يعود من عمله، يترك قلادة مفاتيحه على الطاولة المقابلة لباب المنزل، ويتجه إلى غرفته ليخلع ملابسه استعداداً للنوم. فبعد قرابة 12 ساعة في العمل، لم يعد قادراً على التفاعل مع أسرته. غير أن عدم القدرة على التفاعل مع المحيطين بدأ معه منذ الصباح، وترجمه في القيادة المتهورة، والعصبية الزائدة في العمل. هو يدرك أن العمل وضغطه لم يتسببا في ما وصل إليه.
يعيش مؤمن عبد الرحمن (38 عاماً) برفقة الاكتئاب منذ سنوات عدة. يعرف هذا، لكنه لا يعترف به ويرفض الحديث عنه، كأنه وصمة لا يمكنه الاقتراب منها، ليعكس رفض أو مقاومة العديد من الرجال الاعتراف بالمرض النفسي والخضوع للعلاج الذي يرون أنه ينتقص من رجولتهم.
رفض مؤمن لزيارة الطبيب كان يدعمه أصدقاؤه الرجال. ففي الجلسات التي تجمعه بهم، كان يحكي ما يدور في يومه وطلب زوجته استشارة الطبيب النفسي، فيقابلون طلبها باستهزاء ويدعمون الرفض لأن "الرجالة رجالة، مش محتاجة علاج"
يشغل مؤمن مركزاً مرموقاً في عمله، وله طفلتان. يقول لرصيف22: "حياتي المادية والأسرية هادئة، ولكن شعوري بعدم الارتياح والغضب المستمر لازمني منذ أكثر من ثلاث سنوات. تخيلت في البداية أن الأمر يعود لضغط العمل الذي أقضي فيه ساعات طويلة، ولكن حالتي كانت تبدأ عند استيقاظي من النوم، وتستمر حتى نهاية اليوم، غضب وتوتر من دون سبب".
لم ينصحه أحد من أصدقائه بالتوجه إلى طبيب نفسي، لكن زوجته طلبت منه ذلك وواجه طلبها بالرفض: "تشاجرت مع زوجتي عندما طلبت مني التوجه لطبيب نفسي، وكان ردي أنني لست مجنوناً، وهذا هو رأيي في المرض النفسي".
لكن الزوجة لم تمل، وكررت الطلب، لأن الأزمة أصبحت تؤثر على علاقتهما. يقول: "العلاقة بيني وبين زوجتي أصبحت من دون كلام، لا أجلس في المنزل طويلاً، لا أستطيع اللعب مع ابنتي وصارت نوبات الغضب غير المبررة تحكم حياتي. لكني قابلت طلب زوجتي بالرفض مجدداً".
رفض مؤمن لزيارة الطبيب كان يدعمه أصدقاؤه الرجال. ففي الجلسات التي تجمعه بهم، كان يحكي ما يدور في يومه وما تطلبه منه زوجته، فيقابلون طلبها باستهزاء ويدعمون الرفض لأن "الرجالة رجالة، مش محتاجة علاج". وما دفع مؤمن للإصرار على رفض تلك الخطوة، هو أنه كان يرى زوجته وهي تمر بفترات اكتئاب مع الحمل والولادة، فكانت تأكل كثيراً وتبكي كثيراً أيضاً، ولأنه لم يمر بأعراض شبيهة، وجد أنها تبالغ في ترجيح كونه مصاباً بالاكتئاب.
وهذا ما يفسره الطبيب محمد عادل، استشاري الطب النفسي، بأن أعراض الاكتئاب أو الأمراض النفسية تختلف بين الرجل والمرأة، ما يدفع العديد من الرجال للتأخر في اكتشاف إصابتهم بالأمراض النفسية، وما يتبع ذلك من التأخُّر في اتخاذ خطوة البحث عن العلاج.
في تقرير لمنظمة فرونتيرز انترناشونال التي تصدر واحدة من أهم دوريات الطب النفسي، يظهر أن تأخر الرجال في البحث عن المساعدة النفسية، هو ظاهرة موجوة حتى في الدول التي تقل فيها مساحات الوصم الاجتماعي للمصابين بمشكلات عصبية أو نفسية.
وهو ما يؤكده الدكتور محمد عادل في حديثه لرصيف22: "هناك وصمة تجمع ما بين الرجال والمرض النفسي، تجعلهم يرفضون الاعتراف بإصابتهم، لأن هذا الاعتراف يفقدهم السيطرة، أو يمس رجولتهم. فمنهم من يلجأ للتكتم وعدم الحديث عن الأعراض التي تواجهه، والبعض الآخر لا يعترف بوجودها وإن ظهرت عليه".
بحسب عادل، فإن الخوف من الوصمة الاجتماعية كاف لجعل الرجال يتجنبون الحصول على أي مساعدة نفسية، وإن كانوا واعين أن لديهم مشكلة، وذلك خوفاً من أن تؤثر هذه الوصمة على علاقاتهم أو على مسيرتهم المهنية. وهو ما يرصده عادل يومياً من خلال عيادته الخاصة، التي تغلب النساء على عدد المترددين عليها.
عدا الوصمة، فاختلاف الأعراض أيضاً من الممكن أن يجعل الرجل غير مدرك لمروره بأزمة نفسية. فأعراض الاكتئاب، على سبيل المثال، كما قال الطبيب، تختلف بين الرجل والمرأة. إذ أنها من الممكن أن تؤثر على قدرة الرجل الجنسية، وتصيبه بأمراض عضوية، بعكس الأعراض الشائعة لدى كثير من النساء مثل اضطرابات الطعام والهروب من خلال النوم أو البكاء.
طبيب نفسي: "هناك وصمة تجمع ما بين الرجال والمرض النفسي، تجعلهم يرفضون الاعتراف بإصابتهم، لأن هذا الاعتراف يفقدهم السيطرة، أو يمس رجولتهم"
وبسبب اختلاف تلك الأعراض والوصمة والخوف منها، رفض مؤمن الاعتراف بمروره بأزمة تحتاج لتدخل من مختص. يقول: "زادت الأمور بيني وبين زوجتي سوء، وطلبت مني الانفصال في حال عدم موافقتي على زيارة الطبيب". كانت الزوجة تعلم أن زوجها أصبح بحاجة ماسة لزيارة الطبيب النفسي، وهو ما دفعها للتفكير في نهاية حياتهما الزوجية للضغط عليه للموافقة. وبالفعل وافق وذهب معها للطبيب، من دون اقتناع منه، "فقط لإرضائها" بحسب وصفه.
الزيارة الأولى التي كانت من دون رغبة من مؤمن، شخصه الطبيب خلالها أنه يعاني من اكتئاب، ويحتاج لعلاج دوائي حتى لا تزداد حالته سوءاً، ومع الضغط عليه مجدداً من قبل زوجته، تناول العلاج الذي وصفه له الطبيب، ليجد تحسناً من الأسبوع الثاني، فأصبح أهدأ وأقل توتراً. وبدأ الاعتراف بأنه مريض، وأن الرجال أيضاً يحتاجون الرعاية النفسية مثلما تحتاج النساء.
العلاج من خلال الأدوية والعقاقير ربما لا يكون الخيار الأول عند النساء، اللواتي يبدأن جلسات حكي وعلاج من خلال الحديث مع الطبيب الذي يلجأ للعقاقير الطبية في المرحلة التالية، ولكن مع الرجل يختلف الأمر، بسبب عدم رغبته في الاعتراف بالمرض، ورفضه الحديث عن المشاعر. إذ ذاك يصبح العلاج الدوائي هو الخيار الأول، كما قال الدكتور عادل.
وبحسب بيانات منظمة الصحة العالمية، ينتحر 15 رجلاً من كل 100 ألف في نحو 40% من دول العالم، علماً أن معدلات الانتحار أعلى بين النساء في 1.5% من البلدان فقط، رغم أن مرض الاكتئاب أكثر شيوعاً في صفوفهن. وهو ما يمكن تفسيره بأن الرجال عندما يتأخرون في تلقي العلاج النفسي، يصبح الأمر خارجاً عن السيطرة. ويمثل كتمان المشاعر أهم العوامل التي تزيد مخاطر الانتحار. وبينما لا تجد النساء غضاضة في التحدث عن مشاكلهن، فإن الرجال يفضلون كتمانها، وفقاً لما أكدته الدكتورة آية أمان، طبيبة الأمراض النفسية بمؤسسة الهلال الأحمر في مصر. تقول إن نسبة الرجال الذين يتلقون العلاج النفسي في المستشفيات أو العيادات الحكومية أو الخاصة أقل بكثير من نسبة النساء. والسبب خوف الرجال من مواجهة الاتهام بالضعف أو نقص الرجولة وعدم القدرة على التحمل، إذا ما اعترفوا أنهم بحاجة إلى المساعدة النفسية.
تقول أمان لرصيف22 إن تلك الوصمة التي يخافها الرجال تتشكل مفاهيمها منذ الصغر. فالأسر تربي الأطفال الذكور وكأن التعبير عن المشاعر ضعف: "نقول للطفل من صغره لا تبكي، لأن الرجال لا يبكون. يكبر الطفل ويتخيل أن البوح والتعبير عن المشاعر ضعف. هكذا يكبر الصغار ويصبحون أقل استعداداً لطلب الاستشارة النفسية". وترجع أمان هذا الفرض أيضاً للثقافة المجتمعية التي تصل من خلال رسائل الإعلام والدراما. فهناك تراث سينمائي يصف المرض النفسي بالجنون، وهنا يجب التفرقة بين المرض العصبي والرعاية النفسية التي يحتاجها الجميع رجالاً ونساء".
وما تتحدث عنه أمان، يحدث مع أحمد عبد الهادي، البالغ من العمر 42 عاماً، ولا يعرف عن المرض النفسي سوى ما رآه في فيلم "خللي بالك من عقلك"، الذي عمل فيه عادل إمام في أحد مستشفيات الأمراض النفسية، وقابل شيريهان إحدى المريضات وارتبط بها، وبدأ معها معاناة رفض المجتمع لها، كونها كانت تعالج في المستشفى.
وبرغم معاناة أحمد آلاماً جسدية، منها الصداع والإرهاق الدائم، لم يفكر في زيارة طبيب نفسي، رغم إدراكه أن سبب تلك الآلام قد يكون نفسياً وليس عضوياً، ويقول: "الرجال عادة لا يحتاجون لعلاج نفسي، فهم معرضون لضغط مستمر في العمل والحياة، وقادرون على مواجهة الضغوط التي لا تتحملها النساء"، هكذا يؤمن أحمد بأن لا مجال لمعاناته من مرض نفسي، أو حاجته لرعاية نفسية.
لا يعترف أحمد بالمرض النفسي، ولكنه لا يمانع من تناول عقاقير ومهدئات من دون وصف طبيب، وهو ما يمثل خطورة من الناحية الطبية، كما يشرح الطبيب محمد عادل: "تكمن الأزمة في ما يمكن أن يطلق عليه العلاج الذاتي، أو تناول المريض أدوية من دون استشارة طبيب، وهو ما يسبب مخاطر صحية جمة".
بمنأى عن المجتمع، هناك رجال يقررون الذهاب للطبيب ولكن "في السر"، وهو ما أكده عادل وأمان. يطلب المريض من الطبيب التحدث معه عبر الهاتف، أو أخذ موعد في العيادة من دون معرفة أحد من أفراد الأسرة أو الأصدقاء، ليظل أمام دائرة أمانه الاجتماعية المفترضة "الرجل الذي لا يقهره المرض النفسي".
الآن، بعد مرور ثلاثة أعوام على الاضطراب الذي أصاب حياة عبد الرحمن، عادت حياته لشكلها الأول. يعود من عمله هادئاً، يترك هموم عمله خارج المنزل، يستمتع مع زوجته وابنتيه، بينما لا يزال أحمد يرفض حاجته للتدخل العلاجي النفسي، ويتجه لمهدئات لم يصفها له الطبيب، ليكتمل عنده الإحساس الزائف بالسيطرة الذكورية التي تدفعه إلى تجنب طلب المساعدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون