من الواضح، اليوم، أنّ التعليم العالي الخاص في المغرب، لم يعد مسألةً نافلةً أو مكوّناً عرضيّاً يمكن الاستغناء عنه داخل المنظومة التعليمية المغربية. إننا أمام منافس حقيقيّ و"شرس" للجامعة العمومية في البلد. وتعضد هذا الطّرح الأرقام التي تشير إلى وجود ما يزيد على 198 مؤسسةً للتعليم العالي الخاص؛ من ضمنها 137 مؤسسةً خاصّةً، و37 أخرى أنشئت في إطار شراكة بين القطاعين العام والخاص، و24 مؤسسةً جامعيةً خاصة.
هذه المؤسسات الجامعية التي ارتفع الإقبال عليها في مختلف المجالات والاختصاصات بما فيها الحسّاسة: الصحّة والتدبير، والهندسة ومختلف العلوم الاجتماعية والقانونية والإنسانية، هذه الجامعات والمعاهد تستقطب أكثر من نصف مليون طالب، ولعلّ هذا رقم، ربما، لا يمكن الاستهانة به، بل يمكننا عدّه مؤشراً على المكانة التي باتت تحتلها هذه المؤسسات الخاصّة. بـارتفاع بلغ 31 في المئة ما بين 2017 و2021، أصبحت الجامعات الخاصة تثير المخاوف في أوساط طلاب الجامعات الحكومية.
يثير التعليم الجامعي الخاص في المغرب مخاوف من أن يُفرغ القطاع الجامعي العمومي، الذي يعاني أصلاً، من كل طاقاته، ويصبح مسمارا جديدا يطرق في نعش الحق في التعليم
كانت معطيات صادرة عن وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي والبحث العلمي، في أواخر سنة 2021، قد أكدت أنّ عدد الطلبة في قطاع التعليم العالي الخاص في المغرب، سجل نمواً سريعاً في الأعوام الأربعة، وبلغ عدد الطلبة في المؤسسات الجامعية الخاصة، في موسم 2021، نحو 57،222 طالباً؛ وهو ما يمثّل 6 في المئة من إجمالي طلبة التعليم العالي المغربي.
هذا التحول يطرح العديد من الأسئلة لعل أهمها ما إذا كان القطاع الجامعي الخاص بديلاً إستراتيجياً عن القطاع العام، كما حدث في التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي؟
البديل لـ"قاعة انتظار كبرى"؟
في تصريحات إعلامية، قال أحمد العمراني، رئيس منتدى المدارس العليا في المغرب، ونائب الرئيس العام لفدرالية التعليم الخاص وهي عضو في الاتحاد العام لمقاولات المغرب: "في ما يخص الرفع من جودة التعليم والتكوين، فقطاع التعليم العالي الخاص قد نجح، بنسبة كبيرة، في تحقيق هذا الهدف؛ من خلال النجاحات التي حققها بتمكنه من إدماج الطلبة المتخرجين من المدارس العليا في سوق الشغل بنسبة تفوق 90 في المئة (...) ومن خلال اعتراف الدولة بعدد من هذه المدارس، بجانب الجامعات الخاصة التي بيّنت نجاعة مشروعها".
المثير، هنا، أن العمراني يكشف أنّ "قطاع التعليم العالي الخاص يوفر للدولة ما قدره 550 مليون درهم ويساهم في حل إشكالية البطالة بتوظيف ما يقرب من 15% من الأساتذة العاملين في التعليم العالي (8،500). كما أن القطاع يوفر للدولة أكثر من مليار ونصف درهم وهذا يخفف من أعباء ميزانية الدولة المخصصة للتعليم العالي".
كما يبرز نائب الرئيس العام لفيديرالية التعليم الخاص، أنّ "قطاع التعليم العام الخاص (ابتدائي، إعدادي وتأهيلي)، يساهم في مؤسسات راقية مكّنت من تكوين أجيال تم إدماجها في المدارس العليا ذات الاستقطاب المحدود ومدارس المهندسين بنسب جد مرتفعة". وأضاف أن ارتفاع عدد المؤسسات في هذه الأسلاك يُعدّ مساهمةً في توفير ميزانية الدولة بما قدره نحو خمسة مليارات ومئتين وثمانية وثلاثين مليون درهم، وتضمّ ما يقرب من سبعين ألف أستاذ.
بالنسبة إلى الأستاذ الجامعي علي اليوسفي علوي، فإن الرهان تركّز على التعليم العالي الخاص حين بدا أنّ "الخلل الأول في الجامعة المغربية يكمن في أنّها لم تُتصور كرافعة للبحث العلمي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإنما كوسيلة لتخريج موظفين أو "يد عاملة" تغطي الخصاص في التعليم ومختلف مرافق الوظيفة العمومية. لذلك، ما أن "حقق" المغرب ما يعدّه "اكتفاءً ذاتياً" في الوظائف حتى أصبحت الجامعة عبئاً على الدولة من جهة، ومرتعاً لتخريج جيوش العاطلين من أبناء الطّبقات الفقيرة، خاصةً من لم تمكّنهم معدلاتهم في الباكالوريا من ولوج كليات الطب والهندسة وما شاكلها، أي الذين لا يجدون مفراً من اللجوء إلى الجامعة كقاعة انتظار كبرى".
إذا كانت المدارس الحرة تعبيراً عن أزمة التعليم العمومي وفشله، فإن الجامعات الحرة، تعبير عن أزمة التعليم الجامعي الحكومي وفشله بالضّرورة
رأى اليوسفي علوي، وهو أستاذ زائر في الجامعة الدولية في الرباط، في تصريحه لرصيف22، أنّ ما يدل على تراجع التعليم العالي العمومي هو ضعف الميزانية المخصصة للبحث العلمي. ومما يزيد من أزمة الجامعة أنها غير مرتبطة نهائيّاً بسوق الشغل، وأن معظم أساتذتها مجرد موظفين ينتظرون رواتبهم الشّهرية للدخول في دوامة الاستهلاك، وأن البحث العلمي الرصين آخر اهتماماتهم. ولهذا، في هذا السّياق المسدود الآفاق تأتي الجامعات الحرّة التي تُعدّ استمراراً طبيعياً للمدارس الخصوصيّة في الابتدائي والإعدادي والثانوي.
ورأى أنه إذا كانت المدارس الحرة تعبيراً عن أزمة التعليم العمومي وفشله، فإن هذه الجامعات الحرة، أيضاً، تعبير عن أزمة التعليم الجامعي وفشله بالضّرورة. فـ"الجامعات الخصوصية، مخرج مؤقّت من هذه الأزمة إذ إنها تدرّس تخصصات مرتبطةً بسوق الشغل سواء في العلوم الحقة أو في العلوم الإنسانية، ولكنها، وعلى الرغم من تقديمها منحاً لبعض الطلبة المتفوقين من أبناء الفقراء، لا تشكل حلاً وطنياً ناجعاً وشاملاً لأنها تحل مشكلة الميسورين الذين يمكن أن يستفيد أنجبهم من تعليم ذي جودة محترمة، من دون أن يحتاجوا إلى الرحيل إلى بلدان أجنبية للبحث عن هذه الجودة"، يضيف.
لكنّ الخطير في الأمر، كما يتصوّر المتحدث، أن "هذين النمطين من التعليم سيكرّسان التمييز بين المواطنين حسب المستوى الاجتماعي: التعليم الجيد والمنفتح على آفاق مستقبليّة داخل الوطن وخارجه، لأبناء الميسورين، والتّعليم الرديء والمحدود، أو المنعدم الآفاق لأبناء الفقراء، وهذا طبعاً ليس في مصلحة الوطن ولا في مصلحة تماسك مختلف مكوّناته".
الجامعات الحرّة: حلّ فردي؟
يحدثُ أنه كلّما أثير جدل التعليم العالي الخاص، يتمّ استحضار "العرض الجيّد"، الذي قد تقدمه الجامعات الخاصة للأسر الميسورة والمتوسّطة في المغرب. هذا العرض، وفق هذا التّصور، يعفي هذه الأسر من الاستثمار في إرسال أبنائهم للدراسة في الخارج، كما شرح لنا علي اليوسفي علوي. لكن، هل هذه حالة المغرب حقّاً؟ أم أنّ الرهان على التعليم الخاص يؤدي إلى تعميق أزمات التعليم العمومي العالي، ما يدفع الآباء اضطراراً نحو التعليم العالي الخاص؟
رأى حسن أحجيج، الأستاذ الباحث في علم الاجتماع في جامعة محمد الخامس في الرباط، أنه يمكن أن "تكون الجامعات العمومية مراكز تعليميةً نابضةً بالحياة. لكننا نلاحظ أنها في الواقع تتسبب في كوارث في التكوين والبحث العلمي. ولا أعتقد أن السبب يرجع في الأساس إلى قلة الموارد المالية، فهي مقارنةً بمثيلاتها الخاصة تتوفر على بنية تحتية ومرافق أفضل، وأجهزة بيداغوجية رقمية وغيرها".
على هذا النحو، يقول أحجيج لرصيف22، إنّ الأمر يتعلق أساساً بعوامل أخرى من بينها الاستقطاب غير المحدود الذي لا يخضع لأي معايير انتقائية وتوجيهية، مما يجعل من الصعب وربما من المستحيل بالنسبة إلى الأستاذ الاستثمار في التدريس الفردي لأن الاكتظاظ لا يسمح له بالتّعامل مع كل حالة حسب خصوصيتها. بينما إستراتيجيّة التّدريس الفردي تشكّل إحدى الخصائص المركزيّة في التعليم الجامعي الخاص بسبب الاستقطاب المحدود.
التعليم الجيد والمنفتح على آفاق مستقبليّة داخل الوطن وخارجه، لأبناء الميسورين، والتّعليم الرديء والمحدود، أو المنعدم الآفاق لأبناء الفقراء، وهذا طبعاً ليس في مصلحة الوطن
أيضا، يشير المحدث، هنا، إلى اعتماد التعليم الجامعي العمومي في التوظيف على الزبائنية والمحسوبية وما يسمى بالنزعة القبلية الجامعية، والتي تعني ببساطة أن معظم مناصب العمل الأستاذية تمنحها الجامعات بسخاء للمرشحين الذين تخرّجوا منها، مما يغرقها بأساتذة لا يتوفرون على أدنى الشروط العلمية والبيداغوجية الضرورية للقيام بمهمة التدريس والبحث العلمي. بينما الأساتذة الأكفاء المنتمون إلى الجامعة العمومية يتم استقطابهم من طرف الجامعات الخاصة بفعل التعويضات المجزية، مما ينعكس إيجاباً على مردوديتها.
مجمل القول، حسب أحجيج، أن ثمّة مأزقاً تعاني منه الجامعة العمومية في ما يتعلق بالنّقص الحاد في عدد الأساتذة، مما يجعلها تلتجئ إلى طلبة الدكتوراه الذين يفتقدون إلى الخبرة البيداغوجية الضرورية، ويتم تكليفهم بتدريس العديد من الدورات التمهيدية، وأحياناً العليا، من دون مواكبة أو تأطير بيداغوجي، فيما تحرص الجامعات الخاصّة، بفضل الأجور الجيدة والحرص على تأمين مكانتها التنافسية في السوق، من خلال توظيف أساتذة ذوي كفاءات تعليمية جيدة وخبرة بيداغوجية مقبولة، والذين ينتمي عدد مهم منهم إلى التعليم الجامعي العمومي.
مبدئيّاً، يتقاطع الجامعي والكاتب مصطفى اللويزي مع أحجيج، إذ يرى أنّ "التعليم العالي الخاص، ينسجم مع رؤية عامة يمكن إرجاعها إلى فكرة التخلص من التعليم العمومي المجاني كمكتسب، كونه وفقاً لهذه الرؤية قطاعاً غير منتج، ولتشكيله كذلك عبئاً على ميزانية الدولة. هذا توجه بدأ في بداية الثمانينيات من القرن الماضي واستمر حتى الآن بمصوغات متعددة وبمبررات لا تغوص في عمق الأشياء، وهي التخلي عن مكتسب عمومية ومجانية التعليم لفائدة الرأسمال الذي يعبث اليوم بقطاع حسّاس وإستراتيجي، وهو ما يؤثر على المنظومة المجتمعية برمتها".
وَهْمُ جودة التعليم الخاص العالي واضح، حسب ما يراه اللويزي في حديثه إلى رصيف22، وذلك لكون المؤسّسات تعتمد اليوم بشكل واضح على أطر التعليم العالي العمومي وتشتغل على إبهار "الزبائن" بواجهات وأنشطة وحملات ترويجية غالبيتها كاذبة، لكنه جذاب لفئات وسطى أصبح همها ليس إنقاذ التعليم العمومي، بل إنقاذ أبنائها.
كخلاصة، يقول المتحدّث إننا نقف اليوم أمام "زبائن" اختاروا الحلول الفردية، أي الاعتناء بأبنائهم أوّلاً بدل الحل الجماعي الذي يقتضي الدفاع عن الجامعة العمومية. وصمت الدولة عن اشتغال عدد من أطرها في التعليم العالي الخاص هو نوع من "الرشوة" لهذه الأطر التي هي الأخرى تسكت عن خصخصة التعليم العالي، التي تضرب في العمق ديمقراطية العملية التعليمية وتخلق الهوة بين فئات المجتمع الواحد وتخلق لنا فلسفات متباينةً في تكوين أبنائنا وتالياً تنتج مواطنين متباينين من حيث الولاء والانتماء.
في النهاية، يبقى التعليم العالي الخاص ظاهرةً مستحدثةً، وآخذةً في التزايد، كثر حولها القيل والقال، خلافاً لمستويات تعليمية أخرى أصبح التعليم الخاص هو السائد فيها وحاجزاً اجتماعياً بين أبناء الفقراء والطبقات المتوسطة والغنية. فلكلٍ مدرسته وحياته. إنها ظاهرة حمّالة أوجه، فهي من جهة تقضي على البطالة كما يقول المدافعون عنها وتقدم حلاّ آنياً للمعضلة، لكنها من جهة أخرى تحطّم حقّ المغاربة في تعليم جيد يتمّ الولوج إليه بشكل عادل وديمقراطي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون