"كانت أختي تنشر الغسيل على السطح حين سمعنا صراخها، وكنا نشرب الشاي ونأكل الكعك الذي أعدّته والدتي في حوش دارنا. هرعنا إليها لنجدها مرميةً على الأرض والدم يخرج من عروق يدها اليمنى التي أصابتها طلقة طائشة مزّقت جميع الأوردة فيها"؛ تقول هدى (اسم مستعار) من بغداد.
تضيف: "نقلناها على وجه السرعة إلى المستشفى، وفي اليوم التالي سأل أخي الوحيد عن مصدر إطلاق الرصاص، وتم إخباره بأن جيراننا هم من أطلقوا الرصاص فرحاً واحتفالاً بخروج ابنهم من السجن. حدث ذلك في صيف العام 2018. في اليوم التالي، أخبرنا الأطباء بأن أختي قد شُلّت يمينها، فتوجه أخي إلى منزل جيراننا معاتباً: 'أختي انشلت من ورا طلقاتكم، يعني آني أحمّلكم المسؤولية إذا يصير بيها ضرر وأريد الأشخاص الّي كانوا يرمون'".
تتابع هدى: "في ليلة اليوم ذاته، خُطّت على حائط دارنا عبارة باللون الأحمر تقول: 'مطلوب دم'. بعد هذا الرعب، جاء وفد مكوّن من رجال يرتدون الزي العشائري ويطلبون منا فصلاً، وهو مبلغ مادي، بحجة أن أخي تطاول على عشيرتهم، وإن لم نسلّمهم المبلغ المادي خلال ثلاثة أيام سنلقى ما لا تُحمد عقباه. لذنا بالفرار بعد أن حلّ الظلام تاركين أمتعتنا وحاجياتنا وراءنا، خصوصاً أننا على علم بأن لا أحد سيحمينا من سطوتهم، فيما أرسلوا هم إلينا مراسيل على لسان أهل المنطقة بأن دم أخي مهدور. ومن يومها ونحن نعيش في أربيل بعيداً عن مدينتنا ومسقط رؤوسنا بغداد".
سُجلت 150 إصابةً نتيجة الألعاب النارية والرمي العشوائي في ليلة رأس السنة هذا العام في بغداد وحدها
أرقام صادمة
إن قُضي الأمر مع شقيقة هدى بيمناها، فقد وصل إلى نهايات أشد مأساويةً في حالات أخرى وما أكثرها في العراق.
تحدث شياع محمد جاسم البهادلي، الملقب بالشيخ حجي شياع (65 عاماً)، من مدينة الصدر من العاصمة بغداد، إلى رصيف22، عن ظروف مقتل حفيده مرتضى فاضل كريم، البالغ من العمر 10 أعوام، بعدما تعرّض لرصاصة طائشة في صيف 2022. يقول: "ذهب حفيدي (ابن ابنته)، مع والده لزيارة ضريح الإمام الكاظم في الكاظمية، وفي الصحن توجّها للصلاة. وبينما كان مرتضى في الركعة الثانية من صلاته، استغرب والده من طول سجوده، فضرب على كتفه ضربةً خفيفةً منادياً: هل انتهيت من السجود يا ولدي؟ ليتفاجأ بولده مقتولاً برصاصة طائشة استقرت في جمجمته، وأردته قتيلاً على الفور".
يكشف البهادلي "أنها ليست الحالة الأولى في العائلة، إذ سبقتها حالة أخرى قبل عشرة أعوام تقريباً؛ طلقة طائشة أصابت ابن أخي في النخاع الشوكي، في منطقتنا في مدينة الصدر، وهو الآن يعاني من شلل نصفي، وهناك حالات عديدة ومستمرة تستهدف أبناء الحي".
تكرار هذه الحوادث في عائلته ومنطقته، دفع البهادلي إلى دعم الحملات التوعوية التي تحارب الإطلاقات النارية، لأن الوضع لم يعد يُحتمل كما يقول، فمثلاً "مدينة الصدر تشهد في هذه الفترة اقتتالاً راح ضحيته 7 ضحايا، ليست لهم في الخلاف لا ناقة ولا جمل. أصابتهم الرصاصات العشوائية فأنهت حيواتهم". ويضيف في حديثه لرصيف22: "يومياً وحتى الساعة الثانية ليلاً نحن مشغولون بمشكلات ربما تكون مضحكةً مثل خلاف بين عشيرتين أدى إلى الاقتتال بينهما بسبب أطفال اختلفوا في ما بينهم وهم يلعبون في الشارع، فتدخّل الكبار، وراحوا يطلقون النار على بعضهم البعض، ما تسبب في سقوط ضحايا وإصابة آخرين ناهيك عن الأضرار المادية".
لا توجد إحصاءات رسمية عن ظاهرة الرمي العشوائي في هذه الأيام. لكن وزارة الصحة العراقية نشرت على مواقعها إحصاءات رسمية تفيد بتسجيل 150 إصابةً نتيجة الألعاب النارية والرمي العشوائي في ليلة رأس السنة هذا العام في بغداد وحدها، و20 إصابةً في العيون.
فيما تشير البيانات إلى أن مطلع عام 2021، شهد إصابة نحو 84 شخصاً بطلق ناري في الرأس نتيجة الرمي العشوائي، وعلى إثر ذلك فارقوا الحياة.
ويقول الناشط المجتمعي ومدير مؤسسة التجديد للتطوير المجتمعي علي عباس (33 عاماً) من بغداد، إننا لا نمتلك إحصاءات رسمية، ولكن وزارة الصحة أعلنت في السنوات السابقة حصيلة عدد ضحايا الرمي العشوائي، وبلغت 6،000 ضحية. ويضيف: "المواطنون، كل خميس وإثنين، يدخلون في ليلتي إنذار من الرمي العشوائي الناتج عن الأعراس"، ويعبّر عن أسفه لكثرة هذه الانتهاكات بسبب تدخل الأحزاب السياسية الفاسدة في تنصيب شيوخ العشائر ولتداول "السلاح بين أبناء العشائر بسهولة أشبه بتداول أجهزة الموبايل"، ولعدم استمرار الإعلام والمحطات الإعلامية في حملاتها التوعوية.
في الأفراح والأتراح
تشهد العاصمة بغداد والمحافظات العراقية تفشياً ملحوظاً لظاهرة إطلاق الأعيرة النارية العشوائية. فالجميع يعبّرون بإطلاق الرصاص ومختلف أنواع الأعيرة النارية، في الفرح (حفلات الأعراس، الطهور، التخرج، أعياد الميلاد، وفوز المنتخب في كرة القدم...)، وفي الأحزان المتمثلة في العراضات المسلحة للجنازات، وهذا العرف سائد وكلما كان المتوفى ذا شأن في عشيرته تكون العراضة أكبر.
"أخبرنا الأطباء بأن أختي قد شُلّت يمينها، فتوجه أخي إلى منزل جيراننا معاتباً: أختي انشلت من ورا طلقاتكم. في ليلة اليوم ذاته، خُطّت على حائط دارنا عبارة باللون الأحمر تقول: مطلوب دم"
إلى هذا، تنتشر عادات كثيرة يتم فيها إطلاق النيران واللجوء إلى الأسلحة النارية كافة، ومنها ظاهرة "الدكة العشائرية"، وهي عادة قديمة تتمسك بها العشائر، حيث يجتمع أفراد القبيلة بشيوخها، وأولاد عمومتها، ومؤيديها، حاملين السلاح بأنواعه كافة، في بيت عائلة من عشيرة أخرى، ويتم إطلاق العيارات النارية وأحياناً الرمانات اليدوية والراجمات، ويتم بعد ذلك حرق المنزل، ويكون هذا إنذاراً شديد اللهجة لدفع العشيرة المستهدفة إلى التفاوض أو ما تسمى في لغة العشائر "العطوة"، وهو وقت زمني تحدده العشيرة الأولى من أجل دفع الأموال لها، وإن لم يتم الاتفاق يكون الاشتباك (الاقتتال) مفتوحاً بين الطرفين.
ومن الجدير بالذكر، أن مجلس القضاء الأعلى نشر على موقعه الرسمي، دراسات بناءً على كتاب محافظة ميسان لعام 2021، بخصوص موضوع "الكوامة" (هي الخطوة الأولى في الدكة العشائرية وتتمثل في ذهاب العشيرة المعتدَى عليها إلى عشيرة المعتدِي لتأمرهم بقبول التفاوض)، طلبوا بموجبه الموافقة على إدراج التهديد العشائري "الكوامة"، ضمن فقرات قانون مكافحة الإرهاب، لأنها سبب في زعزعة الأمن والنظام، وفي حالة القضاء عليها يتحسن الوضع الأمني بنسبة عالية جداً جداً.
وقد ورد في موقع مجلس القضاء الأعلى أن من النتائج التي تم التوصل إليها من خلال الكتاب المذكور أعلاه، أن "انتشار ظاهرة الدكة العشائرية جاءت نتيجة ضعف مؤسسات الدولة بعد عام 2003 والذي تسبب بنمو نشاط العشائر التي تبنت بدورها توفير الحماية والدعم لأبنائها ما زاد من قوة العشيرة ونفوذها على حساب سلطة الدولة حيث يطالب شيوخ ووجهاء العشائر بالعمل الجاد لإنهاء تلك الصراعات المسلحة كونها تودي بحياة الأبرياء وتتسبب بترويع السكان الآمنين وهي انتهاك لحقوق الإنسان وللقانون". وقرار مجلس القضاء الأعلى التعامل مع الدكة العشائرية وفق قانون مكافحة الإرهاب، خطوة نحو بناء مؤسسات الدولة.
في هذا الجانب، يقول علي عباس، إن "ظاهرة حمل السلاح والرمي أصبحت عادةً ومحل تفاخر وتباهٍ. وما يثير الاستغراب أن الموكلين بحفظ القانون من سياسيين ورجال أمن، هم أبرز المشاركين في هذه الظاهرة، ومن الطبيعي أن تشاهد على مواقع التواصل الاجتماعي عراضةً فيها مئات الأفراد وهم يطلقون النار بأسلحتهم إلى السماء، لكنها تصيب المارة".
وترِد إلى المحاكم العديد من الدعاوى التي يدّعي فيها المجرمون إصابة ضحاياهم بإطلاقات نارية طائشة، وهي حجة للإفلات من العقاب في قضايا شرف أو غسل عار أو خلافات أخرى، حسب ما يقول عباس.
من جهته، يؤكد البهادلي أن الانفلات هو الميزة السائدة في ظل هذه الدولة غير المسيطرة على سلاح العشائر، وضعف القانون واضح خصوصاً لناحية عدم تطبيقه، ويشير إلى أن المفرزات الأمنية المتمثلة في الشرطة وغيرها، في أثناء حدوث الإطلاقات، تركن كالمتفرج، فهي تخشى سطوة العشائر، والسبب عدم امتلاكها إسناداً قانونياً، ناهيك عن الضعف في الجانب القانوني، وفي الدولة التي لا تصغي إلى المواطنين والشيوخ.
قانون العقوبات العراقي عدّ جريمة إطلاق العيارات النارية من الجرائم التي حُدّدت في المادة (495) من قانون العقوبات
القانون هو المسؤول؟
يبرّئ المحامي علي خليل أدهم (34 عاماً)، القانون ويرمي الكرة في ملعب الجهات التنفيذية. يقول إن "المواطنين يضعون اللوم على القضاء، وتتصدر المشهد اتهامات بعدم تحركه في هذا الشأن، وفي الحقيقة القضاء يسير وفق مجراه مستنداً إلى دعوى قضائية، ويطرح المشكلة التي تواجه المواطنين، في حين أن الجهات المسؤولة المتمثلة في حماية بقعة جغرافية ما أو منطقة ما، لم تتحرك تجاه واجبها، فمثلاً يتصل المواطنون للتبليغ عن حالة "دكة عشائرية"، ولكن ما العمل إن امتنع رجال الأمن في الأمن الوطني أو وزارة الداخلية عن فعل أي شيء؟ تُرفع الدعوى حينها على الوزارة المتمثلة في وزيرها".
ويضيف: "قانون العقوبات العراقي عدّ جريمة إطلاق العيارات النارية من الجرائم التي حُدّدت في المادة (495) من قانون العقوبات، وتنص على أن من يقوم بإطلاق العيارات النارية يواجه الحبس لمدة لا تزيد على شهر أو غرامةً ماليةً. بعد ذلك صدر القرار رقم (570) الذي تضمّن التشديد على الحبس مدةً لا تقلّ عن سنة ولا تزيد عن ثلاث سنوات". وفي رأيه، "هناك حاجة إلى تشريع قوانين رادعة تواكب استهتار حاملي السلاح، ولا يستثني القانون المحسوبية الحزبية أو الرتب؛ 'مو هذا ضابط، ولا هذا نائب بالبرلمان... ذولة رجال قانون، التطبيق يبدأ منهم ومحاسبتهم هي بمثابة الاعتراف بالقانون وأداة ردع للمواطنين غير الملتزمين'".
ويعزو أدهم تدخل بعض الشيوخ في قضايا القانون والبت فيها وهي ليست من اختصاصهم بل من اختصاص قاضٍ لا تقل خبرته عن 10 أعوام، إلى أزمات الفساد التي يعيشها البلد، والتخبط الذي يعيشه المواطنون، وانتشار السلاح.
"لذا هناك حاجة ماسة إلى معاقبة من يتصدر المشهد، وحصر السلاح بيد الدولة، وانتزاعه بطرق قانونية من العشائر، والقبض على من يتاجر به مع غلق المحال التي تتاجر بالسلاح في وضح النهار، وتنظيم حيازته برخص قانونية من أجل التعرف على مطلق الرصاصة والوصول إليه ومحاكمته، بدلاً من إزهاق الأرواح يومياً وتسجيل الدعاوى ضد مجهول، ليفلت الجناة من العقاب ولا يتم العثور عليهم ويصبح الناس مهددين برؤوسهم وأطفالهم وأملاكهم، وهذا من أبرز أسباب تفشي الظاهرة"، يقول أدهم.
ويختم حديثه إلى رصيف22، بأن هذه الظاهرة باتت قلقاً يرهب المواطنين، ويستوجب الحد منها، بالإضافة إلى العمل في الجانب القانوني، نشر الوعي الثقافي وتعريف المواطنين بخطورة الظاهرة وعقوبتها من خلال الحملات التوعوية الإعلامية، ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات.
وهو ما يشدد عليه أيضاً علي عباس، للحد من هذه انتشار الظاهرة، بقوله إن المعالجات تبدأ بزيادة الحملات التوعوية، والقانون والتوعية هما الطريق الوحيد للتخلص من هذه الظاهرة التي تحصد الأرواح مثلها مثل الإرهاب، ويوجّه نداء لرصيف22، لتسليط الضوء على حملته التطوعية التي أطلقها في 2019: "لا للإطلاقات النارية لا للرمي العشوائي"، التي شارك فيها عدد من الشباب عبر لصق منشورات توعوية في كل مكان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 17 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت