في السّابق، كان تعريف الشّخص بنفسه من خلال القول: "أنا باحثٌ في سلك الدكتوراه"، يخلق مبدئياً تمييزاً "إيجابيّاً" لشريحة من الباحثين الذين يسلكون أعلى مسار تكوينيّ في الجامعات المغربية، بما يقتضيه ذلك من جدّ وتفانٍ وصبر ومسؤوليّة.
الآن، صار الطالب في هذا المسلك "عاديّاً"، كنتيجة حتميّة للتنميط الذي خضع له مسلك الدكتوراه في السّنوات الأخيرة. لكن أليست المشكلة في أنّ حاملي هذه الشّهادات لم يعد لكثيرين منهم مكانٌ في عالم الشغل، وصاروا اليوم عاطلين عن العمل، مثلهم مثل حاملي الماستر أو الإجازة، إلى درجة أسسوا معها ما يُسمى بـ"تنسيقيّة الأطر العليا المعطّلة في المغرب حاملي شهادة الماستر والدّكتوراه"؟
"هيبة" الأطروحات المتآكلة
"حين يكثر اللّغط، تفقد الأطروحات هيبتها"؛ هكذا يلخص الوضع الباحث في سلك الدكتوراه في العلوم القانونيّة في جامعة محمد الخامس في الرباط، عبد العزيز، متسائلاً بحدّة: من يهتمّ بالدكتوراه اليوم أو بالبحث العلميّ بالأحرى؟ حتى الدولة تعدّه آخر الهموم، وظلت تخصص له طوال سنوات ميزانيةً هزيلةً جداً، أي نحو 0.8 في المئة، في حين أن النّهوض به كان في حاجة إلى ضخ ميزانية تكفل على الأقل 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
يربط عبد العزيز، تراجع "المكانة الرمزية" للدكتوراه بالسّياسات التعليمية الفاشلة: إذا فقدت الدكتوراه قيمتها، فلأسباب سياسية معروفة. فعندما ندمّر الجامعة كفضاء لإنتاج الوعي، وعندما نُشيطن الفلسفة كسبيل للتّفكير الحر والنقدي، وعندما نُفقد الجامعة أساساً السبب الأصل في وجودها: التكوين والبحث العلمي، لا يكون الأمر صدفةً، ولا يمكن أن يكون هكذا. لذا ها نحن ندفع الثّمن غالياً ونحن نرى تصنيف جامعاتنا في ذيل الترتيب عالمياً... تماماً كما نرى "أشباه الباحثين" في الدّكتوراه يناقشون أطروحات غثّةً يوميّاً، وغير متصفة بأبسط شروط البحث العلمي الصارمة.
من يهتمّ بالدكتوراه اليوم أو بالبحث العلميّ بالأحرى؟ حتى الدولة تعدّه آخر الهموم، وظلت تخصص له طوال سنوات ميزانيةً هزيلةً جداً
فهل ينبغي التقاط ما قاله عبد العزيز بكثير من الحذر؟ هذا ما سنعرفه في التواصل مع إبراهيم، الباحث في سلك الدكتوراه في المركز الجامعي للدكتوراه في جامعة مولاي إسماعيل، الذي يجد أن "ما يطبع مسلك الدكتوراه عامّةً، هو نوع من الارتجال ونوع من التسيّب". غير أنه يضيف أنّ الأمر كلّه "يظل في النهاية رهناً برؤية الأساتذة المشرفين في هذه المختبرات ورهاناتهم، لكن علينا أن نشير بموضوعيّة إلى العديد من المختبرات التي تتّصف بنوع من الصّرامة والدقة. ما أودّ الإشارة إليه هنا، ليس مداهنةً أو تزلّفاً، لكن المختبر الذي ننتمي إليه، نعرف جيداً أنه لا يقبل كلّ من هبّ ودبّ في سلك الدكتوراه".
وإبراهيم، باحث في سلك الدكتوراه يخوض في "الخطاب والتكامل في اللغة والآداب والعلوم الشرعية"، ويحاول أن يدافع "بشراسة" أخلاقية عن المركز الذي ينتمي إليه، قائلاً: هذا المختبر منذ سنوات طويلة، سعى إلى تحسين مكانته وسمعته عند الباحثين. لذلك جرت العادة أنّ الأستاذ لا يقبل أطروحة طالب إلا بعد توافر عنصر التعارف بين الأستاذ المشرف والطالب الباحث.
مبدئيّاً، يخلق القول بالتّعارف نوعاً من الحيرة لدينا لذلك ينفي الباحث أنه "يقصد التعارف بالمعنى الشّخصي القائم على الزّبائنية والتمييز والقبليّة، وإنما وفقاً للمعرفة المسبقة التي تكون لدى أساتذة المختبر عن الطّلبة وعن جديّتهم وأمانتهم العلميّة ونزاهة مسارهم الأكاديميّ، وخصوصاً مدى اجتهادهم وقابليتهم واستعدادهم النفسي لخوض غمار إعداد أطروحة جامعية في سلك الدكتوراه".
مكانة على المحك
يقول عبد العزيز، الباحث في سلك الدكتوراه في القانون، إنّ "العديد من الأطروحات، لم تعد سمتها الإبداع والخلق والمسؤوليّة والأمانة والجدّة والفعالية والابتكار... إلخ. إننا ندوس بعنجهيّة على الشّروط التي ظلّت ساريةً في حقل الدّكتوراه في السّابق. كيف يمكن أن نثبت العكس ونحن نعرف جيداً مترشحين لا يتقنون أي لغة أجنبية غير اللغة العربية؟ كيف سيبحثون في مراجع أجنبيّة؟".
بالنسبة لهذا الباحث، "المكانة المجتمعيّة للدكتوراه، على ما يبدو، تحطّمت؛ فالمجتمع الذي كان يحترم الدكتور سابقاً، صار يراه اليوم عرضةً للتنمر في أحيان كثيرة، أي يراه أحمق أو أخرق لأنّه لا يكلّ من الدراسة، والأخطر أنه يعدّه عاطلاً عن العمل، ويغلّف بطالته بالمزيد من التكوين الأكاديمي في جبّة الدكتوراه". في السابق، يقول عبد العزيز: "كان بعض الأساتذة يرغمونك على مناداتهم بـ'الدكتور'، أو 'الدكتورة'. الآن، من يعير قيمةً لهم أو لـ'دكتوراهم'؟ صار معظم الناس يدركون أن الدكتوراه لم تعد امتيازاً ولا شيئاً مستحيلاً، فأيّ منا يمكنه بين عشية وضحاها أن يصير دكتوراً، شرط أن يعرف جيداً أيّ طريق سيسلك".
كان بعض الأساتذة يرغمونك على مناداتهم بـ'الدكتور'، أو 'الدكتورة'. الآن، من يعير قيمةً لهم أو لـ'دكتوراهم'؟
لا يتقاطع إبراهيم مع عبد العزيز في هذه النقطة، موضحاً أنّ لفيفاً من الأساتذة دأبوا، بلا هوادة، على تجنّب العديد من البروتوكولات المفروضة التي أحياناً تعطي المصداقيّة لعملية التّرشح، غير أنها لا تعطي مصداقيةً للمسار الذي ستسلكه الأطروحة في ما بعد. بمعنى أنهم يحرصون على انتقاء طلبة أكفاء حفاظاً على سمعتهم وسمعة المختبر. وهو ما دفع كذلك العديد من الأساتذة أيضاً، ليقترحوا على بعض الطلبة التسجيل للدكتوراه، بحكم معرفتهم المسبقة بالقيمة المضافة التي يمكن لهؤلاء الطلبة تقديمها للبحث العلمي في الجامعات المغربيّة المحتضرة.
لكن هل نحاول أن نكرّس رأياً "عدميّاً" يقول بالنهاية "التراجيدية" لهيبة الدكتوراه في أفق الباحثين؟ ربّما لن ننجح في ذلك كثيراً، بما أنّ باحثين في سلك الماستر مثل محدّثنا عبد الملك مغراوي، لا يسلّم نهائيّاً بأنّ "شهادة الدّكتوراه فقدت قيمتها، لأنّها ما زالت تُعدّ أعلى شهادة وأعلى مستوى علمي أكاديميّ يمكن للباحث أن يصل إليه". ربما يقول مغراوي ما يقول، كونه طالباً يفكر في التسجيل في سلك الدكتوراه قريباً، فسلك الدكتوراه بالنسبة له ما زال رهاناً أكاديميّاً وما زال سقفاً حتميّاً لتتويج المسار الدراسي بأكمله.
عبد الملك مغراوي باحث في سلك الماستر في الكلية المتعددة التخصصات في الراشيدية، وبرغم أنّ سنوات عدة ما زالت تفصله عن إعداد أطروحة الدكتوراه، إلا أنه يركز على هامش الأستاذ في كلّ ما يحدث في مختبرات الدكتوراه. فهو يرى أنّ "هناك الكثير من الدكاترة الأكفاء والمجدين الذين يحاولون الحفاظ على اسمهم ومكانتهم العلمية التي شيّدوها، وتطلب منهم ذلك سنوات من البحث الرصين والجاد، فلا يختارون إلا الطلبة الذين تتوافر فيهم شروط الباحث في حدّها الأدنى".
ولأنّ طبيعة أي وضع في الحياة هكذا: شقّ صالح وآخر طالح، فإنّ المتحدث في تصريحه لرصيف22، يتوجّه بالنقد إلى الأساتذة "المتساهلين"، الذين لا يهمهم سوى عدد الطلبة الذين يشرفون عليهم، والمناقشات التي يحضرونها. هم بهذا ينتصرون على نحو بغيض للكمّ على حساب الكيف. وهذا الفريق من الأساتذة المشرفين هو من هوى بالدكتوراه إلى الدرك الأسفل، لكونهم استباحوا "حرمة" هذه الشهادة، وسمحوا للسطحيين والمتملقين ومن يتسمون بالضحل من القول، بالعبث بصورتها في أذهان الناس.
أي تصحيح ممكن؟
تواصلنا في هذا الجانب مع عميد كلية علوم التربية في الرباط عبد اللطيف كيداي، الذي يصف الدكتوراه بكونها "قضيةً أكاديميةً كبيرةً"، لاعتبارات عدة، يوضحها المتحدث، منها أنها تتويج لمسار، ومن الطبيعي أن هذا المسار ينبغي أن يكون منسجماً من البداية حتى النهاية. فالطالب الذي يطمح إلى التسجيل في الدكتوراه عليه أن يسجل تفوقاً متواصلاً منذ البكالوريا حتى الماستر.
وفق عميد كلية علوم التربية، لوحظت في السنوات الأخيرة ممارسات "شاذة" أخرجت مسلك الدكتوراه من سكّته، لكنها تبقى حالات معزولةً لا يمكن تعميمها
بيد أنّ المشكلة التي نعاني منها في جامعاتنا، حسب ما يقوله كيداي لرصيف22، هي أن الطلبة يعدّون الدكتوراه "حقاً"، برغم أنها امتياز قبل كل شيء، وليست بالضّرورة "حقاً". ولن يحتاج منا الأمر إلى كثير تفكير حتى نقول إنها شهادة للمتميزين فقط، في كل المجالات البحثيّة والمعرفيّة.
وفق عميد كلية علوم التربية، لوحظت في السنوات الأخيرة ممارسات "شاذة" أخرجت مسلك الدكتوراه من سكّته، لكنها تبقى حالات معزولةً لا يمكن تعميمها، لأنّ الأساتذة فطنوا إلى كون الطلبة الفاشلين هم عبء حقيقي ومكلف من كل النواحي. فحين يختار الأستاذ المشرف طالباً جيداً ومتميزاً، فهو يعفيه من ثقل الإشراف؛ ويعرف الأستاذ ضمنيّاً أن اسمه كمشرف سيزداد أصالةً في عوالم البحث العلميّ، لسبب بسيط هو أنّ العمل الذي سيتقدم به ذلك الطالب سيكون مشرّفاً على أصعدة عدّة.
يضيف كيداي أنّ الطالب الباحث في سلك الدكتوراه، اليوم، منوط به أن يتقنّ اللغات الأجنبية، لكي يحرّر مقالاً علمياً سيُنشر في صفحات مجلة عالمية مفهرسة ومحكمة، وهذا سيمنح إشعاعاً لاسم الأستاذ المشرف أيضاً. لهذا، حين تنتقي طالباً متميزاً، ينهي بحثه في وقت وجيز بحكم الاجتهاد الذي يطبع طريقة عمله، ويترك لك فرصاً سانحةً للإشراف على أطروحات أخرى، أما في حال كان الطالب "فاشلاً" أو قدراته البحثية متواضعة، فستكون رحلة الإشراف معه شاقة، وستستنزف كثيراً من الوقت، الذي كان يمكن استثماره في أبحاث أخرى.
النظام المعمول به حالياً، كميثاق الدكتوراه السابق، وكذلك دفتر الضوابط البيداغوجية الوطنية للدكتوراه الذي بدأنا العمل به في 2008، فيهما الكثير من مواطن الخلل. هذا النظام ترك بعض الثغرات التي صارت على شكل انزلاقات لاحقاً. والأساتذة للأسف استثمروها بشكل سلبيّ. لكن هناك الآن مساراً لتصحيح الوضعية. كيف ذلك؟
يجيب كيداي بأنه في جامعة محمد الخامس مثلاً، ارتأت لجنة البحث العلمي أن يتم التّوافق على ميثاق دكتوراه جديد. يقول المتحدث: هذا الميثاق نراهن عليه لحلّ ثغرات مسلك الدكتوراه بشكل نهائي. مثلاً، سيصبح من بين الشروط أنّ الطالب عليه أن ينشر في مجلة مفهرسة ومحكمة، بالإضافة إلى شروط أخرى عديدة تصعّب على الأستاذ أن يختار طالباً دون المستوى. وهذا من دون أن ننسى المجهودات التي تقوم بها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لإصلاح الدكتوراه، برغم أننا نرى أن الإصلاح تأخر كثيراً، لكنه مطلوب بإلحاح اليوم.
وفي النهاية، تكون المعادلة بسيطةً جداً: الأستاذ حين يشرف على بحث طالب ممتاز، فهو يرتقي معه؛ وحين يقبل أستاذ ما الإشراف على أطروحة طالب "كسول"، لأسباب ما، فهو ينحدر معه إلى أدنى درجات البحث العلمي. فكم من أستاذ لدينا مستعدّ لأن يضحي برصيده الأكاديمي نظير تأطير طالب بقدرات بحثيّة "متواضعة"؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 5 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت