لا يوجد سمّ كافٍ لقتلها، لذا تأخذ جولييت خنجر روميو وتطعن نفسها به، ثم تستلقي بجواره وتموت، فتموت معها ملايين الآهات الخارجة من الذين قرأوا أو شاهدوا المسرحية. الموت هنا يصبح مفضّلاً على الحياة. يصبح مشوّقاً ومستحَقاً وجميلاً. ليس الموت، بل الانتحار. روميو وجولييت انتحرا. الانتحار هنا لا يُذكر إلا بشكل بسيط ولا يتم التوقف عنده. لماذا؟ لأن الأسباب عاطفية، فالمنتحران عاشقان. ولو لم يكونا هكذا، لكانت للمسرحية حبكة وانعطافات ربما لم نكن لنتوقعها.
عُرّف الانتحار بأنه الفعل الذي يتضمن تسبب الشخص بقتل نفسه عمداً، ورُدّت أسبابه إلى الاضطرابات النفسية كالقلق واليأس والاحباط والهوس والفصام. توضح بيانات منظمة الصحة العالمية أنّ معظم حالات الانتحار؛ 75% منها على الأقل، تُسجل ما بين متوسطي الدخل، وسكان الدول الفقيرة. ينتحر شخص واحد على الأقل كل أربعين ثانية، لكن ماذا عن السويد مثلاً التي تسجل معدلات انتحار لا بأس بها؟ ربما يلجأ الناس إلى الانتحار هناك بسبب رتابة العيش.
كشف المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي في سوريا، زاهر حجو، عن 116 حالة انتحار منذ بداية 2020
إذا قدّرنا أن رتابة العيش تُعدّ مسبباً للانتحار، فيجب أن نتساءل الآن عن إقبال الناس عليه هنا في سوريا، رغم جميع المفاجآت التي نتعرض لها يومياً. نحن لسنا السويد أو فنلندا أو سويسرا، نحن لسنا سوى أنفسنا. ولأننا كذلك، سأعود إلى مسببات الانتحار المتفق عليها عالمياً: القلق واليأس والإحباط والهوس والفصام. من منّا لا يعاني من مسبب واحد منها على الأقل؟ لا أحد.
الانتحار بديهي إذاً؟ ليس بديهياً لكنه متوقع. وإن لم يكن متوقعاً، فهذه مشكلة. الجميع قرأوا خبر الفتاة التي ألقت نفسها من أحد جسور العاصمة وماتت، الجميع سمعوا عن عصابة المغتصبين في أحد أرياف دمشق وخبر انتحار أحدهم. الجميع ربما سمعوا بالشاب الذي سرق مبلغاً كبيراً من المال ثم وُجد منتحراً في طرطوس. في الحقيقة كشف المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي في سوريا، زاهر حجو، عن 116 حالة انتحار منذ بداية 2020. لن أتحدث عن ردود الأفعال المتباينة حول هذه الأفعال التي، على ما يبدو، ستتحول إلى سلوك يوماً بعد يوم. سأنتقل إلى المشكلة الأخرى وهي الأفعال السابقة لفعل الانتحار، والتي قد تجعل منه حلاً: التحرّش، الاغتصاب، والسرقة. حتى المنتحرون يعرفون ماذا اقترفوا فيلجأون إلى الحل الوحيد المتاح؛ الموت. لكن لماذا؟ لماذا هذه الأفعال الآن؟ ولماذا يُقدم السارق أو المتحرش أو المغتصب على وضع حدٍّ لحياته بهذه السهولة أو القسوة، لا فرق؟ ولماذا لست مقتنعاً حتى الآن بهذه الأسباب؟
لا منطق في المشاعر التي تسبب الموت، أعلم ذلك. لكننا في سوريا الآن، حيث لا أحد يلجأ إلى المنطق في معظم أوقات يومه، ولو لجأ لكانت معدلات الانتحار أعلى مما نتوقع بكثير
ماذا لو حدّثنا الذئب يوماً عن وجهة نظره في قصته مع ليلى؟ ماذا لو كانت الأميرة النائمة نائمةً لكفّ شرّها؟ أو كان للجوكر ما يقوله حول باتمان؟ ما يمكن جعلها أسباباً للانتحار يمكن سحبها على الأفعال السابقة له وجعلها مسبباً لها. القلق واليأس والإحباط، تُعدّ أسباباً منطقية. لا منطق في المشاعر التي تسبب الموت، أعلم ذلك. لكننا في سوريا الآن، حيث لا أحد يلجأ إلى المنطق في معظم أوقات يومه، ولو لجأ لكانت معدلات الانتحار أعلى مما نتوقع بكثير.
القلق من الآتي، اليأس من تحسن أي شيء، الإحباط من كثرة ما تعثرت الخطوات، والهوس بإيجاد دخل جديد، يُبعد نظرة أطفالنا الجائعة، كل هذا يجب أن يضاف إليه عامل مهمل أو تم إهماله عن قصد، ربما لأننا ببساطة لا نستطيع أن نمسكه باليد، وهو الأمل. ليس الأمل المنتهي بابتسامة تفاؤل وتنهيدة رضا. الأمل الممزوج بخيال زائف يجعله قادراً على الاستمرار متجاوزاً كل عثرات الواقع. تخيّل مثلاً كمية الشرود الموجودة في عينيّ وأنا أتخيل نفسي أحصل على مئة ألف دولار لقاء بيعي سيناريو مسلسل تلفزيوني. وهو أمر لم يحصل بغض النظر سواء أكتبت النص أم لم أكتبه. الشرود هنا ليس بسبب بيعي للسيناريو، الشرود سببه انشغالي في توزيع المئة ألف على ما أريد أن أقوم به عندها: منزل جديد، سيارة، شاليه، منزل ثانٍ، سيارة ثانية، سأعطي أهلي بعضاً منه، شاليه في منطقة بعيدة عن الشاليه الأول. فأنا كاتب ويحق لي أن "أغيّر جو". سأشتري السوبر ماركت الذي أشتري منه بالدين حتى أتشفّى من نظرات صاحبه حين أقول له "سجّل عالدفتر لأول الشهر".
ثمة طريقة واحدة فقط للنجاة هنا، وهي عدم تخيّل أي شيء. تخيّل الأشياء قد يؤدي إلى التهلكة
ربما سأتزوج مرّة ثانية. لا أعلم. المال يغيّر النفوس، ثم أنتقل إلى لون السيارات الجديدة ونوعها وأماكن البيوت وإطلالاتها، وأبتسم. نعم أبتسم لأول مرة منذ زمن بعيد قبل أن يقطع الابتسامة صوت سائق السيرفيس: "آخر موقف"، عائداً برأسه وثلثي جسمه إلى الوراء ومصوّباً نظره نحوي. فأفيق من حلمي وأنزل وتنزل معي السيارات والبيوت والشاليهات والزوجة الثانية، ويختفون في حفرة الصرف الصحي تحت قدميّ. ربما أنا السوري الوحيد الذي يتخيل أشياء كهذه، وربما لست وحيداً كما أبدو، وربما كان هذا الخيال، الذي هو ردّة فعل على أية حال، أحد أهم الأسباب التي تم إغفالها عند الحديث عن الانتحار: أن لا تقدر، فتهرب، ثم تكتشف أن... لا مفر. "ثمة طريقة واحدة فقط للنجاة هنا، وهي عدم تخيّل أي شيء. تخيّل الأشياء قد يؤدي إلى التهلكة"؛ هذه نصيحة بوريس سالخ البشر للملازم ماميا في رواية "يوميات طائر الزنبرك" لهاروكي موراكامي. ربما يجب أن نأخذ بها من الآن وصاعداً، علّنا ننجو.
"أكثر من تسعة ملايين سوري يتوجهون كل ليلة إلى أسرّتهم وهم جياع، لا يعرفون من أين ستأتي الوجبة التالية". هكذا اختصر برنامج الغذاء العالمي حجم المأساة في سوريا بعد ما يقارب عشر سنوات من الحرب. ربما كان الحلم بيوم أفضل هو سبب الانتحار والاغتصاب والتحرش والسرقة والقلق واليأس والإحباط والهوس والفصام، وكل ما لم أقدر على ذكره في هذا المقال. هذا هو السبب، وهنا يكمن الحل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون