شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"الصّخَاب"... الحلي المعطّرة التي تفوح على صدور الليبيات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والنساء

الاثنين 26 يونيو 202310:57 ص

تندرج هذه المادة ضمن ملف "أسرار الروائح الشرقية"

يخطف بريق الذهب والماس الأبصار، كلاهما متعة للعين التي تراهما وللأصابع التي تداعبهما، لكن جدتنا الليبية لم تكتف بهذا، بل أرادت أن تستشعر الجمال بكل حواسها، تقتني الحُلي فتراها وتلمسها... وأيضاً تشم عطرها.

"الصّخَاب" الذي تزين به عنقها يتدلى على صدرها نافثاً رائحته المميزة الجميلة في كل مكان يصل إليه من جسدها وملابسها، إنه باختصار رائحة الحنين إلى طفولة ضمّها حِجْرُ الجدة فأشبعنا حباً وعطفا، فهل للحنان رائحة؟

"الصخّاب" 

نعم للحنان و"الحِنِّ" كما ينطقه اللسان الليبي رائحة وطعم وألوان لا تخطؤها العين، يسمي الليبيون جداتهم بالإضافة إلى جدتي و"جدّاي" تسمى الجدة "حَنِّي" و"احْنِينَة" و"حنّاي"، من الحنان والحِنّ لذلك يمتزج حنان الجدة برائحتها فتكون كلماتها وملابسها وحتى نظراتها مطراً من ود وحنان، لذلك فـ"الصخاب" هذا العقد الفريد الذي نشمه كما نراه هو جرس الحنين الذي يدق باب الذاكرة.
تقول فاطمة (64 عاماً) لرصيف22: "حتى بعد رحيل أمي بأكثر من عشر سنوات لا زالت رائحة ثيابها المطوية في صندوقها الخشبي المزخرف كما هي، رائحة القرنفل والمحلب وربما الوشق أو العرضاوي، لا أعرف بالضبط لكنه مزيج يشكل رائحة أمي وكأنها كانت ترتديها فقط منذ ساعات". 

فاطمة: "حتى بعد رحيل أمي بعشر سنوات لا زالت رائحة ثيابها في صندوقها الخشبي كما هي، وكأنها ارتدتها منذ ساعات" 
بفتح أحد هذه الصناديق التي ظلت وفية لروائح الجدات بعد رحيلهن سنشم هذا المزيج الذي تكلمت عنه فاطمة دون أن تعرف تحديداً ما هو، لأنه شيء يختلط فيه الملموس بالمحسوس ليصنع هذا الشعور الذي يتجاوز الأنف إلى أعماق الروح.
من المقتنيات التي ارتبطت في الوجدان الليبي بالجدات "الصّخَاب" الذي هو عقد من الخرز غامق اللون بين البني الداكن والأخضر الداكن له رائحة عتيقة طاغية تلتصق بالثياب وبالوجوه وحتى بالضحكات والحكايات. 

وصفة جدتي 

سألت جدتي مبروكة "83 عاماً" عن هذا العقد وكيف يصنع فقالت: "إنه نوع من الحبوب تشبه رأس القرنفل، نحضره من العطار ونقوم بحكّها للتخلص من قشوره ثم نطحنه في مهراس ثقيل حتى يلين تماماً، ونعجنه بقليل من الماء لأن فيه زيوتاً مثل اللوز، وقد نستعين بقليل من المكونات التي تعزز الرائحة مثل حبات قليلة من القرنفل، ثم نقوم بتشكيل هذا العجين إلى خرزات صغيرة كرات أو مثلثات نثقبها بإبرة تمهيداً لضمها معاً بخيوط بعد أن تجف تماماً لصنع "الصخاب"، والذي يتكون أحياناً من طبقة واحدة وأحياناً من طبقات ثلاث أو أربع كما ترتديه العروس وقد نستعين ببعض الخرزات الملونة لتعزيز الشكل فقط". 
المحلب إذن هو المادة التي يصنع منها العقد المعروف في ليبيا ب"الصّخاب" وبالعودة إلى أصل هذه المادة فهي على الأرجح من بذور نبات فصيلة الكرزيات، وقد جاء في الموقع المتخصص "الطبِّي" بأنه "الكرز البري، وهو نوع نباتي من نفس جنس البرقوق يؤخذ من شجرة متوسطة الحجم يصل ارتفاعها إلى سبعة أمتار وتستعمل بذور المحلب كتوابل مطحونة في المطبخ وخاصة لتحضير الحلويات والمخبوزات، كما يحتوي على العديد من المواد التي تفيد الجسم كالزيت الثابت والعديد من الأحماض الدهنية، ويحتوي على كمية من المواد الهلامية ونسبة كبيرة من المواد العطرية التي تستخدم في العطور لرائحته الزكية". 
المحلب هو المادة الأساسية التي يصنع منها عقد الصخاب، ويتكون في الغالب من طبقة واحدة، وأحياناً من ثلاث وأربع طبقات، وقد تضاف إليه بعض الخرزات الملونة لتعزيز الشكل 

المحلب صيدلية طبيعية تؤثر في كل عضو من جسم الإنسان، ربما هذا ما يفسر بعض صفات الصخاب التي منها ثبات رائحته على الملابس وعلى الجسم، كتبت الباحثة التونسية زينب قندوز في العدد 719 من مجلة العربي: "الصخاب اصطلاحاً هو قلادة تتخذ من قرنفل وسُكٍّ ومحلب ليس فيها من اللؤلؤ والجوهر شيء، وعقد الصخاب هو حُلي تتزين بها المرأة، تعبق منها روائح المسك والعنبر وغيرهما من المكونات، روائح لا تزول منه لسنين طوال مهما تعدد ملبسه أو درجات حرارة محيطه وموضعه.... وتتشابه صناعة الصخاب في مدن وقرى الجنوب التونسي كثيراً بمثيلاتها من مناطق المغرب العربي على غرار الجزائر وليبيا".
وحسب الباحثة التونسية فإن إعداد هذا العقد في ولاية مدنين جنوب شرقي تونس يشبه كثيراً الطريقة التي أخبرتنا عنها الجدة مبروكة وهي تقيم في غريان شمال غربي ليبيا.

هل لا تزال رائحة الصخاب حيّة؟ 

اليوم فقد الصّخاب كثيراً من بريقه وعبقه برحيل معظم ربّاته من جدات وأمهات، وتغير الذوق المحلي باتجاه الاكسسوارات والحلي ذات الطابع العصري بصرف النظر عن قيمتها المالية سواء كانت من الذهب والماس أو من العقيق الملون الرخيص والمقلد، لكن هذا العقد ما زال يخوض حرب البقاء، منطلقاً من مركزه المهم جداً كلمسة أخيرة على الزي الليبي التقليدي "البدلة الصغيرة أو الكبيرة أو بدلة الجلوة" حيث يوضع فوق بقية الحلي الذهبية والفضية التي ترتديها النساء مع هذه الملابس التقليدية.

يقول الشاعر الليبي علي الكيلاني:
"عبروق ملبوسها من الحرابة
فايح صخابه
تدلّى على صدر حاضن احبابه"

والعبروق هو غطاء رأس للمرأة في ليبيا وبعض مناطق شمال أفريقيا، والحرابة هي إحدى بلدات جبل نفوسة "الجبل الغربي" حيث تنتشر صناعة وارتداء هذا العقد والحرص على اقتنائه.
ولا تزال رائحة "الصخاب" تهجم بشراسة على مكامن الحنين في النفس لتنتشل الجسد وتعيده إلى مهد الطفولة والصبا في حِجر جَدة أو في حضن أم أو في مشاعر عروس تزينت به فكللها بالفرح. 

البخور الليبي 

ومن الصخاب إلى البخور، سحب الدخان التي تظلل كل الأعياد والمناسبات في ليبيا، البخور بأسمائه المحلية المختلفة وأهدافه التي تمتد بين الحقيقة والخرافة، فهو الحارس الذي قد يكون مسؤولاً عن سلامة طفل رضيع، وهو العطر الذي يغمر المكان وتتجمل به النساء، وهو رفيق الزغاريد في الأعراس والضباب الرقيق الذي يؤطر أهازيج "الميلود" وعاشوراء وبداية السنة الهجرية وصباحات أيام العيد وليالي رمضان.
يرعى حضْرات الصوفيين بأجسادهم المتمايلة على وقع الدفوف التي لا تفرط في نصيبها منه لأن صوتها يصبح أقوى وأجمل عندما تدور حول مصدر الدخان سبع مرات أو أكثر ليقوم البخور بشدّ جلدها وتحسين آدائها.
بشكل عام لا يخلو بيت ليبي من البخور الذي يُحرق على بضع جمرات مشتعلة أو على صفيح ساخن. 
وبالعودة إلى منازلنا الأولى تقول جميلة (63 عاماً) لرصيف22: "عندما كنا نسكن في حوش الحفر كانت رائحة البخور مختلفة، كنت أرش بعض الماء على الأرضية الترابية لتصبح رطبة فلا ينتج غبار عن كنسي لها باستعمال حزمة من نبات الشيح أو عرجون نخلة يابس، وبعد أن أنهي عملي وأحرق البخور في المكان تساعد رطوبة الأرضية على التصاق رائحته بالأرض وبالسقف والجدران أيضاَ، وتبقى طازجة لأيام تغمر المكان والملابس والفرش القليل وكل شيء، البخور اليوم في المباني الإسمنتية يذهب بسرعة رغم فخامة المباخر وتوفر البخور بأنواعه".  

لا يغيب البخور عن أي مناسبة ليبية، من الأعراس إلى عاشوراء إلى رأس السنة الهجرية إلى العيد ورمضان والحضرات الصوفية 
في قاموس البخور هناك عدة مفردات محلية قد نتشارك بعضها مع جيراننا في شمال أفريقيا، هناك "الفاسوخ" و"الدّاد" و"العرضاوي" و"الحلتيت" و"الجاوي" و"القماري"، لكن أهمها هو "الوْشَقّ" الذي تعشقه الليبيات في امتداد تاريخي صريح من الجدات إلى الحفيدات، فيدخل في طقوس نظافة البيت وترتيبه كخطوة أخيرة تقول إن كل شيء على أحسن ما يرام. 

"الدّاد" في عيون الحُسّاد" 

"الجاوي" يأتي من جزيرة جاوا فهو نبات من رتبة النجميات، أما الوشق فيقول العطارون إن أجود أنواعه تأتي من إيران، شأنه في ذلك شأن الأنواع الأخرى التي يأتي بعضها من الهند ومن إندونيسيا ومن مناطق مختلفة في العالم، فليبيا كانت دائماً معبراً مهماً لطرق القوافل منذ فجر التاريخ، ومنذ أن كان الجرمنت حلقة وصل بين الفينيقيين الذين استقروا زمناً في شمال أفريقيا وبين أقصى جنوب القارة التي لا تخلو معتقدات بعض مناطقها وقبائلها أيضاً من ثقافة البخور، حد استعماله في تعويذات السحرة والمشعوذين وكم كتب الروائي الليبي "إبراهيم الكوني" عن هؤلاء في بعض أهم وأجمل رواياته التي كان مسرحُها الصحراء الكبرى.
وبالعودة إلى الوشق فإنه ليس مجرد نوع من البخور الذي يعطر المكان ويضفي عليه رائحة زكية منعشة لكنه يتجاوز ذلك إلى أشياء لا تدركها إلا الليبيّات، فهو "يوسّع الخاطر" كما يقلن ويعتقدن، ويشيع جواً من البهجة الخفية التي نجهل مصدرها، لكنها تتسلل عميقاً عندما نتنفسها مباشرة من على فوهة المبخرة وكأننا نريد أن نجمع كل شيء من ذرات الهواء الغارقة في عبقه، ومن المباخر الطينية الصغيرة و"الكانون" الذي لا تنطفئ جمراته بعد صنع الشاهي إلا بوضع قطع من الوشق عليها كختام لطقوس صنع الشاهي وشربه، إلى المباخر الأنيقة واكسسواراتها الفخمة التي أضفت على الأمر روح العصر.
وكما يرتبط "الوشق" بالأمهات والجدات فإنه يحيل على الأطفال، تلك الأجساد الصغيرة الرطبة التي تعود إلى البيت بعد إخراجها من أجساد الأمهات لتجده وسكانه في انتظارها بلهفة وشوق تترجمهما رائحة الوشق في فراش الطفل وملابسه وكل أشيائه الصغيرة، وليس غريباً عن أي أم أو جدة في ليبيا أن تأمر ابنتها أو حفيدتها بتعطير الطفل بـ"الوشق" حتى يهدأ ويتوقف عن البكاء أو حتى لا تصل إليه العيون الحاسدة. 
الوشق ليس مجرد نوع من البخور، ويتجاوز ذلك إلى أشياء لا تدركها إلا الليبيّات، فهو "يوسّع الخاطر" كما يقلن، ويشيع جواً من البهجة الخفية التي نجهل مصدرها 

كما يرافق الوشق "العالة" وهي أداة صنع الشاي، فتسند رائحته طعم "الشاهي" وتجعله مثالياً، ليحترق على مهل في الصباح فتخرج رائحته لتنافس رائحة القهوة في صنع النهار، ويصنع في الشتاء دفئاً خالصاً ويشكل مع "السّفنز" الليبي ثنائياً قاهرا لبرد المساءات الشتوية الطويلة. 
ومثلما نستطيع اختصار ليبيا اليوم في رائحة كوب "مكياطة" صنعه شاب ليبي في مقهى صغير في أي شارع أو زنقة، نستطيع أن نجد ريحها في جرد جد وفرملة أب، لكن العبق الآتي من الماضي السحيق مثل صخاب نسائها وبخورهن ورائحة غرر الجدات التي لم يخجلن يوماً من إظهارها وتزيينها بالزيت والقرنفل والحنة، هي حكاية الحواس التي تعود إلى صناديق الجدات وصُرَرِهن كلما احتاجت أن ترتاح بعيداً عن صخب هذا العالم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image