تندرج هذه المادة ضمن ملف "أسرار الروائح الشرقية"
يفوح في أقدس الأماكن وفي أرذلها، يتناثر على أجساد الأحياء طيباً ينبض به الجمال، أو فوق الجثث في محاولةٍ للتغطية على رائحة الموت، بل ويفوح في لحظات الحب والحرب. هذا وأكثر، بالكاد يكفي للتعبير عن العطر وحضوره في الشعر والأدب والتاريخ عند العرب.
قبل أن تصحبنا قوافي الشعراء العرب عبر العصور في تاريخ الشعر بالعطر ودلالاته الحضارية والثقافية، من الجدير بالذكر أن العديد من كتب التاريخ، مثل كتاب "البلدان" لليعقوبي، و"معجم البلدان" لياقوت الحموي و"نزهة المشتاق" للإدريسي و"المسالك والممالك" لابن خرداذبة ومؤلفات ابن بطوطة وابن جبير وغيرها، لم تخل من سيرة العطر، كما لم تخل كتب اللغة والبلاغة من أسماء العطور وأنواعها ومعانيها. وكذلك الكتب التي تتناول الجسد وتضم ملاحظاتٍ حول علاقة الرائحة بالتواصل الجسدي بين الرجل والمرأة.
كحل وماء وآلهة
بالكحل والماء المعطر تتزين المرأة، وتزيد على جمالها جمالاً، وتترك فوق جسدها أثراً من روائح الجنة كما يشير ابن قتيبة في "عيون الأخبار". أيضاً، يرد في الجزء السادس من كتاب "المفصل في تاريخ العرب" لجواد علي، أن العرب قبل الإسلام كانوا "يتقربون إلى آلهتهم بمباخر عطرية يحرقون البخور فيها، خصوصاً في المناسبات الدينية والأعياد" إذ تشكل العطور لديهم دليل فرح إذا انتشرت، ودليل حزنٍ إذا غابت. أما في الجزء الرابع من الكتاب نفسه، فيكتب أن "زينة المرأة لا تكتمل بدون الطيب" الذي كان متوفراً وله أسواق خاصة به، وعطارون يصلهم الطيب والعطر من الهند التي "تسببت تجارة العطور ببناء علاقة مميزة بينها وبين العرب القدماء" بحسب ما يراه المؤلف كاظم الجنابي في كتابه "العطر عند العرب".
كانت العرب قبل الإسلام تتقرب إلى الآلهة بمباخر عطرية، خصوصاً في المناسبات الدينية والأعياد، إذ شكلت العطور لديهم دليل فرح إذا انتشرت، ودليل حزنٍ إذا غابت
لكن العرب لم يكونوا بدايةً منتجين للعطور رغم اهتمامهم الكبير بها، هذا ما يؤكده الكاتب والباحث على طه النوباني، الذي أعد كتاب "العطر"، وهو كتاب مختارات شعرية يضم قصائد مما نظمه الشعراء العرب في العطر عبر العصور، حيث يرى وفق ما قاله لرصيف22 "إن الجزيرة العربية التي كانت محاطةً بحضارات وممالك عديدة منها البيزنطية والفارسية، تقع جغرافياً في موقعٍ يؤهلها للربط بين هذه الحضارات، حيث تمتد على أراضيها طرق التجارة الطبيعية، التي مرت منها مختلف البضائع، بما فيها العطر الذي لم يغفل أهل الجزيرة عن روائحه وأنواعه".
أهل الحرب وأهل الورد
تَــدَارَكْتُمَا عَبْسـاً وَذُبْيَـانَ بَعْـدَمَا تَفَـانَوْا وَدَقُّـوا بَيْنَهُـمْ عِطْـرَ مَنْشِمِ
وَقَـدْ قُلْتُمَـا إِنْ نُدْرِكِ السِّلْمَ واسِعاً بِمَــالٍ وَمَعْــرُوفٍ مِـنَ الْأَمْـرِ نَسـْلَمِ
في معلقته، يشير زهير بن أبي سلمى، إلى قسم وفاء مميز كان المتحاربون يقسمون به على شفا حروبهم، وهو "عطر منشم" الذي يغمس قادة الحرب أيديهم به ويعطرون أجسادهم بمائه مؤدين الوعود ألا يوقفوا القتال أو يهربوا. وفي كتابها "الطيب والعطر في الشرق"، تذكر المؤلفة نادية الغزي أن منشم اسمٌ لامرأة تعمل في العطارة. وربما تكون قد حققت شهرة في الأسواق وخلوداً في الشعر بسبب الاستعمال النادر والغريب هذا لما كانت تبيعه من الطيب في زمن (الجاهلية).
وفي الكتاب نفسه، تشير الغزي بصورة غير مباشرة إلى أن العطر في مراحل أكثر تقدماً من التاريخ العربي، بداية من العصر الأموي والعباسي من بعده، لم تخل من ربطه بالحب والذكريات الجميلة، إذ بدأ ينسحب من الحضور في حكايات وأشعار الحرب والثأر، وصورة اللطائم التي تفوح روائحها في الصحراء من بعيد (اللطائم هي البعير المحملة بالمسك والطيب). وبدأ يتخذ مكانة أكبر في الطبيعة والحب والجمال. وتعبر عن وجهة النظر هذه بأبيات شعر عديدة، منها بيت الشاعر ابن وكيع:
لم أدرِ من قبلِ رَيحانٍ مَرَرتُ بهِ أنَ الزُمُردَ أغصانٌ وأَوراقُ
وبالعودة إلى الكاتب علي طه النوباني، فإنه يرى في تطور المدن العربية وحواضرها وأسواقها، وتحسن التجارة وتطور الثقافة والعلوم، سبباً في انتشار العطر على مدى أوسع، إذ بدأ العرب بتوثيق أنواعه كالكافور والبخور والريحان والزعفران والأقحوان والمسك، وغيرها الكثير، كما كتب الكندي في رسالته حول الكيمياء بيانات متعلقة بتقطير العطور، وكان جابر بن حيان قد سبقه إلى ذلك أيضاً. وهو ما أدى برأي الباحث إلى اكتساب العطور مكانتها كدلالة على التقدم في النظرة الجمالية إلى الإنسان والمكان والبيئة المحيطة.
كتب الكندي بيانات متعلقة بتقطير العطور، وكذلك فعل جابر بن حيان من قبله، فاكتسبت العطور مكانتها كدلالة على التقدم في النظرة الجمالية
في هذا السياق، تشير الغزي إلى أهل الشام وورودهم "التي كانوا يرتشفون رحيقها مع الشاي" فهي لم تكن حاضرة بعطرها في بيئة نظيفة يحيط بها الماء والاخضرار فقط، بل كانت جزءاً أساسياً من البيئة المحيطة بالعمران، وأحد أسس الإحساس بالجمال بصورةٍ يوميةٍ لا غنى عنها.
وعلى صعيد أضيق، كان العطر حاضراً في لحظات التأمل وفيض الأفكار والمشاعر، وفي اللحظات الحميمية، سواء كان ورداً أو طيباً. وفي هذا يقول ابن حجة الحموي حول الورد الجوري وعطره:
أرى الوردَ عِندَ الصُبحِ قَد مدَ لي فماً يُشيرُ إلى التقبيلِ في ساعةِ اللَمسِ
وبعدَ زَوالِ الصُبحِ يبدو كَوجنَةٍ وَقَد أثَرَت في وَسطها قُبلةُ الشَمسِ
العطر والكتمان ضدان
في زمن إسحق الموصلي، خلال القرن التاسع الميلادي، وكان صانع غناء وموسيقى وأديباً مميزاً بمقاييس زمنه، كتبت جارية تحبه على جبينها بالمسك "العشق والكتمان ضدان لا يجتمعان"، وربما كانت عبارتها هذه بدافع الحب، غير أن قراءتها اليوم تشير إلى المدى الذي تطور فيه حضور العطر في الحياة العربية وآدابها، فقد أصبح منذ العصر العباسي موضع اهتمام معظم طبقات المجتمع، وخاصة الأدباء والخلفاء، إذ يشير الجنابي في كتابه ذاته، إلى أن هارون الرشيد كان يغرق نساء حاشيته بالعطور، ونهج أولاده والمسؤولون لديه ومن حكموا من بعده هذا النهج، كما كان لكل منهم عطره المصنوع خصيصاً له كي يتميز به، أيضاً، فإن الطيب بأنواعه غزا مجالس الأدب والشعر ومشارب الخمر ودعوات الحب والشوق، وتغلغل في صفحات الكتب إذ كتبت العديد من النصوص بأنواع مختلفة من الطيب.
في معلقته، يشير زهير بن أبي سلمى، إلى "عطر منشم" وهو قسم وفاء مميز كان المحارب يقسم به وهو على شفا المعركة، فيغمس قادة الحرب أيديهم فيه ويعطرون أجسادهم بمائه مؤدين الوعود ألا يوقفوا القتال أو يهربوا
ولقد أدى هذا كله ليكون العطر هاماً اقتصادياً كتجارة، ومؤشراً على نمط الحياة والتفكير في أحيان كثيرة على المستوى الاجتماعي، إذ شكل حضوره دلالة على الفرح والأمل والانفتاح، وربما ارتبط غيابه بالانكفاء واليأس. وفي النهاية، أسهم العطر في تجسيد حاسة الشم في الشعر العربي أيضاً. وها هنا، أبيات شعر من كتاب المختارات الشعرية "العطر" إذ نبدأ بأكثر ما يحزن المتنبي في موت امرأة محبوبة، وهو أن الموت سلبها القدرة على اشتمام رائحة الخزامى فمنعها عن الإحساس بالحب والجمال. ومن ثم نقرأ لعنترة بن شداد أسلوبه في نبذ العنصرية، بأن جعل المساواة بمثابة مسك يعبر عن جمال الإنسانية لا عن التفرقة في اللون أو العرق. ونستعيد أخيراً قبلة قيس على شفتي ليلى، ورائحة عطرها التي جعلت للذكرى رائحة أبدية تعود كلما نبتت أقحوانة في مكان ما من هذا العالم.
المتنبي:
نَزَلـتِ عَلـى الكَراهَةِ في مَكانٍ بَعُـدتِ عَـنِ النُعـامى وَالشَمالِ
تُحَجَّـبُ عَنـكِ رائِحَـةُ الخُزامـى وَتُمنَــعُ مِنــكِ أَنـداءُ الطِلالِ
عنترة بن شداد:
لَئِنْ أَكُ أَسْوَداً فَالْمِسْكُ لَوْنِي وَمَـا لِسـَوَادِ جِلْدِي مِنْ دَوَاءِ
وَلَكِـنْ تَبْعُـدُ الْفَحْشـَاءُ عَنِّي كَبُعْـدِ الْأَرْضِ عَـنْ جَوِّ السَّمَاءِ
مجنون ليلى
بِرَبِّـكَ هَلْ ضَمَمْتَ إِلَيْكَ لَيْلَى قُبَيْلَ الصُّبْحِ أَوْ قَبَّلْتَ فَاهَا
وَهَـلْ رَفَّتْ عَلَيْكَ قُرُونُ لَيْلَى رَفِيـفَ الْأُقْحُوَانَةِ فِي نَدَاهَا
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...