منذ 20 يوماً والسيدة فريدة سيوان البالغة من العمر 42 سنةً، تنتظر علاجاً لفكّها العلوي بسبب مرض يحتّم عليها اقتلاع 3 أسنان، لكن انعدام المخدّر "البنج" أطال من عمر معاناتها.
فالعيادة الخاصة التي تقصدها السيدة في مدينة خراطة شرق الجزائر، لم تتحصل على مخدر الأسنان منذ أكثر من 35 يوماً، وذلك بعد الندرة التي ضربت هذه المادة في سوق المواد الصيدلانية وشبه الصيدلانية، والتي تأجلت بسببها 90 في المئة من الجراحات الخاصة بالأسنان، وفق ما قال صاحب العيادة طبيب الأسنان طارق ساحلي، لرصيف22.
تتخوف فطيمة سيوان، التي التقاها رصيف22، من أن تطول الأزمة أكثر، بعدما أخبرها الطبيب بأن حالتها تتطلب التعجيل في العلاج، فزيادةً على الألم الذي بات مرافقاً لها في حياتها، هي اليوم متوجسة من أمراض أخرى جانبية قد تصاحب علاجها المؤجل.
وعلى الرغم من أن الكثيرين نصحوها بالتوجه إلى المستشفيات العمومية بدل العيادات الخاصة، إلا أنها أكدت "أنها قامت بذلك دون جدوى، بسبب ندرة المخدر كذلك، والبرمجة المكثفة التي ترغم على الانتظار فترةً أطول".
انعدام المخدر في الجزائر يهدد بإغلاق ما يزيد عن 15 ألف عيادة خاصة بطب الأسنان وجراحتها
صفوف الأطباء تثير جدلاً واسعاً
الأزمة التي سجّلتها الجزائر بخصوص المخدر، جعلت الأطباء يترقبون قطرةً منه حتى يذهبوا لجلبها، ولو على بعد مئات الكيلومترات، كما حصل قبل أيام قليلة، إذ انتشرت على نطاق واسع صور لمئات الأطباء الذين قدِموا إلى العاصمة الجزائر من أجل الظفر بعلبة مخدر واحدة.
ولكم أن تتخيلوا طبيب أسنان من ولاية قسنطينة على بعد أكثر من 400 كلم شرق الجزائر، ينتقل إلى العاصمة من أجل جرعات من المخدر، وهو حال الطبيب عبد اللطيف قجار، الذي أكد لرصيف22، أنه متوقف عن العمل منذ أكثر من شهر بسبب فقدان المخدر.
وبمجرد سماعه وبعض الزملاء بتوفر كمية منه، يردف: "ذهبنا إلى العاصمة من أجل إحضار نصيبنا ولو كان قليلاً، إلا أننا لم نتمكن من ذلك، بسبب الأعداد الكبيرة للأطباء الوافدين، والكمية التي لا تكفي حتى لأطباء الأسنان في العاصمة وبعض الولايات المجاورة كتيبازة، البلدية وبومرداس".
صورة أطباء الأسنان وهم في صفوف انتظار المخدر لاقت تفاعلاً كبيراً في منصات التواصل الاجتماعي، حيث أجمعت المنشورات والتغريدات على أنها صورة مهينة لطب الأسنان في الجزائر.
أكثر من 15 ألف عيادة مهددة بالإقفال
"انعدام المخدر في الجزائر يهدد بإغلاق ما يزيد عن 15 ألف عيادة خاصة بطب الأسنان وجراحتها"؛ هذا ما أكده رئيس المجلس الوطني لطب الأسنان رضا محمد ديب، في حديثه إلى رصيف22.
وفوق ذلك يضيف ديب: "الأمر يكون خطيراً حين نتحدث عن الآلام والأمراض التي قد تنجم عن التأجيلات المتتالية للعمليات الجراحية والعلاجية لمختلف المصابين، لذا طالبنا وما زلنا نطالب بضرورة توفير المخدر في أقرب الأوقات.
والحديث عن الإقفال في نظر طبيب الأسنان عبد اللطيف قجار، من ولاية قسنطينة في شرق الجزائر، بات أمراً واقعاً، إذ يقول لرصيف22: "أنا أغلقت عيادتي منذ أزيد من شهر، إذ لا يمكن أن أعِد الوافدين إلى عيادتي بأمر حلّه ليس بين يدي". لذا فالنداء النداء كله للسلطات العليا، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية، "كي يتدخل شخصياً لوضع حد لفقدان المخدر الذي يهدد بعواقب وخيمة هي أخطر من إقفال العيادات ومستقبل أطباء الأسنان"، يضيف.
أين الـ5 ملايين جرعة؟
قبل أزيد من شهر من الآن، وبالضبط في 8 أيار/ مايو 2023، خرج وزير الصحة عبد القادر سايحي، بتصريح قال فيه إن "مخدر جراحة الأسنان متوفر على مستوى المؤسسات الاستشفائية، والندرة غير مطروحة في هذا المجال".
وبعدها بأربعة أيام صرح رئيس المرصد الوطني رضا بلقاسمي، بأن سوق الأدوية في الجزائر ستُدعم خلال أسبوع بـ5 ملايين جرعة مخدر لإنهاء الأزمة.
هذه الأرقام والتصريحات بحسب الطبيب قجار، "لم يُرَ لها على أرض الواقع أثر، فإما لم تتم إجراءات توفير المخدر بعد، أو تم توفيره، وذهب إلى جهات أخرى غير طب الأسنان".
مطالبات بمنع كبار المسؤولين وعائلاتهم من العلاج في الخارج، ما يجعلهم أكثر اهتماماً بواقع الصحة في البلد.
البرلمان يتحرك
أكد عضو لجنة الصحة النائب عبد السلام باشاغا، أن البرلمان لم يقف مكتوف الأيدي حيث تحرك عدد من النواب البرلمانيين الذين قاموا بتقديم طلبات استجواب لوزارة الصحة والسكان وإصلاح المستشفيات، التي أجابت بأن هناك خللاً في دفتر الشروط المتعلق باستيراد المخدر، وأن الأزمة ستنفرج قريباً.
وأضاف أن الأزمة حدثت بسبب سوء تقدير ومماطلة إدارية من جهة، وأخطاء من المورّدين من جهة ثانية، خاصةً أن الكمية الساحقة من هذه المادة يحتكرها شخص واحد أو شخصان، وهذا أمر غير مقبول، حسب قوله، في بلد كالجزائر فيه أكثر من 40 مليون نسمة.
هل عيادات التجميل وراء أزمة المخدر؟
في تصريح لرصيف22، حمّلت طبيبة الأسنان نعيمة، عيادات التجميل القسط الأكبر من مسؤولية ندرة المخدر في السوق، بعدما باتت تستهلك كميات كبيرةً تُستخدم في مختلف عمليات التبييض والشفط وغيرها، خاصةً قبيل مواسم الأعراس صيفاً، أي في هذا التوقيت بالتحديد. ودعت محدثتنا الحكومة لفرض متابعة للكميات التي يتم توفيرها في السوق كي يستفيد منها مستحقوها في الضروريات بدل استعمالها العشوائي والمكثف، وفي أمور ليست من أولويات الصحة العامة.
الأزمة التي تشهدها الجزائر مؤخراً، جعلت الأطباء يقطعون مئات الكيلومترات أملاً في الحصول على قطرة مخدر.
جيوب الجزائريين تنزف
ندرة المخدر في الجزائر، انعكست على أسعاره التي أصبحت لا تطاق، ليؤثر ذلك كله على عيادات طب الأسنان بصورة أربكت المواطن البسيط، وجعلته يتحمل الألم بدل التوجه للعلاج.
فاتح كريم (52 سنةً)، مواطن من ولاية بجاية شرق الجزائر، يؤكد لرصيف22، أن العيادة التي كان يعالج فيها أسنانه، قد رفعت سعر اقتلاع الضرس بنسبة 50 في المئة، فبعدما كان سعره سابقاً يبلغ 1،000 دينار جزائري (8 دولارات)، بات اليوم 1،500 دينار جزائري (12 دولاراً).
وإذا استمر الوضع على هذا الحال يقول فاتح: "سأتخلى عن فكرة اقتلاع باقي أسناني وأتحمل تبعات ذلك؛ بسبب وضعي الاجتماعي الصعب. وعلى الدولة أن تتدخل عاجلاً لكي تسمح للعائلات الفقيرة والمتوسطة بمتابعة برامجها العلاجية المتعلقة بالأسنان".
الطبيب المتخصص في جراحة الأسنان عبد اللطيف قجار، يؤكد أن أسعار العلاج والجراحة في مختلف العيادات ستواصل الارتفاع إذا استمرت أزمة المخدر، إذ إن الكثير من الأطباء باتوا يشترون المادة بأسعار مضاعفة".
هجرة الأطباء الجماعية
يرى الناشط السياسي عثمان بن صيد، في حديثه إلى رصيف22، أن مشكلة المخدر من المشكلات التي قد تسيطر عليها الدولة عاجلاً أم آجلاً، وهذا بعد تسوية مشكلات إدارية متعلقة بالمستوردين وهم على الأكثر اثنان أو ثلاثة.
لكنه يتوقف عند المشكلات التي عششت في الجزائر، ولم تجد الدولة لها حلّاً منذ سنوات طويلة، وعلى رأسها مشكلة الهجرة الجماعية للأطباء نحو الخارج، فالجزائر تحصي وجود أكثر من 28 ألف طبيب هجروا البلد منذ العشرية السوداء في التسعينيات الماضية، منهم 15 ألفاً يشتغلون في المؤسسات الاستشفائية والعيادات الفرنسية.
هذا الإشكال بحسب بن صيد، "جعل المستشفيات الجزائرية تفتقد العديد من التخصصات والكفاءات، كون المستشفيات الأوروبية والخليجية تبحث دائماً عن التخصصات الأندر والكادر الأكفأ".
وما يؤكد واقع قطاع الصحة المريض في الجزائر حسب بن صيد، "هو لجوء المسؤولين وإطارات الدولة إلى العلاج في المستشفيات الغربية، وهو بمثابة اعتراف صريح بفشل المنظومة الصحية في الجزائر".
ويرى محدثنا أنه وبرغم بعض الجهود التي تهدف إلى تحسين الوضع بإنشاء بعض الهياكل المهمة كالمركز الوطني لمكافحة السرطان، والشراكات الجزائرية التركية والجزائرية القطرية، إلا أن القضية ما زالت تتطلب جهداً وتحدياً ووقتاً كبيراً".
أسعار العلاج والجراحة في مختلف العيادات في الجزائر ستواصل الارتفاع الجنوني إذا استمرت أزمة المخدر
الطبيب المتخصص في الإنعاش لهلالي موفق، الذي ترك الجزائر ليستقر في أحد المستشفيات السعودية، يؤكد لرصيف22، أن "الوضع الصحي في الجزائر تعتريه مشكلات عدة، وإذا أرادت الدولة تصحيح مساره، وجب عليها توفير إمكانيات العمل وهياكل تليق بذلك ومحفزات للأطباء".
ويرى لهلالي أن الحل الأنجح لإصلاح المنظومة الصحية في الجزائر، "هو الضغط لسن قوانين تمنع كبار المسؤولين وعائلاتهم من العلاج في الخارج، ما يجعلهم أكثر اهتماماً بواقع الصحة في البلد".
بين حلم اقتلاع ضرس، واقتلاع مشكلات الصحة في الجزائر، عراقيل كبيرة وجهود شاحبة تتطلب وقتاً والمزيد من الانتظار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...