كغيرها من الحوادث المأساوية، مرّت حادثة وفاة طفل على يد زملائه في الصف الخامس الابتدائي، إثر مشاجرة، مروراً عابراً، إذ لم تتلقف وسائل الإعلام الحادثة التي جرت في مدرسة "شهداء ترمانين" في إدلب، شمال سوريا، في 6 آذار/ مارس الجاري.
يروي الطبيب أحمد دحكول، وهو عمّ الطفل، تفاصيل الحادثة، قائلاً: "اعتدى ثلاثة أطفال على ابننا خلال وجودهم في المدرسة، وتركز الاعتداء في منطقة أعلى البطن، بالإضافة إلى الخنق في الرقبة، ما أدى إلى نقص الأوكسجين في الدم، وحدوث الوفاة وفق الطبيب الشرعي، قبل أن يُنقل الطفل إلى مشفى قريب"، مضيفاً أن "القضية انتهت إلى عقد ذوي الأطفال الجناة صلحاً معنا بعد إطلاق سراح الأطفال والاطلاع على تقرير الحادثة الجنائي، والذي أكد أنها مشاجرة بينهم".
تعيدنا الحادثة هذه إلى حادثة جرت أوائل العام الجاري، في 6 كانون الثاني/ يناير الماضي، في مناطق سيطرة نظام الأسد، إذ أقدم طالب على طعن مدير مدرسة "عبد المعين قطرميز" للتعليم الأساسي، في حي القصور في مدينة حماه، وأيضاً قام شخص في أيلول/ سبتمبر الماضي، بطعن مدير مدرسة سمنة في منطقة السلمية في ريف حماه الشرقي خلال دوامه الرسمي.
أقدم طالب على طعن مدير مدرسة "عبد المعين قطرميز" للتعليم الأساسي، في حي القصور في مدينة حماه
وقائع كثيرة والجهات غائبة
خلال إعداد هذا التقرير، عادت بي الذاكرة سنتين إلى الوراء، وكنت حينها في عفرين شمال سوريا. يومها كانت شرفة منزلي مطلةً على مدرسة ابتدائية، وبحكم أن عملي في تلك الفترة كان يتطلب مني السهر، جرت العادة أن أستيقظ ظهراً، فكنت شاهداً على حوادث اعتداء بين الطلاب الصغار خلال شربي فنجان القهوة على الشرفة، وكم شاهدت بأمّ عيني كيف يمر المعلّم أمام المشاجرة من دون أن يحرّك ساكناً، أو أن يجرّب حل الخلاف والضغط لإيقاف المشاجرات التي يشتعل فتيلها الحقيقي بعد ساعتين، أو في اليوم التالي، بين ذوي الطلاب وبالأسلحة النارية.
أبو خليل الدحلة، واحد من مهجري ريف دمشق، لم يُرزق إلا بشاب وحيد مقابل خمس فتيات. يدرس ابنه خليل الآن في الصف الحادي عشر في مدينة إدلب، ويساعد والده في دكانه الصغير بعد انتهاء دوام المدرسة. يستحضر الدحلة خلال حديثه إلى رصيف22، موقفاً مأساوياً جرى معه قبل سنتين عندما جاء إليه أصدقاء ابنه ليخبروه بأن مجموعةً من الطلاب تعتدي على خليل. يقول: "تركت دكاني وزبائني وانطلقت سريعاً إلى المدرسة. كان المشهد مرعباً، مجموعة من الطلاب بينهم طلاب صغار يتناوبون على ضرب ابني. للوهلة الأولى لم أستطع التعرف إليه؛ كانت ثيابه متسخةً جداً ووجهه أحمر والدم يسيل من فمه".
يضيف: "حاولت إبعادهم، لكن ما أزعجني أنه بعد انتهاء المشكلة، تلقّى ابني ضربةً بعصا من طالب لا اعتقد أنه يجاوز الصف السادس، شعرت بأن الدنيا ضاقت بي، فالمارّون يتفرجون والطلاب يشجعون كأنهم في حلبة المصارعة".
يتابع الدحلة: "لقد تأثر ابني نفسياً وجسدياً، وبرغم مجيء بعض ذوي الطلاب المعتدين إلى منزلنا للاعتذار منا بعد وصول الأمر إلى الإدارة، إلا أنني فضّلت نقله إلى معهد خاص، لأن المدارس لم تعد مكاناً للدراسة وتلقّي العلم، بل حلبة مواجهات ومخاطر واستعراض".
تواصل رصيف22، مع مديرية التربية والتعليم التابعة لحكومة الإنقاذ في إدلب، إلا أنها رفضت إعطاء أي تعليق حول حادثة وفاة الطفل، كما رفضت الردّ على أسئلتنا في ما يخص ظاهرة العنف المتزايدة بين الطلاب.
تنامي ظواهر العنف
بالإمكان القول إن ظاهرة العنف بين الطلاب، خاصةً الأطفال منهم، ظاهرة قديمة، فكثيرة هي مشاهد العنف والمشاحنات التي كانت سائدةً قبيل الثورة السورية، إلا أن العنف، وضمن واقع فرضته ظروف الحرب منذ اثني عشر عاماً، بات السمة الغالبة في المجتمعات وبين الشرائح المختلفة، وهي سمة آخذة في التصاعد مع انحدار الوضع المعيشي والاجتماعي والأمني.
كان مجموعة من الطلاب بينهم طلاب صغار يتناوبون على ضرب ابني. للوهلة الأولى لم أستطع التعرف إليه. شعرت بأن الدنيا ضاقت بي، فالمارّون يتفرجون والطلاب يشجعون كأنهم في حلبة المصارعة
محمود المحمد (اسم مستعار)، مدرّس في إحدى مدارس إدلب، اشترط من أجل الحديث إلى رصيف22، عدم ذكر اسمه، لأن وزارة التربية والتعليم تمنع المدرّسين من الحديث إلى وسائل الإعلام تحت طائلة المسؤولية. يقول: "ألمس خلال وجودي في السلك التعليمي أشكالاً مختلفةً للعنف، وقد عاينت إصابات حرجةً للعديد من الطلاب في العين والوجه، وكسوراً مختلفة. عموماً، الإدارة لا تتصرف عند ملاحظة العنف إلا عبر فصل الطالب واستدعاء ولي أمره من دون معالجة المشكلة تربوياً أو إرشادياً، والمشكلة الأكبر أنه في كثير من الأحيان يحتاج ولي الأمر إلى توجيه وإرشاد أكثر من ابنه، وقد رأيت العديد من حالات تهجّم ولي الطالب بالسلاح على الإدارة بسبب مشاجرة كان ابنه طرفاً فيها، من دون أن يسأل عن تفاصيل القضية".
وتُعدّ الحرب بذاتها فعلاً عنفياً لما تحتويه من مشاهد القتل والجرح والرعب والحرمان والفقر وحالات الفقد المؤلمة، وتؤثر بالدرجة الأولى على الصغير والكبير، الذي غالباً ما يجد نفسه محاطاً بمعارك حياتية في محيط أسرته.
يشير المحمد إلى أن "قسماً كبيراً من الأطفال لا يداومون بشكل يومي في المدارس، فكثيرون منهم ملتزمون بعمل، ومنهم من يعمل بعد الدوام في مهن مختلفة وفي الأسواق، ومنهم من يبحث عن الخردة والكرتون والخشب لبيعها وسد احتياجات أسرته، ما يؤدي بطبيعة الحال إلى الاحتكاك بشرائح مجتمعية مختلفة مشارب الوعي والتربية، فضلاً عن كون هذه المهن بحد ذاتها تحتاج إلى نوع من العنف، ناهيك عن انشغال الأب في تحصيل قوت يومه وظروف النزوح والتنقل الكثيرة، والتي تنقل الطالب إلى جوّ مجهول ومجتمع يتعامل معه بنوع من المشاحنة".
التعليم متهالك والإرشاد مستبدَل
يعاني النظام التعليمي اليوم من ثغرات خطيرة تظهر على أرض الواقع، فالمنهج التربوي لم يتغير ولم يطوّر آلية التعامل مع الطفل والطالب عموماً، سواء من الأهل أو المدرسة، كما تغيب وسائل الإرشاد والتوجيه الرادعة والمحفزة في المدارس، وأبرزها دور المرشد النفسي في المدارس والذي غُيّب بشكل شبه كامل، واستُبدل بمواد أخرى تهتم بالجانب الديني فقط، ما يعني أن بيئة المدرسة تتحمل جزءاً من المسؤولية في انتشار بعض أنواع العنف، خاصةً مع ضيق المساحة المخصصة للطلبة، والاكتظاظ، في بيئة المدرسة.
المنهج التربوي في تلك المناطق لم يتغير ولم يطوّر آلية التعامل مع الطفل والطالب عموماً، سواء من الأهل أو المدرسة
حسب المحمد، فإن "المدرّس اليوم ممنوع من توجيه كلمة نقد بحق الطالب، وإذا حصل ذلك فهو مهدد بالفصل كون الكثير من المدارس مدعومة من منظمات، أو ربما يكون ثمن نقده تعرضه لأذى كبير من ذوي الطالب، وهذا ما غيّب دور المعلم الذي اقتصر على التعليم فقط دون الدور التربوي والتوجيهي".
"لقد تم إلغاء حصص الترفيه كالرياضة والرسم والموسيقى، التي تخفف كثيراً من الضغوط، بالإضافة إلى غياب الإرشاد التربوي الذي لا يؤمن به كثر من الأهالي"، يختم المحمد.
مجتمع خصب لبذور التمرد
العنف يُولِّد العنف؛ عنف الأسرة يقابله عنف الأبناء، وعنف بيئة العمل والمدرسة يخلّف حالةً من التمرد وقسوةً مضادةً، وعنف الأفراد المتسلطين مع تزايد حالات الظلم في بيئة يغيب عنها القانون أصلاً وعوامل الردع المناسبة، يقابله أيضاً عنف البيئة الحاضنة بمختلف طرائقه، وقد خَبِرَ الطفل السوري خلال السنوات الأخيرة ألواناً مختلفةً للعنف، وظروفاً صعبةً جعلتها مرحلةً استثنائيةً عن سابق عهدها، فضلاً عن عوامل أخرى ساهمت بشكل واسع في ازدياد قابليته لممارسة العنف، ولا يمكن جعل العنف مقتصراً على المدارس والتجمعات التعليمية، بل أصبح سمةً اجتماعيةً موجودةً في كل مكان.
تروي أم عمر الجباعي، وهي مهجرة خمسينية تعيش في مدينة عفرين في ريف حلب، كيف تعرّض ابنها الأصغر ذو الـ12 عاماً، لتعنيف جسدي ولفظي من شاب عمره 17 عاماً يعمل معه في ورشة خياطة، وذلك خلال فترة العطلة الصيفية، مضيفةً في حديثها إلى رصيف22، أن الاعتداء أدى إلى كسر في يده، ما دفع بقية أبنائها للذهاب إلى الورشة وضرب الشاب المعتدي وكسر يده أيضاً.
وبحسب روايتها، فإن "الخلاف، لولا تدخل العقلاء، كان سيتطور إلى اقتتال ستُستخدم فيه الأسلحة حتماً، وستتحول الورشة إلى بركة دماء كونها تضم عدداً كبيراً من العمال"، مشيرةً إلى أن ابنها بعد تلك الحادثة فقد رغبته في العمل تماماً، وفي أي مكان، خاصةً أنه يتميز بشخصية مسالمة جداً تجعله دائماً كثير العرضة للاستغلال، وهي تُفكر بعد انتهاء عامه الدراسي، في تسجيله في نادٍ لتعلم رياضة الكاراتيه (القتال) حتى يشتد عوده أكثر، حسب تعبيرها.
واحتلت سوريا المرتبة العاشرة عالمياً في معدّل الجريمة والعنف في العام 2022، وفق موقع "نامبيو" المتخصص في مؤشرات الجريمة حول العالم، وحلّت في المرتبة الثانية آسيوياً في معدل الجريمة بعد أفغانستان، والأولى في منطقة غرب آسيا، في حين أنها كانت تحتل المرتبة 11 في عام 2021، والمرتبة 12 على مستوى العالم عام 2020.
كيف ينظر الإرشاد النفسي إلى المشكلة؟
أحاطت بالسوريين أشكال وأنماط من العنف أكثر من أن تُحصى، إذ تتعدد أشكال العنف المجتمعية، فمثلاً عمليات التهجير القسري هي بحد ذاتها عنف، ومعاناة الأولاد في المخيمات من الجوع والبرد والحرمان عنف أيضاً، كذلك العمالة في سن مبكرة، وفقدان أحد الأقرباء أو الأطراف أو الحواس عنف، وتنمّر الكبار والصغار من أهل البلد المضيف عنف مضاعف، وذلك كله كفيل بإثارة العديد من السلوكيات غير الاعتيادية بين الأطفال والمراهقين المتمتعين بمرونة عالية في ذلك، والمفاجئ هو التزام النسبة الأكبر بالسلوكيات الجيدة برغم كل هذه الظروف المحيطة والأسباب المولّدة للسلوكيات العدائية.
في حديثه إلى رصيف22، يرى المتخصص في الصحة النفسية براء الجمعة، أن "العنف بات ثقافةً وسلوكاً متوارثاً في الحلقات التي تشكل المجتمع، من طرق التربية في الأسرة، إلى أساليب تعامل المجتمع مع الأفراد، إلى طرائق تعامل المؤسسات، خاصةً المدارس".
تروي أم عمر أن ابنها يتميز بشخصية مسالمة جداً تجعله دائماً كثير العرضة للاستغلال، فقررت مساعدته، كيف؟ بعد انتهاء عامه الدراسي، ستسجله في نادٍ لتعلم رياضة الكاراتيه حتى يشتد عوده أكثر!
برأيه، عوامل عدة زادت الأمر تأزماً، أبرزها: "النزوح والتهجير، والعامل الاقتصادي المعيشي المرهق، مظاهر وسلوك الاستهزاء والسخرية والتنمر، والنزعة الأنوية والمناطقية، والعنصرية المتورمة، فضلاً عن تفشي مفاهيم مغلوطة حول الرجولة والشجاعة من قبيل رد الصاع صاعين وغيره، وهذه كلها تكرّس سلوك العدائية والعنف لدى الجيل".
لم يعد خافياً أن وسائل الإعلام المتعددة والمتوفرة في يد الصغير والكبير، ساهمت في التهيئة النفسية والسلوكية لقبول العنف وممارسته مع الآخر حتى بات سلوكاً طبيعياً مع ما تحويه هذه الوسائل من وفرة صور مأساوية كصور القتلى والمجازر والجثث، والانفجارات ومظاهر الخراب والحرائق، فضلاً عن غياب الضابط لهذه الوسائل ما يجعل المتلقي "ينمذِج" ما يشاهده من العالم الافتراضي في الواقع المأساوي على واقعه الشخصي.
يشير جمعة إلى أن "التأثير البيئي وتأثير المحيط مهمان جداً للشعور بالأمان والنمو القيمي والأخلاقي السليم في احترام الآخر وعدم إيذاء المحيطين به، وليس المقصود بالعامل البيئي المكاني، المكان الجغرافي الموجود فيه فقط، وإنما يمتد إلى العالم الافتراضي التكنولوجي المتخم بألعاب ومشاهدات وخطابات تشجع على العنف والكراهية والعدائية وتعزز ذلك، خاصةً في مرحلة المراهقة التي يبحث فيها اليافع عن هوية له. وفي غياب اهتمام ورعاية الأهل والبيئة، يجد في هذه المسالك ملاذاً له لإثبات ذاته".
ويقدّم جمعة جملةً من الحلول نستطيع من خلالها الحد من ظاهرة العنف، وتتمحور حول وجود عمل تكاملي مؤسساتي ممنهج وسليم، بالإضافة إلى تنشيط دور رجال الدين في محاربة هذه الظاهرة عبر التجمعات الدينية وفي المساجد، وتفعيل دورات تدريبية عملية للمدرّسين حول كيفية التعامل مع الطلاب وفهم سلوكياتهم وإعادة تفعيل دور المرشدين النفسيين والاجتماعيين في المدارس، وأن تكون هناك فرق ميدانية مؤهلة للقاء الأسر والإصغاء إليها وتعزيز الوعي لديها بكيفية التدبير مع أفراد أسرهم، خاصةً الأطفال والمراهقين.
ومع ما تعانيه المنطقة شمال سوريا من نقص في الخدمات لتغطية كامل الاحتياجات اللازمة لأكثر من 5 ملايين ونصف مليون مهجّر على جميع الصعد، وخصوصاً مع ما أحدثته كارثة الزلزال مؤخراً، يُطرح التساؤل حول هل يمكن للجهات المسؤولة أن تولي جوانب الإرشاد النفسية والمجتمعية ذلك الاهتمام الواسع، في حين أن الأساسيات للبقاء على قيد الحياة من مسكن وإعانات غذائية وطبية تعاني عطباً وضعفاً كبيراً في الاستجابة؟ وهل يمكن لهذه الجوانب الإرشادية أن تقدّم حلولاً جذريةً في مجتمع يعاني أصلاً من مشكلات تهدد وجوده بالكامل؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...