الحواس
في أحد شتاءات سنينٍ خلت، وأظنه شتاءً بعيداً، إذ كان التراب لا يزال يعرف كيف يمتزج بالمطر فيحدث تلك الرائحة الغامضة، كنا نمضي في فداحة موقفٍ ما في ليلٍ بهيج، حين خرّب الريح شعر صبيةٍ حلوة كانت على الجانب الآخر للطريق، فتذمّرت، ثم أخذت تلملم شعرها من يد رياح نوفمبر النَديّة.
وكما تعرف، يحدث أن تدفع الحياة بشخص عابر، في لحظة عشوائية، ليقول شيئاً حكيماً برّاقاً، ثم يختفي! حتى وإن لم يكن ما قاله بتلك الأهمية، فالحدث نفسه كفيل بأن يشعرك بأن شيئاً مهماً سيقال. لم يعرف أحدنا من أين جاء الصوت واثقاً ولامعاً، غير مكترث إن سمعه أحد أم لا، كان يقول: "من أنتِ لتعترضي على مشيئة الشارع، نحن خارج بيوتنا الدافئة ملكٌ للحياة!".
أحياناً نبالغُ في طموحنا فنُحدِث تمرّداً في غير مكانه، كتمرّدنا مثلاً على طباعنا الفطرية، أو على صوت رجلٍ مجهولٍ كان يرافق طريقنا، وألقى، لصدفةٍ ما، حكمةً مبهمةً لم نلقِ لها بالاً، واستمرّينا في ذهولٍ ساذجٍ بالمشاهد والصيحات. ربما علينا أن ننتبه أكثر إلى ما الذي تحاول المشاهد قوله، لا إلى المشاهد ذاتها كصور مجرّدة تنطوي على الكثير من الجمال، فالجمال أحياناً يكون كميناً.
القبل حين يشرق أوانها، إن لم نفعلها فهي ستُنزِلُ كلَّ أنواع السموم بالجسد والعقل، والكثير من اللعنات التي ستحلّ حتى على الأرض التي كنا نقف فوقها حين لم نصغِ لحفيف قبلة... مجاز
إننا وللحق ملكٌ للحياة، إن كنا داخل بيوتنا الدافئة أم خارجها أيها الرجل الغامض، هذه ليست مشيئة الشارع فحسب، بل مشيئة الحركة والاستمرار في خوض الاحتمالات دون أي سقفٍ واطئٍ يمكننا تسميته "قَدراً".
فمن تلك الفتاة لتتذمّر لأن الريح خرّبت ضفائرها، لقد كان عليها أن تترك للريح مغازلتها، بل وأن ترقص معها، ربما كانت السماء ستمطر ثانيةً على وقع رقص فتاةٍ مع الريح، لحظاتٌ تكون فيها حرةً من عفن الضرورة والزمن الآلي، ثم تعود.
وكذلك الأمر بالنسبة للقبلات التي لا نتبادلها، تاركين شفاهنا مرتجفة في مجابهة الرغبة والقلق، فالقبل حين يشرق أوانها، إن لم نفعلها فهي ستُنزِلُ كلَّ أنواع السموم بالجسد والعقل، والكثير من اللعنات التي ستحلّ حتى على الأرض التي كنا نقف فوقها حين لم نصغِ لحفيف قبلة.
إن ما يحتاجه الإنسان ليكون أكثر كمالاً هو أن يُرهف الحسّ والسمع للعالم السري بداخله، والذي يثور ويخفت حسب الطريقة التي نرى بها العالم حولنا. إننا نثور عندما نشعر بأننا لسنا ملكاً لأنفسنا، ذلك الشعور الخانق بأنك ملك لضرورات الحياة ومقتضياتها، ونهدأ في تلك اللحظات التي نكون فيها قادرين على الإحساس الحرّ باللذّة أو الألم على حدٍ سواء، دون منغّصاتٍ دخيلة.
أو كما جاء في الكوميديا الإلهية، في استحضار فلسفة أرسطو على لسان دانتي في رحلة الجحيم: "تكمل النفس باتحادها بالجسد وتصبح أقوى على الإحساس بالمتعة والشقاء..". إذن، ماذا نقول قبل اندلاع اللذة؟ هل نلقي على مسمع الجلد التائه في الغيم ما قرأناه في كتاب علم تفسير الشعور؟ وهل لحظة ما قبل القبلة تحتاج إلى ما هو أكثر من تعريف الرغبة لذاتها، تلك اللحظة التي نكاد فيها نحِسُ بغبار الروح يبردُ وينتثِرُ في أجسادنا التواقة للملامسة؟
"بكلامٍ متداولٍ لابد أن الثعبان الماكر في الجنة كان يحفظه عن ظهر قلب ليتلوه في اللحظة الحرجة على حواء الجميلة. كلامٌ يخرج من فمي بسخاءٍ كأعذار رجلٍ محتاج...". هكذا تحدث سركون بولص في "الطريق إلى مدينة أين". إن لحظة انفتاق الرغبة عن جسد مرهقٍ بعقلٍ مثقلٍ بالأسئلة لا تحتاج إلى عذرٍ، ولتصير الخطيئة بعدها قُدّاس نجاةٍ للغارقين في ضحالة التصور واتساع المعنى والاحتمال.
في أيامٍ رديئة كهذه، نلتقي بقلوب متكسّرة، نتحدّثُ في السياسة وعفن الأنظمة، وربما نتحسّر على شاعرٍ ملّ الأبجدية ورفيقٍ جُنَّ في أقبية الاستجواب، وعلى مفترق كلامٍ نتساءل عن مصير القبل التي لم نفعلها، ثم نصمت... مجاز
فما الخطيئة إلا في تركِ الشفاه المتحفّزة للذبول والحسرة، بذرائع حفظ الإنسانية العليا من الإهدار على سرير الشبق، فتتحول الرغبة إلى لعنة وصراخٍ وهوسٍ مريض بكل خيالٍ أنثويٍ عابر. هذا ما تصيره القبل المسكوت عنها أيضاً، هي التي لم تكن سوى قبلة رقيقة بقليلٍ من الجسارة والخفة والضوء.
وأي إنسانيةٍ عليا تلك التي يمكن أن تقيم أوجها فوق خرائب أجسادٍ مريضة، محمومةٍ بالرغبة، إذ الأنفس الكافرة بالحياة الفاتنة الراقصة لا يمكنها مهما تبتّلت أن تبلغ أي علوٍ، فليس السموُ في قتل القبلة، بل في إقامتها وردةً وردة، دون حاجةٍ إلى أعذارٍ أو مقدمات، فقط بصدقٍ وخفة، وقدرةٍ سماويةٍ على ملامسة البرعمِ دون خدش طفولته.
وربما هنا سيكون رائعاً أن نستحضر روحَ كازانتزاكيس عندما شعر مخلوقه العجيب "زوربا" أن بإمكانه أن يخبر "السيد" بأمر الأرملة التي ينوي زيارتها ليلة الكريسماس، فقال: "لدى الله قلبٌ عظيم، إنه ليغفرَ كل الذنوب، إلا واحداً وهو أن تدعوك امرأةٌ إلى سريرها، فترفض".
والأمر نفسه عند منعطفات القُبَل، فالذنب الذي لا يمكن أن يغتفر هو أن تهديك الحياة سراً فتدفعه/ تدفعينه جانباً وتنزوي/ ـن إلى مناطقك المألوفة.
إن العالمَ في النهاية والبداية، يدور حول الخير والشر، مهما تشعّبت قضاياه وفلسفاته وأزماته، وحتماً ليس الخير والشر اللذين تروج لهما كل إيديولوجيا بما يتفق مع توجهاتها، بل بالخير والشر بمعنيهما المجرّد، كالخير الذي يعني الإصغاء جيداً لما تقوله الشفاه عند المعانقة، دون أي تشابكات معقدة في مفهوم الأخلاق، والشرّ الذي لا يكترث فيهوي بصاحبه في العادية والإيمان الرتيب.
وفي أيامٍ رديئة كهذه، أو لنكن أكثر أخلاقيةً، ليست كما على الأيام أن تكون، نلتقي بقلوب متكسّرة، نتحدّثُ في السياسة وعفن الأنظمة، وربما نتحسر على شاعرٍ ملّ الأبجدية ورفيقٍ جُنَّ في أقبية الاستجواب، وعلى مفترق كلامٍ نتساءل عن مصير القبل التي لم نفعلها، ثم نصمت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...