أسكن مع آلاف الطالبات في سكن الجامعة الداخلي. فنحن القادمين من مدن وقرى غير محيطة بالعاصمة، نسكن في هذا السكن، والأمر غالباً لا يكون اختيارياً، فلا تُصرف لنا زيادة لتسهيل قرار الاختيار، لذلك غالباً لا يكون أمامنا سوى خيار السكن الداخلي. يمكنني تلخيص هذه التجربة بأنها سيئة عموماً، مجازاً وحرفياً. طبعاً لا نتحدث عن عواطفنا تجاه الرفقة وغيرهم، فهي ليست بالأمر الجلل. ولكن نتحدث عما تتركه هذه التجربة، من أثر سيئ على نفوس هذا العدد من النساء.
التأخير. المصدر: الكاتبة
أضطر عموماً إلى أن أسكن في غرفة مشتركة مع فتاة توزعها عمادة شؤون الطلبة، في غرفة صغيرة جداً كجحر فأر، فيها سريران عليهما مراتب مهترئة وقديمة، وسجاد قديم جداً ومتسخ، وفيها مغسلة صغيرة يحيط بها الصدأ، وطاولة وخزانتان ورفّ للكتب. غرفة تشبه الزنزانة، وهنا يبرز نوع من الكوميديا السوداء التي نمارسها دوماً نحن الساكنات في السكن الداخلي، إذ نعدّ أنفسنا معتقلات، وأن المجمع السكني هو مجمع سجون، والوحدات السكنية هي العنابر، وغرفنا زنازين. هنا يكمن عمق المعاناة، ويتمثل بسخرية، لأن السجّان يعلم أنه سجّان مسبقاً، لكن المسؤولين هنا لا يعلمون أنهم سجانون وإنما يظنون أنهم حماة الفضيلة.
أسكن مع آلاف الطالبات في سكن الجامعة الداخلي. فنحن القادمين من مدن وقرى غير محيطة بالعاصمة، نسكن في هذا السكن، والأمر غالباً لا يكون اختيارياً
يومياً، في الساعة التاسعة، أنزل من غرفتي في الطابق الثالث، لأذهب إلى قاعة ضيقة في ذلك المجمع السكني، لأثبت للمشرفة، تواجدي في السكن، وشرفي وأخلاقي... أنزل مجبرةً عموماً، فغالباً ما تمارس هذه السلطة عليك نوعاً من التهديد: إذا لم تنزلي سنتصل بوالدك ونخبره بأنك لستِ في السكن... ولنا أن نتخيل، أو نحاول تخيّل نتائج هذا النوع من الأفعال، وإن لم تحدث كثيراً، وما سيؤدي إليه من مشكلات، أهمها الانقطاع عن الدراسة. أنزل يومياً، وغالباً ما يكون حتى هذا النوع من التصرفات و"الخدمات"، غايةً في السوء، فلو أن المجمع السكني فيه 9 وحدات سكنية، وفيه آلاف الطالبات، لا يوجد سوى 3 مشرفات يقمن بِعَدّ الطالبات. أنزل وأقف في خط طويل، لتتأكد المشرفة بأننا في السكن وفي الجامعة، ثم تبعثنا إلى غرفنا، مع التأكيد على أنه لا يمكننا الخروج من السكن بعد التاسعة مساءً، فهذا ذنب، ودليل على انعدام الشرف، وانعدام الأخلاق! في العادة، وقت الاختبارات، نذهب إلى مكتبة الجامعة لنذاكر، والمكتبة في الأغلب تعمل 24 ساعةً في فترة الاختبارات، ولكن يبرز مشهد قمة في الذل واللا أخلاقية، وهو بين الساعة الثامنة والنصف والتاسعة، حين تخرج أعداد كبيرة من البنات، عائدات إلى السكن الداخلي... ويظل الأولاد على كراسيهم، يذاكرون. يمكننا بسهولة تصور عمق هذا الشذوذ الأخلاقي، وحجم الفجوة بين الطلاب على مقاعد الدراسة، والفرق بينهم أن جزءاً منهما ذكر، والآخر أنثى.
فصل بين الجنسين. المصدر: الكاتبة
غالباً ما يكون هذا النوع من الهبوط موسوماً بالألم والإذلال. أذكر عدد المرات التي كنت مريضةً فيها، وعدد المرات التي كنت أتألم فيها بسبب الدورة الشهرية، وكنت أنزل بالرغم من ذلك لإثبات وجودي. لم يكن هناك أحدٌ يهتم. قد تكون المشرفة متساهلةً، وقد تكون عكس ذلك، وفي كل الحالات كانت تقوم بعملها لا أكثر.
نحاول بخوف كسر هذه القوانين لإيماننا بأنه ليس من حق أحد فرض قيود علينا.
أعود إلى البيت بشكل شبه أسبوعي، لأن الحياة في السكن غير محتملة، لذلك أختار العودة على طريق مدة قطعه ساعتان، وهنا في عملية الخروج من السكن أيضاً يظهر شكل جديد من الوصاية، إذ إن خروجي من السكن يحتاج إلى تصريح، وهذا التصريح هو ورقة توقّع عليها المشرفة وتختمها بختم الجامعة، ومكتوب عليها اسمي واسم المصرّح له الذي يجب أن يكون قد سجّله ولي الأمر في بداية كل فصل دراسي، بحيث أنه لا يحق لي الخروج مع خالي مثلاً، إلا اذا كان والدي قد سجله في قائمة المصرّح لهم بذلك، وليس هذا فقط بل يجب أن تكون هناك قرابة بيني وبين المصرّح له، وهناك نوعان من التصاريح؛ تصريح مبيت، إذا رغبت في أن أخرج للمبيت خارج السكن، وتصريح مؤقت؛ أي حتى الخروج من المدينة الجامعية وأسوارها ممنوع في اليوم الدراسي من دون ورقة تثبت خروجي، وطبعاً هذا يتم إذا وافقت المشرفة أو كانت متواجدةً في قاعة التصاريح، وهذه العملية بالرغم من أنها أصبحت روتينيةً إلا أنها مليئة بالذل والشعور بالذنب والخوف.
نحاول بخوف كسر هذه القوانين لإيماننا بأنه ليس من حق أحد فرض قيود علينا، لمجرد أننا بنات ونسكن في سكن داخلي مجاناً، فنخرج ونعود متأخرين إليه، وأحياناً كثيرةً نقضي وقتاً نتحدث خلاله بجانب البوابة فقط ليسجلنا أمن السكن متأخرات. وبالرغم مما يحمله هذا النوع من المقاومة من إذلال كنت أحاول تجنّبه، إلا أنني كنت أشعر بنوع من الحبور لأنني أكسر قوانينهم؛ أخرج بلا تصريح عندما أرغب أو عندما أخرج مع أحد ليس مكتوباً في القائمة اللعينة، وأخرج مع صديقاتي اللواتي يعشن في العاصمة في سياراتهن، ولا أنزل للتوقيع. أتعرض بالرغم من ذلك لنوع من فرض الحدود من قبل المشرفة، فتسألني لماذا لا أنزل للتوقيع؟ ولا أبالي كثيراً. عدد كبير من صديقاتي ومعارفي يفعل الشيء نفسه، وأعتقد أنه شكل من المقاومة وإثبات أننا نملك رأياً وصوتاً.
أمن السكن الداخلي من الخارج. المصدر: الكاتبة
هناك كثيرات من البنات اللواتي يؤمنّ بأن هذا النظام لمصلحتهن، ويتحدثن ويدافعن عنه بضراوة، ولا نستطيع لومهن. في إحدى المرات دخلت في نقاش مع إحداهن وكانت تدافع، من منطلق أنه ليست "كل البنات جيدات"، ومن الممكن أن يفعلن أشياء سيئةً، فرددت عليها بأنكِ تثقين بنفسك، وتثقين بأخلاقك التي تدّعينها، ولكن تجدين أن من حق أي شخص يمتلك نوعاً من السلطة أن يأتي ويمنعك لمجرد إيمانه بأن ما تفعلينه خطأً... ليس من حق أي شخص أن يعاقبك على أي خطأ أخلاقي كالخروج مع حبيب أو صديق. أنت تحكمين على الأمور وتختارين ما ترينه صواباً.
نحاول بخوف كسر هذه القوانين لإيماننا بأنه ليس من حق أحد فرض قيود علينا، لمجرد أننا بنات ونسكن في سكن داخلي مجاناً، فنخرج ونعود متأخرين إليه، وأحياناً كثيرةً نقضي وقتاً نتحدث خلاله بجانب البوابة فقط ليسجلنا أمن السكن متأخرات
تتحدث كثيرات من الفتيات عن حالات تحرش لفظي و"ترقيم" من أعضاء الأمن عند البوابات، فإحدى قريباتي تعرضت لموقف كهذا، إذ قد كانت تمشي هي وصديقاتها داخل سور السكن ليلاً، واقتربن من البوابة، فبعث لهن شرطي الأمن وحامي الشرف "بلوتوث airdrop"، يحمل حسابه على سناب شات. هنا تكمن المفارقة، وكما يُقال: "حاميها حراميها"، ويظهر مدى عمق الانحراف الأخلاقي في شكل نظام الوصاية هذا، حيث يعود إلى أصل فكرة أن المرأة تحتاج إلى ملاك "شيطان" وصيّ يراقب تحركاتها ويحمي شرفها، ويحميها، وتجد أن هذا الحامي هو من يتحرش بها. هذا التناقض ليس إلا مساراً طبيعياً لهذا النوع من الانحراف الأخلاقي.
غالباً ما تتكرس هذه الفكرة في مخيلة الكثيرات من الفتيات، سواء برغبتهن أو لا، بأنه يجب أن يكون هناك شخص يتحكم في أسلوب حياتهن، ويحدد الخطوط الحمراء لهن، سواء كان أباً أو أخاً، أو زوجاً أو حتى حبيباً، ما يخلق شخصيات ضعيفةً ليست لديها قدرة على الاحتجاج أو التمنع، تنصاع للأوامر بروتينية كما كانت تنزل من غرفتها لتقف في صف طويل لتتأكد المشرفة من أنها موجودة في أسوار السكن.
غرفة التوقيع. المصدر: الكاتبة
تستمد الشعوب المقموعة قوتها كسلطة أبوية، بقمع المرأة بنفسها، فهذا يجعل الشعب المقموع الذي تم تجهيله، يمارس القمع الممارَس عليه، على من هو أقل منه في الهرم الاجتماعي الذي صنعته السلطة
تستمد الشعوب المقموعة قوتها كسلطة أبوية، بقمع المرأة بنفسها، فهذا يجعل الشعب المقموع الذي تم تجهيله، يمارس القمع الممارَس عليه، على من هو أقل منه في الهرم الاجتماعي الذي صنعته السلطة. هنا يمكن أيضاً استمرار هذا النوع من التجهيل، بجميع أشكال الحقوق الأخرى، ويبدأ بالتجاهل والجهل بحقوق المرأة كإنسان تام لا يحتاج إلى وصاية، وهذه الوصاية الأبوية ووصاية الدولة على المرأة ليستا سوى إفراز لثقافة المجتمع، والسلطة التي تحاول التعاون مع الأبوية لتخلق ربما نوعاً من التوازن لإرضاء المجتمع الذي تكرست فيه صور التمييز بسبب الدين والرأسمالية الاقتصادية والاجتماعية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون