شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"كلها يوم وتخرج بالسلامة"... اليوم الذي أصبح أبداً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والنساء

السبت 20 مايو 202302:05 م



الخميس 6 إبريل 2023

انتصف شهر رمضان. أستيقظ على صوت بناتي الصغيرات يتشاجرن. دون سابق إنذار أشعر بِهَمّ يجثم على صدري، تثقل معه أنفاسي. أحاول أن أتفادى جيشاً من الخواطر السيئة هجم على عقلي. أتصفّح فيسبوك بملل، أٌلبّي طلبات بناتي بشكل روتيني سخيف. أتشاجر معهن، فيعلو صوتي كالعادة. ينشغلن بمتابعة قنوات الكارتون بينما أختبئ أنا داخل المطبخ لساعات. أشرد لحظات. أتذكر فجأة حلم ليلة أمس الذي أفزعني؛ فيتردّد في أذني صوت النسوة المجهولات وهن يطلبن مني ارتداء الأسود، فينقبض قلبي.

أمسك بهاتفي، أبحث في قائمة الأغنيات عن غنوة "سبحة رمضان" فتتردّد كلماتها في الأرجاء بصوت الثلاثي المرح، أتشبّث بنغماتها وأنا أردّدها رغماً عني علّني أطرد أصوات النسوة من عقلي.

تمر ساعات وأنا كالثور الدائر في ساقية لا تتوقف عن الدوران. أعدّ طعام الإفطار، أرتب المنزل، أخرج الغسيل من الغسالة، أنشره في الشرفة، أطبّق الجاف، أرتّب الخزانة، أطعم الصغيرات وأتصل بزوجي، لكن لا شيء يفيد. حتى حدث ما كنت أخشاه.

عبر اتصال هاتفي عرفت أنها دخلت في غيبوبة وتم حجزها في العناية المركزة. فعلتها أمي وأكّدت حدسي.

20 أغسطس 2014

تجلس أمي في فراشها تبكي بينما تجري الاستعدادات على قدم وساق لحفل زفافي المنتظر بعد خمسة أيام. أسمع نحيبها فأنتفض مسرعة، أحتضنها قلقة، أسألها عن السبب فتبادر: "خلاص هاتسيبني وتمشي". أبكي لبكائها وأمزح معها: "هاسيبك وأروح فين .. هاجيلك كل أسبوع". تضحك بألم وتقول: "بيني وبينك تلات ساعات سفر، يا عالم هاشوفك كل فين وفين".

قبضة القلب تلك أصبحت رفيقة المشوار، فكلما تسلّل إلى أذني صوت مقرئ للقرآن؛ أشمّ رائحة الموت، وأنتفض فزعة من فراق أمي، حتى لو كان مجرد فكرة عابرة... مجاز

تطعنني جملتها؛ فأقسم لها أنني لن أتقاعس عن زيارتها بشكل دائم، تبتسم وتردّد: "عشتي غريبة وخدتك النداهة وانت بنت 17 وبقالك قدّهم متغربة ما بين جامعة وشغل، بس ولا مرّة كنت بعيدة. المرة دي هاتبعدي أوي، الحياة هاتاخدك وحكمك ما بقاش في إيدك".

7 إبريل 2023

قبل أن يشير عقرب الساعات إلى الثانية عشرة صباحاً كنت أمام سريرها. أمي التي ملأت الدنيا حركة، ها هي ملقاة على الفراش أمامي بعد أن التهمت الجلطة أكثر من نصف مخّها فجأة. لا تحرّك ساكناً، ولا يربطها بالعالم سوى أنابيب ومحاليل وأجهزة. أقف أمامها، أتذوّق للمرة الأولى طعم دموعها التي سالت قبل زفافي منذ ثماني سنوات. وأدرك حجم الألم الذي شَعرت به. اللعنة على المسافات. كانت تدرك أنها سوف تحول بيننا ذات ليلة، وتغيب فجأة دون أن أودعها، لكنني لم أفهم حينها.

نمت وأنا أردّد جملة واحدة: "في أمان الله يمّه"، فقد أدركت لحظتها أنها ذهبت

ألمس خدّها بأطراف أصابعي، وتتأمّل عيناي ملامح وجهها التي زادت جمالاً على جمالها. أدرك من إشراقة وجهها المباغتة أنها في طريقها للذهاب بلا رجعة؛ فتسيل دموعي دون توقف. أطالبها أن تعود لوعيها لتكذّب حدسي هذه المرة، فلا يأتيني ردّ.

كيف شعرت قبل الغياب؟ هل تألمت؟ ماذا قالت، وأي شيء تمنت؟

زارت أمي العناية المركزة خلال العام الماضي أربع مرات، كنت معها في أغلبها. تدخلها كل مرّة للمراقبة والاطمئنان ليس إلا. تدخلها واعية، تضحك لمشاكساتي وقد تبادلنا الأدوار، وأصبحت أنا أمّاً لها، أطمئنها بأن كل شيء سوف يمرّ، وأنها "كلها يوم وتخرج بالسلامة".

كنت أتركها على فراشها بقلب مطمئن. وأنا أعرف جيداً أنها سترافقني للمنزل بعد يومين على الأكثر. لكن هذه المرة لم يطاوعني قلبي على الذهاب. وددت لو بقيت بجوارها، فكيف أتركها وحيدة في فراش بارد وأذهب أنا لأنام في بصحبة زوجي وبناتي الصغيرات. لكنها القواعد التي عشت أحترمها. لا مرافق في العناية والصباح رباح.

أحد أيام صيف 1985

من نافذة بيت جارنا يتصاعد صوت المقرئ الشيخ مرتلاً آيات من الذكر الحكيم. تنصت له نسوة اتشحن بالسواد واحمرّت عيونهن من البكاء. تبادر إحداهن باللّطم من حين إلى آخر وهي تصرخ "آآآه يمّه"، فينقبض قلبي و أفرّ هاربة من أمام النافذة، لأعود إلى دارنا أبحث عن أمي، وأرمي بجسدي الصغير بين أحضانها، لأتأكد أن ملك الموت لم يقبض روحها كما فعل بجارتنا.

ألمس خدّها بأطراف أصابعي، وتتأمّل عيناي ملامح وجهها التي زادت جمالاً على جمالها. أدرك من إشراقة وجهها المباغتة أنها في طريقها للذهاب بلا رجعة؛ فتسيل دموعي دون توقف... مجاز

قبضة القلب تلك أصبحت رفيقة المشوار، فكلما تسلّل إلى أذني صوت مقرئ للقرآن؛ أشمّ رائحة الموت، وأنتفض فزعة من فراق أمي، حتى لو كان مجرد فكرة عابرة.

عشت سنوات عمرى أهرب من فكرة فقد "الست زكي" تلك المرأة التي كنت أصفها دوماً بأنها "زي كل الأمهات... ما فيش زيها". تفردت أمي باسمها الذي كان وقعه غريباً دوماً على أذن كل من يسألني عن اسم أمي. اندهاشة يصحبها تقطيب للوجه، يليه ابتسامة عريضة، كنت أشعر معها ببعض الخجل، فصرت لا أذكره كثيراً واستبدله بكنيتها. لكنني ومع تقدم العمر بي أدركت تميزه واختلافه. فأصبحت أردّده بفخر واعتزاز بأن اسم أمي لا يشبه أي اسم، فهي "الست" التي لم يخلق مثلها في البلاد في نظري.

12 إبريل 2023

على باب غرفة العناية المركزة أقف عاجزة، أتابع الممرضات وهن يؤدين عملهن بآلية تذبحني. أمي التي كانت يداها توزعان الحنان على طوب الأرض، تلمسها الآن أيادٍ جافة لا تعرف الرفق. فأبكي.

يأتيني صوت الطبيب محدثاً أخي: "الوعي بيقل ومافيش حاجة بايدينا. مسألة وقت". كلمات انقبض قلبي لوقعها ولم يعد لحجمه الطبيعي منذ ذلك الحين.

صرخة مكتومة في حلقى تأبى الخروج، رغم الدموع التي لم تجفّ منذ أول يوم لها في العناية. هل تفارقني أمي للأبد؟ هل ترحل دون رجعة؟ هل يتحوّل الهاجس الذي عشت سنوات عمري أفرّ منه إلى حقيقة؟ سوف أصير وحيدة بدونك يا أمي. لن يؤنسني أب ولا أخ ولا زوج ولا ابنة؟ لا أبالغ إذا ما قلت أنني سمعت صوت انكسار ظهري في تلك اللحظة، انكسار لن تجبره الأيام. أعرف ذلك جيداً.

دعوت الله أن تفتح عينيها لتراني وأخي الأصغر- الذي ظلّ طفلها المدلل برغم اقترابه من الأربعين- الذي غيّبه السفر عنها لعامين. ترانا حتى ولو كانت المرة الأخيرة كي يهدأ قلبي. لكن الطبيب قال إن الأمر يحتاج لمعجزة.

وفتحت أمي عيناها للمرة الأخيرة عصر الأربعاء الموافق 12 ابريل 2023 لتتحقق المعجزة وأرى عينيها للمرة الأخيرة. كنت على يقين تام بأنها ترانا وتسمعنا وتطمئن لوجودنا، أو إن صحّ التعبير تودعنا. فتحت عيناها لدقائق، رأت وجوهنا ضاحكة دون بكاء كما كانت تحب دوماً، وأسدلت جفونها للمرة الأخيرة.

تركتها وقد أطمئن قلبي وهدأت روحي. فالغالية الأعزّ على القلب رأت ملامح من تحب بعد غياب طويل؛ فهدأت روحها واستسلمت. عرفت أنها صحوة الموت كما يقولون. فصرت أدعو لها بتعجيل الرحيل دون ألم أو عذاب فيكفيها عشرة أيام عالقة بين الحياة والموت.

17 ابريل 2023

"أنا أدعو لأمي بالموت العاجل! ياله من أمر مُر بطعم العلقم. فبعد أن عشت أدعو لها بالحياة الأبدية، وأرجو الله أن يقبضني قبلها حتى لا أتذوق مر فراقها. ها أنا ذا أدعو لها هكذا بكل بساطة بالموت، كي لا يطيل الله عليها عذاب ولا يذيقها ألم أكثر مما ذاقت. يالسخرية القدر". رسالة بعثت بها لصديقتي، فأخبرتني أنه المعنى الأسمى للحب، وقالت إنني تخليت عن أنانيتي وتقبلت ألمي ثمناً لراحتها، هذه إحدى درجات الحب. ابتسمت وأنا أقرأ كلماتها وقلت لنفسي: "ليت المشاعر بسهولة الكلمات"، ونمت وأنا أردّد جملة واحدة: "في أمان الله يمّه"، فقد أدركت لحظتها أنها ذهبت.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard
Popup Image