في طريق عودتي للمنزل نهاية يوم الخميس، أشتمّ رائحة الفلافل الساخنة بالقرب من المنزل، فأبتاع بعضاً من عجينة الفلافل لقليها في صباح الجمعة التالي، كتقليد لطقس اعتاد اتباعه والدي، قبل أن يتوفى منذ شهر فقط.
في الصباح، أصحو مبكراً وأفرغ كيس العجينة الخضراء في طبق عميق، ثم تأتي الخطوة الأغرب وهي كسر بيضة عليها وتقليبها. أشكّل أقراص الفلافل الدائرية وأضع القليل من السمسم عليها، أضعها في وعاء القلي ثم أخرجها لتبرد دقائق قليلة لتحضير مائدة الإفطار.
أنتقي قرصاً من الفلافل وأقطعه لأرى نسيج البيض الشبكي بالداخل، مختلطاً مع قلب الفلافل الأخضر، وأقضمها فأتذكر أبي على الفور.
في سنوات طفولتي ومراهقتي في بيت الأسرة، لم أحب طقس الجمعة طوال الوقت، إذ توقظنا أمي قبل الصلاة لتغيير مفارش الأسرّة، ولأنه من وجهة نظر والدي يجب علينا أن نسمع قرآن الجمعة قبل الصلاة. يدير أبي صوت الصلاة ليعلو كل صوت، بينما تفوح راحة الفلافل الساخنة من المطبخ، حيث يكسر بيضة على خليط الفلافل قبل القلي، ليصبح طعمها شبيهاً بأقراص العجّة التي لا أحبها. أصحو بلا شهية وبكره كبير لوجبات الإفطار الصاخبة، أمسك قرص الفلافل بين يدي ولا أحب أنسجة البيض بالداخل، فأتركها وأظلّ دون طعام إفطار.
في الأيام العادية، كانت أمي تحضّر طعام الغذاء قبل أن تتجه لعملها، ويكتفي أبي بتجهيز الأرز أو المعكرونة حينما يعود الاثنان للمنزل. عندما تجهّز أمي الأرز للغذاء كان أبي يفتح غطاء الوعاء ويدسّ ملعقة من السمن البلدي بين حبيبات الأرز، لتكتسب لمعاناً ورائحة نفاذة. لم أحب نكهة السمن في الطعام، وكنا نتشاجر مطولاً على السمن الزائد، فهو يراه صحّة ونعمة ونحن نتعامل معه بحذر.
في سنوات طفولتي ومراهقتي في بيت الأسرة، لم أحب طقس الجمعة طوال الوقت، إذ توقظنا أمي قبل الصلاة لتغيير مفارش الأسرّة، ولأنه من وجهة نظر والدي يجب علينا أن نسمع قرآن الجمعة قبل الصلاة
في بعض الصباحات يطلب مني ابني الصغير طبقاً من البيض مثل "بيض جدّو"، وطبق البيض على طريقة أبي هو بيض غير كامل النضج، يطفو فوق طبقة من السمن، أحضر طاسة البيض ثم أضع ملعقة صغيرة من السمن مثلما اعتدت، وأكسر البيض وأحاول تقليد طريقة أبي، لكنني لا أفلح في كل مرة، ويعلم طفلي أنه لا يشبه طبق البيض الذي اعتاد جده طهيه له.
في الطريق للمنزل من المدرسة، أقود سيارة أبي بطفلي الذي تعلّمت القيادة لأجله، أتذكّر الطريقة التي أجبرني بها أبي على تعلّم القيادة حين علمنا بمرضه منذ عامين، ليقرّر أنني سأقود سيارته بطفلي من المدرسة بدلاً منه. لمدة عام كامل، وبعد عودتي للإسكندرية لاستقراري مع والدي، استلم أبي مهام توصيل ابني لتصبح رحلته من المدرسة وإليها وقتاً خاصاً بهما فقط. تعلّمت القيادة بصعوبة، وبالكثير من التعليقات على سوء قيادتي وخوفي، لكن طفلي كان صبوراً معي ليتوقف، بعد عام كامل من القيادة به، عن عقد المقارنات بين قيادتي وقيادة أبي.
بات لأبي طعم جديد، بعيداً عن طعم المرار في الحلق الذي كان مصاحباً لي أوقات مرضه. بت أجرّب تلك المذاقات التي تذكّرني به، لأعيد اتصالاً طالما استنكرته، ولنحتفي بسيرته دائماً كأب أحب تفاصيل الحياة ومذاقها دوماً
أستقبل ابني من باب مدرسته، فيستقرّ على المقعد الخلفي ويخبرني أنه يشتاق لمشاويره مع أبي، يشتاق طفلي لطعم الآيس كريم وأكياس الشيبس التي كان يتناولها أبي معه في الطريق دون أن يخبرانني. كان ذلك هو سرّهما الصغير الذي لم يكشفه طفلي سوى بعد رحيل أبي. أترجّل من السيارة لأشتري له الآيس كريم، لكن مذاقه لا يملك نفس النكهة السرية الخاصة بمشاويرهما اليومية.
يطيب لي أن أتذكر أبي بمذاقات طعامه المفضل، لا أريد لوجه المرض أن ينسل بين ذكرياتي عنه، لا أريد أن أستمع لصوت القيء والتأوّهات وصوته الخافت إثر الوجع. أريد لذاكرتي أن تحفظه كاملاً مثلما كان طوال الوقت: أب قلق، يرى أن طريقته في العيش هي السبيل الوحيد لأمان أطفاله، وأنا من غردتْ خارج السرب مبكراً، فظللت مصدر قلقه طوال الوقت مثل شوكة في حلقه. لم تستقم الحياة بي بسهولة للأسف، لأظل هكذا طوال الوقت، مصدر قلق، ومع وجود ابني في الصورة، أصبح القلق قلقين، لكنه كل فترة كان يثني على جهودي في العيش كأنه لم يتوقع أن الابنة الوحيدة له، بين أخوين من الذكور، سيستقيم عودها وتنبت بين تفاصيل الحياة بتلك القوة.
أشتاق لكل تلك الأطعمة التي تذكّرني بأبي منذ رحيله، كأن الطعام الذي حُرم منه أيام مرضه صار الصلة التي تعيدني إليه كل مرة. أتذكره حينما أشتم رائحة حبات الفلافل الساخنة، وحينما أتابع قطع اللحم تطفو فوق قدر من الحساء الساخن. أتذكّره حينما أضع السمن في قدر الأرز بدلاً من الزيت مثلما أحب، وأتذكره حينما أستطعم الآيس كريم أسفل الشمس الساخنة. بات لأبي طعم جديد، بعيداً عن طعم المرار في الحلق الذي كان مصاحباً لي أوقات مرضه، والذي جعلني أخسر عدة كيلوات من وزني. بت أجرّب تلك المذاقات التي تذكّرني به، لأعيد اتصالاً طالما استنكرته، ولنحتفي بسيرته دائماً كأب أحب تفاصيل الحياة ومذاقها دوماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...