يتماهى حزب الله على المستوى السياسي مع النموذج الأدائي والسلوكي الذي يقدمه في مطلق مناسبة، بحيث يمكن القول في الحزب إنه يحمل مشروعاً سياسياً واحداً فقط لا غير، مشروع اتهام الآخرين وتهديدهم عند كل شاردة وواردة. وهذا المشروع لا يقف على مستوى الخطاب والتصريف السياسي الداخلي في بعض المكاسب من هنا وهناك، بل يصل إلى مستوى الفعل والممارسة، إلى مستوى الإجهاز، إذ إنه لا يكف عن ترجمته في مجموعة إجراءات عملانية لا تقف على مجرد الكلام.
يكاد لا يمر يوم واحد دون أن يشنّ فيه قيادي في حزب الله، أو إعلامي أو منصة مرتبطة به أو قريبة منه، حملة اتهامات وسلسلة تخوينات وتهديدات في كل حدب وصوب. آخر هذه السلسلة كان الهجوم المركّز والمكثّف على الجماعات المعارضة التي اتفقت فيما بينها على التصويت لوزير المالية الأسبق جهاد أزعور، في جلسة انتخاب رئاسة الجمهورية في 14 حزيران 2023، بمعزل إن كان عنوان التوافق يهدف إلى انتصار أزعور أم إلى هزيمة الوزير السابق سليمان فرنجية.
يكاد لا يمر يوم واحد دون أن يشنّ فيه قيادي في حزب الله، أو إعلامي أو منصة مرتبطة به أو قريبة منه، حملة اتهامات وسلسلة تخوينات وتهديدات في كل حدب وصوب
لكن جماعة الثنائي ارتأت عموماً، وحزب الله على وجه الخصوص، الدخول في هذا الاستحقاق من بابه العريض، ليس للتنافس الديموقراطي، بل لمصادرته ومصادرة الرئاسة الأولى المحسوبة من حصة المسيحيين في النظام الطائفي السائد في البلد، والذي يستميت حزب الله في الدفاع عنه، ويستميت في المحافظة عليه حين يصل إلى المناصب الشيعية، وعلى رأسها موقع رئاسة مجلس النواب الذي يتربّع حليفه بري عليه منذ ثلاثة عقود. وبهدف تحقيق رغبته هذه، يعمل حزب الله بلا كلل ولا ملل على إيصال مرشحه فرنجية، فارضاً رغبته على مختلف الأطراف، ومن خارج الإجماع الوطني من ناحية، ومن خارج الإجماع المسيحي من ناحية ثانية، فيفرضه كرئيس أوحد للجمهورية، كرئيس قريب من كل اللبنانيين، إلا أن القريب والبعيد يعرفان أن فرنجية ينتمي سياسياً إلى خط بياني واحد يمتد من بيروت إلى طهران، مروراً بالطاغية السوري. فالحزب يقاتل ويخوض الاستحقاقات ليحافظ على سلاحه، ومواقعه، وتموضعاته، وليكرّس سيطرته على لبنان.
وعلى الرغم من أن أي متابع يستطيع أن يضع يده مباشرة على مجموعة ضغوطات وتهديدات تمارسها كافة القوى السياسية بحق بعضها في لبنان، خصوصاً قوى النظام، إلا أن التصفيات التي طالت الجميع في السنوات الأخيرة كانت من طرف سياسي واحد، لم يتلكأ حزب الله بانتقاده بشكل علني، وتوجيه رسائل التهديد والوعيد إليه بشكل مباشر ودون أي تردّد.
لهذا كانت المعادلة التي تسود البلاد هي التمييز بين المافيا والميليشياـ على اعتبار أن طرفاً واحداً يتحمل مسؤولية نهب البلد، وطرف آخر يتحمل مسؤولية كل عمليات الاغتيالات التي حدثت. وهو ما يضع بعض التغييريين، في هذا الانقسام الأخير في معركة رئاسة الجمهورية، أمام المشاركة في مسؤولية إعادة إنتاج هذا التموضع الذي كان سائداً قبل انتفاضة 17 تشرين 2019، والتي كانت الانتفاضة بمثابة تعبير مباشر عن رفضه، ورفض الثنائية التي تقاسمت البلد وخيراته، ومارست بالتكافل والتضامن فعل محاصصته، فأوصلته إلى الانهيار الضارب بأسسه بشكل جذري اليوم.
إن ما تبقى من حريات، وما تبقى من جماعات تغييرية مستقلة، وما تبقى من لبنانيين يرفضون هذا المنطق السلطوي، أصبحوا في الوسط يتلقون الضربات والإقصائية من كل حدب وصوب
خصوصاً وأن تموضعها خلف أزعور الذي ينتميٍ، على غرار فرنجية، إلى طرف سياسي يتحمّل مسؤولية ما وصل البلد إليه من جدار مسدود، وإن كانت مسؤوليته هي بنسبة لا ترتقي إلى الزعامات التي تدير البلد كما يحلو لها، ومنها فرنجية.
إلا أن المفارقة التي كانت لافتة في هذا الاستحقاق، ليس مجرّد المساهمة في إعادة إنتاج الانقسام العامودي بين 8 و14 آذار، بل هي سلوك بعض قوى التغيير التي انزلقت هي الأخرى إلى استخدام خطاب حزب الله وسلوكه في التعامل مع الآخرين. إذ شاهدنا، وعبر أيام متواصلة، وعلى مختلف منصات التواصل الاجتماعي والمحطات الإعلامية، اتهامات وتخوينات بالجملة من بعض قوى التغيير وبين ما تبقى من قوى 14 آذار وكارتيلات المصارف لكل من لم يوافق على التسوية التقاطعية هذه.
ففي سبيل مواجهة هذه الجماعات لخطاب التخوين الذي يستخدمه حزب الله، لم تتوان هي الأخرى عن تخوين من عارضها، ولم تتوان عن وضع كل من لم يوافقوا على خطابها والتقاطع الذي أقامته، تارة في خانة حزب الله، وتارة في صف محور الممانعة، والتصويب عليهم واتهامهم بهذا الشكل الإقصائي الذي لا يختلف عن إقصائية حزب الله عندما يضع كل من يخالفه الرأي في خانة العميل والمتآمر.
في ظل هذا السلوك التخويني والسلوك التخويني المضاد، يمكن القول إن ما تبقى من حريات، وما تبقى من جماعات تغييرية مستقلة، وما تبقى من لبنانيين يرفضون هذا المنطق السلطوي، أصبحوا في الوسط يتلقون الضربات والإقصائية من كل حدب وصوب، وإن كانت كمية ونوعية العنف الممارس مختلفة بالمضمون وبالشدّة. فالمعركة التي تتغلف بالغطاء الديموقراطي، ويهيمن عليها خطاب استعادة الحريات والعمل المؤسساتي والقانوني، وحماية الحريات السياسية من أي مصادرة وتهديد ووعيد، تكون قد انزلقت في انقلاب يتعارض تماماً مع كل ما تدعو إليه، خصوصاً حين تبدأ هي الأخرى بمصادرة الحريات واتهام كل مختلف، ففي هذه الحالة يمكن البتّ في أن معركة الحريات والقانون انتهت قبل أن تبدأ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم