لم يستطع أبي اللحاق بربيع هذا العام. في الخامس من آذار/ مارس، في الساعة الخامسة بعد الظهر، مات. في غرفة العناية المركّزة لفظ أنفاسه الأخيرة.
كان موتاً سريعاً، ولمرة واحدة، فيما كنا نعيش مرارة خسارته بالتقسيط: مرّةً حين دخل العناية المركّزة، ومرّةً حين علمنا بموته، ومرّةً حين وقع على عاتقنا مسؤولية إبلاغ أمي، بأن حبيبها ورفيق دربها قد توفي قبل 7 أيام، فيما كانت هي تُصارع المرض ذاته على بُعد طابق واحد، بين العناية المركّزة وقسم العزل.
أخبرنا الأطباء بأن حالة أبي صعبة جداً، وأن كوفيد19 قد فعل فعله في تخريب نسيج الرئة، وأنّه بحاجة إلى معجزة ليعود للحياة. كالمجنونة، بحثت تحت تأثير الصدمة عن معجزات مماثلة في غوغل "ناجون من تخرّب النسيج الرئوي".
يا لنا من كائنات هشّة تبحث عن المعجزات في محركات البحث!
أعلنوا وفاة أبي فيما كنا ننهمك في إنقاذ أمي. بعد يومين من دخوله قسم العناية الفائقة، رحل أبي. نصحنا الطبيب بعدم إبلاغ أمي برحيله حتى لا تتدهور حالتها أكثر، فتوجّب علينا أن نرمي حزننا إلى داخلنا، وننزوي في زوايا قسم العزل لنبكي موت أبي لدقائق بعيداً عن ناظري أمي.
كان الحزن والقهر يأكل داخلنا كلما اضطررنا إلى الكذب عليها في كل مرة تسأل عنه. كنا نبعد عيوننا عن عيني أمي خشية انهيارنا أمامها. كانت دائمة السؤال عن أبي، وفي كل مرة يمرّ طبيبهما عليها، تسأل عنه، وفيما إذا كانوا يقلّبونه في سرير العناية المركّزة. كان أبي ميتاً، راقداً تحت التراب منذ أيام، مُصاباً بالرحيل، لكن أمي كانت تخاف على ظهره من الخشكريشة!
كان أبي رجلاً طيباً، ككل الآباء الطيّبين. مرّ على الدنيا خفيفاً، كنسمة صيف. وفي المرّة الأولى التي اعتقد نفسه ثقيلاً، تركنا وذهب
ساعات معدودة تلك التي نمتها قرب سرير أمي طيلة أيامٍ عشرة. كنت إذا نمت ساعة، أفيق مذعورة. تهاجمني الكوابيس في دقائق نومي القصيرة تلك. فداحة خسارة أبي، ضاعفت مخاوفنا على أمي. لا أتذكر عدد المرات التي قسنا فيها الأكسجة والسُكّر وضغط الدم، لكنها كانت كثيرة إلى الحدّ الذي أضجر الأطباء وكادر التمريض الذين كنا نسارع في طلب مساعدتهم كلما لاحظنا تغيّراً مقلقاً في قيم القياس.
كنت أحفظ برنامج أمي العلاجي عن ظهر قلب، أحفظ ساعات قياس السكر، أسأل عن كل تفصيل أو تعديل يخصّ برنامج علاجها. مع مرور الوقت، صرت أجيد التعامل مع محقنة الأنسولين التي وُصِلت أمي إليها أكثر من كادر التمريض المُدَرّب على التعامل مع تلك الأجهزة.
تحسنّت أمي أخيراً. عدنا إلى البيت بعد حوالي أسبوعين. عدنا دون أبي. ذهبنا خمسةً إلى قسم الإسعاف يوم الجمعة، وعُدنا ثلاثة أيتامٍ وأرملة بعدها باثني عشر يوماً. حتى الآن، تدخل تفاصيل ذلك اليوم الموجع كوابيسي.
أتذكّر عجز أبي عن التقاط أنفاسه، وشحوب لونه. أتذكّر انهيار جسده السريع. أتذكّر كيف حمل أخي جسد أبي الممتلئ مع مسعف واحد من الطابق الرابع إلى سيارة الإسعاف.
ألا يقولون أن الخوف يُذهِب الألم؟ لقد فقد أخي في تلك اللحظة الإحساس بيديه، وصار الخوف وحده من يحرّكه.
منذ رحيل أبي، أفشل بالاعتياد على وجود أربعة كؤوس شاي على مائدة الطعام. دائماً أخطئ في عدّنا من المرّة الأولى.
أكرّر في داخلي عبارات العزاء، وأحاول التصبّر بما يقوله الآخرون دون جدوى: "الله ما بدو ياه يتعذّب، ارتاح من المرض، توفي في ليلة مُباركة".
تحسنّت أمي أخيراً. عدنا إلى البيت بعد حوالي أسبوعين. عدنا دون أبي. ذهبنا خمسةً إلى قسم الإسعاف يوم الجمعة، وعُدنا ثلاثة أيتامٍ وأرملة بعدها باثني عشر يوماً. حتى الآن، تدخل تفاصيل ذلك اليوم الموجع كوابيسي
كان أبي رجلاً طيباً، ككل الآباء الطيّبين. مرّ على الدنيا خفيفاً، كنسمة صيف. وفي المرّة الأولى التي اعتقد نفسه ثقيلاً، تركنا وذهب.
غادر أبي الدنيا تاركاً لنا فيضاً هائلاً من الدعوات، وفخراً كبيراً بأن نحمل اسمه ونكنّى بكنيته، فليس هيّناً بأن تعيش عمراً كاملاً ممسكاً بفضيلة الطيبة والنقاء والوداعة في زمن رديء يُعيب على المرء كل ذلك.
كانت بسيطة هي الأشياء التي تسعده، فكان فنجان القهوة في المساء برفقتنا، نحن وأمي، احتفالاً يوميّاً بالحياة التي أحبّها.
كان رفيق حياة وطرقات أمي. كتوأم سيامي، لم ينفصلا طيلة ثلاثة عقود، وفي السنوات الأخيرة التي خانه فيها جسده، كان يَسعَدُ بإصراري على مرافقتها، وكأنه كان يخشى عليها من الإحساس بالوحدة في تلك الطرقات التي تشاركاها معاً؛ فيرى في وجودي بجانبها تعويضاً عن غيابه.
يالها من حياة مُشتركة!
حتى المرض تشاركاه معاً. لقد نسيت أمي نفسها، وتجاهلت اشتداد المرض عليها، فجلست عند باب العناية المركّزة لساعات، قبل أن ينهار جسدها في المساء، وتدخل قسم العزل في اليوم التالي تحت وطأة الالتهاب الشديد ونقص الأكسجة والحرارة التي فشلت الخافضات في تخفيضها.
في اليوم الذي نولد فيه، يسارع الجميع إلى تشبيهنا بأمنا أو أبينا. كثيراً ما كنت أسمع بأنني أشبه أبي، وأحمل لون عينيه، لكنني أحمل منه ما هو أكثر من الملامح. لقد قادني ذلك الرجل الطيّب إلى شغفي دون أن يعلم. كان يقطع عشرات الكيلوميترات من الريف إلى المدينة، ليشتري صحيفةً أسبوعية.
لقد ترك أثره على شخصياتنا وحياتنا وخياراتنا دون أن يسعى إلى ذلك. كانت حياته هو وأمي صعبةً في ذلك الريف المهمل والبعيد، لكنهم اقتلعوا جذورهم تلك، ليجعلوا حياتنا أسهل في المدينة.
مات أبي قبل الربيع، فهجم البَرْد فجأةً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...