أتذكر طبيبي النفسي الذي أبلغني بأنني أعاني من الاكتئاب الحاد، وكم تحمّل ردة فعلي الغاضبة واتهامي له بأنه دجال وليس طبيباً حقيقياً، فكيف أكون مكتئبة وأنا أضحك طوال الوقت، بل أعتبر نفسي محترفة في صنع "الكوميكس والميمز"، حتى أنني أطلق النكات على مشاكلي الخاصة مهما بلغ حجمها، ولكن رغم ما أظهرته من عنف لفظي تجاه هذا الطبيب، وتركي له وانصرافي من العيادة، بقيت غصة عالقة في حلقي، فأنا أكثر من يعلم أن كل الضحكات والنكات والسخرية وراءها نوبات بكاء طويلة، ونوبات عصبية وانفعال أطول، وكوابيس تتكرر يومياً أستيقظ منها وأنا غارقة في عرقي وألفظ أنفاسي بصعوبة كمن يغرق ويحاول التقاط أنفاسه دون جدوى، لجأت لطبيبة ثانية، وأكدت لي التشخيص، ولكن كان حظها معي أفضل قليلاً، فلم أهاجمها، وإنما ظللت أبكي أمامها، ثم استسلمت وبدأت معها رحلة العلاج.
لجأت زهرة إلى طبيبة نفسية مختصة أكدت تشخيصها باكتئاب متوسط الحدة mild depression. تعرُّفها على حالتها العقلية والنفسية جعلها تنظر لنفسها وحياتها بشكل مختلف
شعور بالراحة وتخفف من الذنب
لست وحدي، التي تملك قصة عن تلك اللحظة التي نعرف فيها إننا مضطربون نفسياً بشكل ما، زهرة الحطّاب*، أم شابة في بداية الثلاثين من عمرها، كانت تعاني من الحزن أثناء حملها في ابنتها الثانية، تحكي لرصيف22 أنها عرفت بإصابتها بالاكتئاب من الطبيبة التي تتابع حملها، لا من طبيب نفسي متخصص. لاحظت طبيبتها الأعراض ونصحتها بالمتابعة مع مختص يمكنه مساعدتها على التعامل مع إصابتها باكتئاب الحمل: "لا يمكنني إنكار أنني شعرت بالراحة إلى حد كبير، خاصة أنني وقتها تبينت أن كل ما أمر به، ليس بسبب أنني أصبحت حساسة زيادة عن المعتاد، أو أنني لست جديرة بتحمل مسئولية أطفالي وأسرتي، وأن المشكلة ليست في شخصي، وإنما هي بسبب أني أعاني ولست مستقرة نفسياً".
لجأت زهرة إلى طبيبة نفسية مختصة أكدت تشخيصها باكتئاب متوسط الحدة mild depression، تعرفها على حالتها العقلية والنفسية جعلها تنظر لنفسها وحياتها بشكل مختلف عما تحاصرها به نظرات واتهامات الأقرباء والمعارف "بقيت عارفة إن أنا مش باتدلع، أنا تعبانة بشكل حقيقي"، وتضيف "وهو ما شجعني على الاعتذار لابنتي ذات الأربع سنوات، مثلاً، في حالة عصبيتي أو انفعالي عليها. وصرت أضع الخلافات التي أعيشها مع أهل زوجي في حجمها الطبيعي، فهي أمر واقع وإنها لن تتغير، وعلي أن أوفر صحتي النفسية وأكون أكثر عقلانية، وأتجنب التعامل مع تلك الخلافات، على الرغم أن كل هذا لم يقض تماماً على الصدامات من منبعها، لكن أصبحت الأمور أقل حدة وأكثر هدوءاً".
وبالعودة لرد فعلها الأول على سماع تشخيصها النفسي، قالت زهرة: "أهم شيء إنني وجدت من يصدق شكواي ولا يتهمني بالدلع أو العصبية غير المبررة، كل هذا كان باعثاً على الارتياح وأحدث فرقاً حقيقياً في حياتي وطريقة تفكيري".
تجربة علاج نفسي سيئة
أما الصحافية سارة عادل التي تعمل بمهنة ضاغطة ومصنفة من ضمن أكثر المهن تسبباً في اضطرابات القلق والاكتئاب، فتقول "بدأت أفكر في الاستعانة بطبيب نفسي في 2020، فقد كانت سنة صعبة على المستوى الشخصي، إذ فقدت فيها كل من حماي وطفلي الذي كان يبلغ من العمر شهرين فقط، وخالي ثم خالي الآخر، وجدة زوجي، من كثرة حوادث الوفيات التي أحاطت بي هذا العام، لم أعد أتذكر ترتيب الوفيات الصحيح، لكن بالطبع كان حادثة وفاة ابني هي الأكثر قسوة وتأثيراً عليّ، خاصة أنه توفى فجأة، إذ ظهرت عليه أعراض لإعياء شديدة ثم نقلناه إلى المستشفى، وأبلغوني بالخبر، كل هذا في ثلاث ساعات فقط، أو هم قالوا لي هذا، لأني شعرت وكأنها دهر كامل".
قبل اللجوء إلى طبيب نفسي، لجأت سارة لمعالج نفسي لكن التجربة لم تكن مُرضية بأي حال: "الحقيقة أنها كانت تجربة أكثر من سيئة، بل ومستفزة، ففي وقت لم أكن قادرة خلاله على النوم ولا الاستيقاظ ولا الحياة بشكل طبيعي وصحي، وجدته يطلب مني صياغة 10 صفات جيدة في شخصيتي، وعلى مدار ثلاث جلسات أدركت أن هذا ليس مجدياً"
بعد وفاة طفلها، عانت عادل من نوبات هلع متكررة وعنيفة، "لو خرج زوجي من المنزل، كنت أفكر أنه من المؤكد سيصاب بأي أذى، لو خطرت أمي على بالي، فمن المحتمل أن تكون مصابة بأذى ما، هذه الحالة من القلق الدائم، جعلتني لا أستطيع النوم ولو نجحت في النوم أستيقظ مرعوبة وخائفة. ومن البداية لجأت للعلم، أحاول أن أجد إجابات عن كل ما يدور في ذهني من أسئلة، فبحثت من خلال الإنترنت، من خلال البحث عن الأعراض وما إن كانت متشابهة مع أي مرض نفسي أو عضوي، فوجدت مثلاً أن الأنيميا تسبب حالة من القلق الدائم، ووجدت كذلك أن هناك مرضا يسمى بقلق الانفصال المرضي".
قبل اللجوء إلى طبيب نفسي، لجأت سارة لمعالج نفسي لكن التجربة لم تكن مُرضية بأي حال: "الحقيقة أنها كانت تجربة أكثر من سيئة، بل ومستفزة، ففي وقت لم أكن قادرة خلاله على النوم ولا الاستيقاظ ولا الحياة بشكل طبيعي وصحي، وجدته يطلب مني صياغة 10 صفات جيدة في شخصيتي، وعلى مدار ثلاث جلسات أدركت أن هذا ليس مجدياً، وأن هذا المنهج النفسي ليس هو ما أحتاجه، بعدها لجأت لطبيب نفسي فأعطاني الإجابة اليقينية والتشخيص، وعرض علي العلاج الدوائي ولكني تخوفت من الأعراض الجانبية وكنت أكثر ميلاً لتجربة العمل على حل مشكلتي بشكل سلوكي ونفسي أكثر".
أما عن رد فعله الأولي على التشخيص، تقول عادل: "كنت متفاجئة قليلاً من تشخيصي باضطراب ما بعد الصدمة، فرغم كل ما مررت به، لم أكن أتوقع أن يكون أثره في نفسي بالغاً وقوياً لهذه الدرجة، لكني كنت في حالة احتياج لسماع أن كل ما أمر به ليس طبيعياً، وأن هذه الحياة قابلة للتغيير والتصحيح".
قابلت سارة التشخيص بمزيج من التعجب والغضب: "ليس غضباً تجاه الطبيب أو التشخيص نفسه وإنما تجاه الظروف والأحداث التي مرت علي وأوصلتني لتلك النقطة. لكن في البداية كان تأثير التشخيص علي سلبياً إذ أصبحت دائمة الشك في نفسي وفي حكمي على الأمور، وأشعر دائماً أنني مخطئة وأن الاضطراب الذي أعاني منه هو الذي يجعلني أرى الأمور هكذا".
أما آية محمود، 25 عاماً، التي تعمل في مجال الدعاية الرقمية، وتعيش في محافظة ريفية الطابع بعيدة عن العاصمة، فلجأت للطبيب النفسي في أغسطس/ آب من العام 2022، بعد أشهر طويلة من الإحساس المتنامي بالضغط المستمر، والشعور بالاحتياج إلى الحديث وتفريغ شحنات الغضب والضغط. وبعد الاستماع لتجارب أصدقائها مع الطب النفسي، قررت أن تخوض الرحلة. تقول: "كانت تلك في حد ذاتها نقطة أولى للانطلاق في رحلة التعافي، فلقد مررت بفترة طويلة من إنكار مشاعري وعدم اعترافي بوجود مشكلة من الأساس، رغم أن الطبيب شخصني باضطراب القلق، إلا أنني كنت أتوقع أنه مجرد ضغط أو عصبية عابرة، وليس اضطراباً نفسياً".
وتتابع آية: "على رغم من كل إهمالي لمشاعري في السابق، لكن التشخيص بعث في نفسي بعض الراحة، ارتحت لأنني عرفت أن هذه الحالة المستمرة من القلق والضغط ليست هي الوجه الطبيعي للحياة، وليس طبيعياً شعوري الدائم أنني أجري في مكاني، بل إن هذه مشكلة ويمكن حلها بطرق مختلفة، هذه الراحة كان لها تأثير إيجابي عليّ إذ أصبحت رحيمة على نفسي ومقدرة حجم ما مررت به في حياتي، بعدما كنت آراها أموراً عادية وأن كل الناس تمر بصعاب، فأصبحت أقدر تجربتي في الحياة".
احتياطات نفسية
الإخصائي النفسي واستشاري العلاقات الأسرية روبرت بطرس أشار إلى وجود عدة معايير لا بد من مراعاتها عند إبلاغ المريض النفسي بتشخيصه أو بالخلل الذي يعاني منه. هذه المعايير تخضع كذلك لطبيعة المرض وشدته، فهناك أمراض من المفضل إبلاغ ذويه بالتشخيص، مثل البارانويا، فإن تم إبلاغ المريض بها، على الأغلب لن يقتنع ولن يصدق التشخيص، وسيرفضه رفضاً قاطعاً، أما لو كان في إحدى المراحل الأولى من الاكتئاب مثلاً، فيتم إبلاغ المريض نفسه بالخلل وطمأنته على إمكانية العلاج سواء بالتدخل الدوائي أو الجلسات، أو إن كان يحتاج لزيارة معالج أو طبيب نفسي. كذلك من المهم الانتباه إلى أن يكون لدى المختص المعرفة الكاملة بالأمراض وأعراضها وطرق التعامل معها، وإن كان ما يقصه المريض حقيقياً أم يختلق بعض القصص والمواقف، ولو تم اكتشاف كذب المريض، ليس صحيحاً مهاجمته أو اتهامه بالكذب بل المطلوب هو مجارات.
ويضيف بطرس، في حديثه مع رصيف22، أنه من المهم كذلك الانتباه لقدرة المريض على استيعاب إصابته بأحد الاضطرابات النفسية، وإيصال المعلومة له، من دون الوقوع في فخ التهويل ولا التهوين، "بمعنى ألا أجعله يظن إنها نهاية الحياة ونهايته هو شخصياً. وكذلك أن بعض الاضطرابات ليست أمراً بسيطاً يمكن التغاضي عنه، وإنما نضع الأمور في نصابها الطبيعي، إننا نواجه مشكلة وسنحلها ونعالجها بالأسلوب المناسب، فقط".
وأخيراً - والحديث لا يزال لبطرس- هناك معيار مستوى ثقافة ووعي المريض، وهو ما يشكل عاملاً قوياً، "لو كان المريض على قدر جيد من الثقافة والوعي، يمكن الحديث معه عن طبيعة المرض ومسبباته ولماذا من المهم أن يتابع مع طبيب نفسي، ويمكن في هذه الحالة تقديم شرح كاف للرد على أسئلته".
خلال سنوات عمله قابل الاخصائي النفسي روبرت بطرس ردود الفعل متباينة عند إبلاغ المصابين بالاضطرابات النفسية بتشخيص حالاتهم، فهناك من قابل التشخيص بالثورة أو الإنكار والاعتراض، وهناك من حاول اللجوء للعنف البدني أو اللفظي، ولكن في كل الأحوال لا بد من احتواء الموقف على حسب مهارة المعالج
ويشير الاخصائي النفسي إلى إنه خلال سنوات عمله قابل الكثير من ردود الفعل المتفاوتة عند إبلاغ المصابين بالاضطرابات النفسية بتشخيص حالاتهم، فهناك من قابل التشخيص بالثورة أو الإنكار والاعتراض، وهناك من حاول اللجوء للعنف البدني أو اللفظي، ولكن في كل الأحوال لا يمكن الدخول مع المريض في حالة من الخصومة أو العراك، ولا بد من احتواء الموقف على حسب مهارة المعالج.
من ردود الفعل المتكررة التي قابلها بطرس في عمله إلى جانب الإنكار هو ما يدعوه "التفعيل". فيقول: "أشهر ردي فعل واجهتمها حتى الآن، هما الإنكار والتفعيل، الإنكار طبعاً مفهوم وهو الأكثر ظهوراً وشيوعاً، أما التفعيل فهو العكس تقريباً، معه يغرق المريض في مرضه، ويظن أنها نقطة النهاية، ويضخم من المرض وتأثيره عليه وعلى حياته ويظل يتردد في صدى عقله: أنا ضِعْت خلاص".
وأنهى بطرس حديثه بالتأكيد على أنه من المهم الانتباه إلى أن كل رد فعل لمريض يؤثر على معرفة المزيد عن شخصيته بل عن الحد الذي وصل إليه المرض، وعلى مسيرة التعافي كلها، "فهناك مرضى قد يصلون لحالة من الإنكار تجعلهم ينقطعون عن التردد على المتخصص، بل هناك الأكثر تطرفاً في الإنكار إذ يتوقف عن الثقة في جدوى الطب النفسي والاستشارة الأسرية ومدى علميتها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com