"يختلفان عن أقرانهما من اﻷطفال، فالجري واللعب، خاصةً في الشتاء، يؤثران عليهما"؛ بهذه العبارة يبدأ مصطفى إسماعيل، من مدينة إعزاز شمال حلب، الكلام عن معاناة ولديه؛ أحمد (8 أعوام)، وسعاد (5 أعوام)، ويسترسل في الحديث عن فرص نجاة طفليه المصابَين بمرض "الثلاسيميا" منذ صغرهما، ورحلة مرضهما وعجزه عن تأمين العلاج المكلف لهما.
ويُعرف مرض الثلاسيميا بفقر الدم وهبوط خضابه، وعادةً ما يكون مرضاً وراثياً يحدث عند التقاء جينتين إحداهما من الأب والأخرى من الأم، كما يُعدّ زواج الأقارب، سبباً رئيسياً للإصابة به.
يقول مصطفى لرصيف22: "بدأت القصة منذ أن عانى أحمد، وهو حالياً في الصف الأول الابتدائي، من وهن شديد وارتفاع في درجات الحرارة وبكاء مستمر. حينها، لم يكن يتجاوز عمره الـ5 سنوات، وانطلقت به إلى مشفى "إعزاز" الوطني طالباً علاجه، وفور وصولنا أجرى الكادر الطبي بعض التحاليل وقالوا إنه مصاب بالثلاسيميا -وهو مرض لم أسمع به من قبل- ويلزمه مغذٍّ ونقل دم بشكل فوري، وقد وافقت على أساس أن الأمر سيكون لمرة واحدة فقط، لتتم وقتها أول عملية نقل دم إلى أحمد".
تتسبب الثلاسيميا في انحلال الدم المزمن وانقلاب الدم المتكرر، بالإضافة إلى بعض الاختلاطات
ويردف قائلاً: "عندما شاهدت الإبر تُغرز في أوردة ابني، لم أستطع التحمل أبداً، وكدت أن أنهار تماماً أمام بعض المواقف، خاصةً عندما تعثّر المُمَرضون في العثور على وريد في يديه، واضطروا إلى نقل الدم عن طريق وريد في الساق... حسبتها مرةً واحدةً وسينتهي العذاب، لكن فاجأني الطبيب بقوله إنه يجب أن ينقل إليه الدم شهرياً".
يضيف مصطفى: "أول سؤال وجهه إليّ الطبيب: هل أنت متزوج من قريبة لك؟ وكم عدد أولادك؟ لأجيبه بأن زوجتي تكون ابنة خالتي، وأن لدي طفلين فقط، فطلب مني إجراء تحاليل لزوجتي وابنتي سعاد".
يطرق رأسه ويكمل: "عندما أجريت التحاليل، كانت ابنتي سعاد حاملةً للمرض أيضاً، وزوجتي هي الناقلة الأساسية له، لكن لا يبدو عليهما أي تأثير إلى اليوم".
رحلة العلاج الصعبة
لـ"الثلاسيميا" ثلاثة أنواع؛ الكبرى، ويُطلق عليها اسم "بيتا ثلاسيميا"، وتتسبب في انحلال الدم المزمن وانقلاب الدم المتكرر طوال الحياة، بالإضافة إلى بعض الاختلاطات كـ"قصور القلب وتشمّع الكبد وضخامة في الطحال وفشل في النمو وترقق في العظام وداء السكري"، وتظهر أعراضه بعد الولادة من عمر 6 أشهر وحتى السنتين، ويستمر مدى الحياة، والنوع الثاني "الثلاسيميا الوسطى"، وهي لا تحتاج إلى نقل الدم بشكل دوري، والنوع الثالث "الثلاسيميا الصغرى"، وهي تشكّل لا عرضي لـ"الثلاسيميا الصامتة"، ويُسمى المريض حينها بالحامل للمرض، ولا تظهر عليه الأعراض ولا يحتاج إلى علاج أو نقل للدم.
وبينما كان مصطفى يتحدث، كان أحمد وسعاد يلعبان على أرجوحة بلاستيكية خضراء معلّقة بالسقف، يتسع مقعدها لشخص واحد فقط، ولكن نظراً إلى صغر جسديهما بالنسبة إلى عمرهما، فإن الأمر سهل ليركباها معاً.
يساعد نقل الدم في رفع عدد الكريات الحمراء الصحية في جسديهما، ولكنه ليس كافياً، كما يقول مصطفى نقلاً عن الأطباء. إنهما يحتاجان إلى زرع "نقي العظم" الذي لا يتوافر في الشمال السوري، وإلّا سيُعوَّق الطفلان عن النمو وتضعف وظائف الكبد عندهما وتتشوّه عظام وجهيهما.
ينظر مصطفى إلى طفليه محاولاً الحفاظ على هدوئه، ويقول: "رحلة هذا المرض مليئة بالصعوبات، فالألم النفسي أشد؛ أن ينظر كل أب إلى فلذة كبده والإبر تُغرز في جسده، وأن تشاهده وتخفف عن طفلك، بشكل دوري، وتحديداً عند بحث الأطباء عن وريد لنقل الدم، لكن في النهاية تعايشنا مع ذلك".
سأل مصطفى أطباء المشفى في إعزاز، ومسؤولاً في وزارة الصحة في إدلب عن هذا المرض، فأكدوا له أن لا علاج له سوى تبديل الدم شهرياً، أو نقله إلى أحد المستشفيات التركية و"زرع نقي العظم".
يستطرد مصطفى: "وعند التعمق في القضية، تواصلت مع أقربائي في تركيا الذين استشاروا بعض الأطباء هناك، ليؤكدوا أن تكلفة علاجه كاملةً تبلغ 10 آلاف دولار أمريكي، ممّا جعلني عاجزاً تماماً أمام فرص تأمين علاج أحمد".
بنوك الدم وفقدان الأدوية
يؤكد مدير بنك الدم في مدينة الأتارب في غرب حلب (30 كم غرباً)، مأمون الشوم، أن المركز يُقدّم لحاملي هذا المرض أدوية خالبات الحديد، الديس فرال (فيال)، وفيروبروكس (حبْ)، بالإضافة إلى عملية نقل الدم إلى المريض بشكل دوري، إذ يحتاج حامل المرض إلى ما يقارب 1،200 وحدة دم شهرياً، وبعض التحاليل، منوهاً بأن المركز يستقبل نحو 75 مريضاً شهرياً.
عندما شاهدت الإبر تُغرز في أوردة ابني، لم أستطع التحمل أبداً... حسبتها مرةً واحدةً وسينتهي العذاب، لكن فاجأني الطبيب بقوله إنه يجب أن ينقل إليه الدم شهرياً
وتتوزع مراكز الدم في الشمال السوري (مناطق المعارضة؛ إدلب وريف حلب)، 3 بنوك للدم، في مدينة إدلب، باب الهوى، والأتارب، ويتم الحصول على احتياجات هذه المراكز من خلال عمليات تبرّع دورية، تختلف بحسب الحاجة والاحتياطي في بنك الدم. ولا توجد إلى اليوم إحصائيات دقيقة في الشمال السوري لعدد المرضى.
وتنتشر العيادات المتخصّصة للعلاج والدعم النفسي في مراكز الثلاسيميا في الشمال السوري، على مراكز "جنديرس، جرابلس، كللي، دركوش، ومدينة إدلب".
يقول مدير مركز كللي للثلاسيميا، ضياء مصطفى، لرصيف22، إن الصعوبات التي يواجهها المراجعون من حاملي المرض الذين يُقدَّر عددهم بـ250 مريضاً، تتمثل في عدم توافر الأدوية، إذ تصل إلى المركز كميات قليلة لا تلبّي احتياجاتهم، ولا تتوفر هذه الأدوية في الصيدليات، بالإضافة إلى صعوبات التنقل، إذ يحتاج قسم منهم إلى نقل الدم مرتين شهرياً، بينما هنا يُنقل الدم مرةً واحدةً شهرياً إلى المصابين كافة.
من جهته، يقول الصيدلاني هيثم بكور، وهو مالك صيدلية في الأتارب، إن "هذه الأدوية مجانية ولا يمكن إيجادها في الصيدليات، إذ تقدَّم من قبل المراكز وعيادات الثلاسيميا، ولا وجود لها في مستودعات الأدوية، فهذه الأدوية تحديداً غالية الثمن، وتدعمها منظمات طبية وصحية شأنها شأن اللقاحات".
ويحصل مرضى الثلاسيميا في شمال سوريا (مناطق المعارضة)، على العلاج في المراكز الخمسة المتخصّصة والمدعومة من منظمات طبية (IDA-USSOMA، ومنظمة وطن، ووقف الإغاثة الإسلامية، بحسب ضياء مصطفى.
مشقّة العثور على الدواء
المريض من لحظة تشخيصه وعلمه بالمرض وخلال العلاج، يشعر بانخفاض ملحوظ في الجانب المزاجي، والوزن والشهية والنوم
بعض المصابين بمرض "الثلاسيميا"، يخوضون رحلةً شاقةً للعثور على الأدوية الخاصة بهم عند غيابها في بنك الدم القريب منهم، ما يجبر ذويهم على خوض رحلة شاقة بين مراكز الثلاسيميا والمنظمات الإنسانية لتأمين جرعات الدم أو الدواء، فأم خالد (43 عاماً)، النازحة من بلدة "التح" جنوب إدلب، ترعى ابنها ميلاد (18 عاماً)، طريح الفراش، في خيمة نزوح على أطراف بلدة "أرمناز" جنوب غرب إدلب، وتغيب عنها أساسيات الحياة؛ فعلى فراش إسفنجي يستلقي ولدها في أحد جنبات الخيمة، وتظهر على وجهه الشاحب علامات المرض الذي يغزو جسده، بعدما أصيب به منذ طفولته ما أفقده القدرة على النمو والنشاط بشكل اعتيادي.
تقول أم خالد، إنها لم تستطع تأمين الدواء لولدها منذ أكثر من شهر، وإن الحلّ البديل كان بنقل الدم كل 15 يوماً، وهو ما تراه أمراً شاقّاً، بالنسبة له، إذ بات يشكو من آلام متفرقة في جسده، بالإضافة إلى وهن عام، هذا بالإضافة إلى تكلفة الذهاب إلى مركز "دركوش" الذي يبعد عنها قرابة 15 كم، إذ تدفع مقابل وصولها إلى هناك نحو 100 ليرة تركية.
يصف الطبيب محمد عبيد، العامل في مشفى سلقين، مرضى الثلاسيميا غير المواظبين على العلاج بشكل دقيق ومتكامل، بأنهم يصابون بتلوّن في الجلد باللون البرونزي المائل إلى السواد، وهذا سببه تراكم الحديد في جسم المريض، وقد يُحدث أحياناً تمدداً عرضياً في عظام الوجه بسبب تكبير مصانع الحديد الموجودة في العظام، نظراً إلى حاجة الجسم إلى توليد كميات كبيرة من الدم، ما يعطي سحنةً خاصةً لمرضى الثلاسيميا، بالإضافة إلى تغيّرات في العمود الفقري وشكل الوجه ولون البشرة.
وتوضح دراسة بعنوان "مستوى الاكتئاب النفسي" لمرضى الثلاسيميا، إلى أن المريض من لحظة تشخيصه وعلمه بالمرض وخلال العلاج، يشعر بانخفاض ملحوظ في الجانب المزاجي، والوزن والشهية والنوم، ونقص في النشاط الحركي.
وتؤكد الدراسة أن مرضى "الثلاسيميا" لا يحتاجون فقط إلى مكافحة مرضهم طبياً، بل نفسياً أيضاً؛ إذ يمرون بأطوار نفسية مختلفة قد تؤثر مباشرةً في حياتهم ومحيطهم الاجتماعي، ما يبرز ضرورة الاهتمام بالجانب النفسي كأحد العوامل المرغوبة في مختلف الحالات المرضية، خاصةً المزمنة منها أو الخطيرة، ودور معالجة المشكلات النفسية المصاحبة لكل حالة مرضية، التي تظهر المستوى المنخفض من الرضا عن نوعية حياته الجديدة بعد الإصابة بمرض سيرافقه طوال حياته، لذلك تجد المصابين يعانون من مشاعر العجز والضعف، وعدم الرغبة في القيام بأي عمل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين