الفضلى لبعض المنتحرين لتوثيق هذا الفعل، وكان آخرها ما أقدم عليه شاب )19 سنةً(، من مدينة الدار البيضاء، في شهر آذار/ مارس الماضي، من إحراق نفسه في بث مباشر عبر صفحته على فيسبوك، موضحاً أنه تعرض للظلم حين تم الاعتداء عليه في سوق للجملة من طرف شخصين يعملان في السوق، وهو الاعتداء الذي سبب له عجزاً صحياً، لكن الشرطة لم تنصفه وأطلقت سراح المعتدين عليه، ما جعل الإحساس بـ"الحكرة" (الاحتقار)، يتفاقم لديه ويقدم على الانتحار.
في بداية شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، أقدم طبيب مغربي على الانتحار، كما فعل ذلك طفل في مدينة أكادير أيضاً، وكذلك طفلات تعرضن للاغتصاب وتم تزويجهن كرهاً بمغتصبيهن لغسل عار ذلك الجرم الشنيع، لكنهن لم يجدن إلا الموت سبيلاً للخلاص النهائي، هذا ناهيك عن ارتفاع معدلات الانتحار بشكل غريب في مدينة الشاون في شمال المغرب، وهو ما دفع بعض نواب الأمة إلى إثارة سؤال الانتحار المقلق على المسؤولين تحت قبة البرلمان، خاصةً بعدما دقت المندوبية السامية للتخطيط، في دراسة حديثة لها عن الصحة النفسية في المغرب، ناقوس الخطر، وقالت إن البلد يشهد ارتفاعاً كبيراً على مستوى اضطرابات كثيرة، منها الاكتئاب والقلق والوسواس القهري ونوبات الهلع، وهو ما يدل على أن هناك معاناةً نفسيةً ووضعيةً ضاغطةً يعاني منهما المغاربة، وهو ما ستترتب عنه نتائج وخيمة، ستجعل حالات الانتحار ترتفع.
مفهوم الصحة النفسية "الغائب"
يطرح ارتفاع حالات الانتحار في المغرب سؤالاً عن الاهتمام بالصحة النفسية داخل المجتمع المغربي، الذي يقول عنه الباحث السوسيولوجي عبد ربه البخش، إنه "ضعيف جداً، فلا الأسرة ولا المدرسة ولا المؤسسات الصحية لها إستراتيجيات واضحة ومعلَنة تعمل من خلالها على الاهتمام بالصحة النفسية والوقاية من الوقوع في أمراض نفسية وحتى بدنية، ففي الماضي القريب وحتى اليوم ما زالت فئة كبيرة داخل المجتمع المغربي لا تؤمن بالأمراض النفسية، بل تراها ضرباً من ضروب الغيبيات (المس، والسحر...)، ويبقى عمل الجمعيات والمؤسسات محدوداً ومعزولاً في أغلب الأحيان، وغير فعّال، لأننا لا نتوفر على دراسة علمية دقيقة كفيلة بفهم الظاهرة ووضعها في مساراتها الكمية والكيفية الدقيقة، خاصةً أن الظاهرة مركبة، فهي فردية وجماعية في الآن نفسه، كما أنها تقتضي مقاربات متعددةً، بيولوجيةً وطبيةً وسوسيولوجيةً وسيكولوجيةً... إلخ".
ويوضح أن الانتحار يمس الذكر والأنثى، القاصر والراشد، الفقير والغني، المتمدرس والأمّي، فما دام الإنسان ناقصاً فهي تنشط حيث هذا النقص والضعف، أي في المناطق المظلمة من شخصية الفرد، عادّاً أن "الفرد الذي تسكنه فكرة الانتحار هو فرد يعيش وفق تمثلاته، أشد أنواع القسوة والمعاناة. إنه كما يحسب ضحية الأسرة والوسط والسياسة والمجتمع والدولة، وإن وجوده عالة على الوجود. لذلك فإرادة الموت والتخلص من الحياة مهما كانت قاسيةً ومؤذيةً لجسده، فهو يراها منفذاً وخلاصاً لمعاناته، كما أن هذا الفرد في الغالب ينفر من جسده ويهمّشه، والجسد هو نقطة الربط بالحياة، وهو الذي يمنحنا الهوية البيولوجية والإنسانية، فكلما تعلّقنا به وأحببناه كلما ارتبطنا بالحياة وتعززت إرادة الحياة عندنا، والعكس صحيح".
علاج مكلف غير مؤمَّن
أما الأخصائي فيصل طهاري، فيرى أن الصحة النفسية والعقلية في المغرب، في تحسّن، لكن ما زال ينقصنا الكثير من الأطر في الطب النفسي والعلاج النفسي، ومن المختصين في علم النفس المرضي. هناك تطور وإصلاح لمجموعة من المستشفيات القديمة والمهترئة، لكن الخصاص ما زال قائماً في مجتمع يفوق عدد سكانه الـ40 مليون نسمة، فبنى الاستقبال قليلة والأدوية باهظة الثمن، وحصص العلاج النفسي لا يتم التعويض عنها بالنسبة إلى المؤَمَّنِين، ما يعيق عملية العلاج النفسي، ويؤخر أمر استفادة جل المغاربة من هذا الحق.
لهذا يدعو طهاري، إلى تحسيس المواطنين بأهمية الصحة النفسية والعقلية، وتيسير الولوج إلى العلاج، وتشجيع الناس على الذهاب إلى الطبيب والمعالج النفسي، بدل الفقيه أو المشعوذ، وتخصيص وصلات إعلامية لأهمية الصحة النفسية كما هو الشأن مع مجموعة من الأمراض العضوية، مثل السرطان والسيدا، والاحتفال بالأيام العالمية للصحة النفسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون