شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
وجه الثقافة العربية المُشرق في

وجه الثقافة العربية المُشرق في "اغتيال الهوية"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع نحن والتاريخ

الخميس 6 يوليو 202312:01 م

"اغتيال الهوية" كتاب يناقش ويحلل ويفكك أطروحات المجموعات اللغوية (القوميات والإثنيات)، ويُعدّ بحق نتاج ربع قرن من الترحال والبحث والتقصي ومعايشة الثقافات المختلفة من أقصى جنوب الجنوب في زيّه الجديد "نيوزلندا"، إلى الإكوادور وإفريقيا مروراً باليابان وجنوب شرق آسيا، ألفه الشاعر والكاتب العراقي باسم فرات، الذي أصدر عشر مجموعات شعرية، آخر مجموعة منها فازت بالمركز الأول لجائزة حلمي سالم في القاهرة 2022، وثمانية كتب في أدب الرحلات، فاز بثلاث جوائز عنها، منها جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب عن كتبه الخمسة الأولى في أدب الرحلات 2019.

في فصل "البداوة المنبسطة والبداوة الوعرة"، يناقش فرات ويفكك مقولات ثابتةً أقرب إلى المقدس، ويثبت أن البداوة المنبسطة بنَت عشرات المدن التدوينية، فنحن أمام البصرة والكوفة وواسط وبغداد وعشرات المدن الأخرى التي بإمكاننا الحديث عن تاريخ ثقافي تدويني فيها يمتد لعشرات الأجيال ولأكثر من ألف ومئتي سنة، بينما تفتقد مدن البداوة الوعرة هذه الميزة.

كتاب يناقش ويحلل ويفكك أطروحات المجموعات اللغوية (القوميات والإثنيات)، ويُعدّ بحق نتاج ربع قرن من الترحال والبحث والتقصي ومعايشة الثقافات المختلفة… "اغتيال الهوية" لباسم فرات 

الأرض الواقعة ما بين سفوح جبال زاغروس والخليج العربي شرقاً، وسفوح جبال طوروس والبحر المتوسط شمالاً، وشرق النيل غرباً، هي مهد الحضارات والكتابة والأبجديات والتدوين، ومن هنا تقول قراءة باسم فرات بأن المجموعات اللغوية الشفاهية حتى العصر الحديث، وتلك التي لم يصل عدد شعرائها وأدبائها إلى العشرات بعد ممن عاشوا قبل الحرب العالمية الأولى، وليس بإمكانهم الحديث عن سبعين أديباً نضجت تجاربهم الإبداعية قبل منتصف القرن العشرين، ومئتَي شاعر وأديب كتبوا بلغتهم وماتوا قبل أفول القرن العشرين تماماً، هذه المجموعات اللغوية طارئة على هذه المنطقة، وقد يكون لهم وجود هامشي وخجول ولكن كثافتهم السكانية الحالية لا يمكن أن تزيد عن ثلاثة قرون ونصف قبل الحرب العالمية الأولى.

يرى باسم فرات، أن النخب العربية، لا سيما اليسارية، تعاطفت كثيراً مع غير العرب، ولأن غالبية القيادات اليسارية جذورهم غير عربية إسلامية، فهم مرروا حتى المزاعم العنصرية والمغالطات التاريخية، وقد وجدوا التربة صالحةً لتمرير وتثبيت مزاعمهم، فالأنظمة العربية "الثورية" كانت استبداديةً وتحوّل الحكم فيها إلى جمهوريات عائلية، ولم تنعم بتطور طبيعي، والنخب العربية غالبيتها العظمى مكونة من شعراء وأدباء وهؤلاء حصروا قراءاتهم في الشعر والأدب والنظريات النقدية، وخلطوا بين النقد البنّاء وبين المزاعم، وأصبحوا يهللون لكل ما يُكتب وفيه إساءة إلى العرب والعروبة والتاريخ العربي الإسلامي.

يتناول الكتابُ ظاهرةَ الاستخفاف بالتاريخ، فالكل يفتي بالتاريخ وقلة قليلة، بل نادرة، متمكنة من أدواتها، ويعطي أمثلةً كثيرةً، هي في غالبيتها جديدة على الوعي الجمعي وما هو سائد في الوسط الثقافي العربي، وهي حقائق صادمة بحق، مثلاً: الوجود العربي في الهلال الخصيب (العراق وبلاد الشام) سبق الوجود الفارسي في إيران، وذِكر العرب في التاريخ سبق ذِكر الفرس بأكثر من قرنين، والوجود العربي في أعالي دجلة والفرات وشرق نهر دجلة بما في ذلك في جنوب غرب إيران وعلى ضفتي الخليج العربي وضفتي البحر الأحمر وسفوح جبال زاغروس وسفوح جبال طوروس والبحر المتوسط وشرق دلتا النيل، وفي "العمق التركي اليوم"، سبق الإسلام بألف عام، وفي بعض المناطق بأكثر من 1400 عام.

يرى فرات، أن بعض الأحداث تُعدّ فاصلةً في تاريخنا، ويعطي أهميةً لحدثين مهمين تغيرت الخرائط بسببهما؛ حدث سقوط الأندلس الذي تزامن مع الوصول إلى الأمريكيتين، وحدث الحرب العالمية الأولى.

كما أن للّغة العربية مئةً وست عشرة شاعرةً قبل الإسلام، أي وُلدن قبل القرن السابع الميلادي، بينما ليست للفرس، مثلاً، شاعرة واحدة قبل القرن العاشر الميلادي. وأبو تمام في كتابه "ديوان الحماسة"، بحسب ما ورد في فهرس الكتاب، أورد مقطوعات شعريةً لأربعمئة وستة وثمانين شاعراً، وهذا يعني أن لدينا مئات الشعراء الذين ماتوا قبل الحرب العالمية الأولى بما يزيد على 1200 سنة، وهو رقم لم يتوفر لأمة من الأمم، فضلاً عن حقيقة تستحق التأمل وإعادة التفكير، ألا وهي أن اللغة العربية أقرب اللغات قاطبةً إلى اللغة الأكدية.

الاستخفاف بالمعرفة التاريخية، قاد إلى اجتهادات كارثية، ومزاعم لا تمت إلى الحقيقة بصلة مطلقاً، وأصبحت هذه من المقدسات، حتى لا يمكن لمن يتصدى لها لتفنيدها علميّاً، ومنطقيّاً، إلا أن يُتّهم بتهم هي حق طبيعي له، أي "القومجية" و"العروبة"، وكأن علينا أن نتغاضى عن حقيقة أن غالبية غير العرب المسلمين في العراق مثلاً، هاجروا أو دخلوا العراق خلال القرون الخمسة الأخيرة، وأن ثمانين ألف سرياني دخلوا في أثناء الحرب العالمية الأولى وما بعدها، وأضعافهم من المسلمين غير العرب، فضلاً عن أولئك الذين تدفقوا على العراق بعد الفتح الإسلامي، ويكاد لا يكون هناك وجود لمسلم غير عربي له حضوره في العراق قبل بناء بغداد، بل حتى يهود العراق تدفقت أعداد كبيرة منهم بعد سقوط الأندلس، ونادراً ما يوجد مَن كان له وجود قبل الإسلام.

إذاً، الدفاع عن المجموعات اللغوية غير العربية، واجب إنساني ووطني، ولكن السكوت عن متطرفيهم وما تتضمنه سردياتهم وخطابهم السياسي والثقافي، من تهويل حول ماضيهم، وإساءات إلى العرب، يُعدّ خيانةً كبرى.

لا يخفي الكاتب تعاطفه وانحيازه إلى التنوع، عبر تعاطفه وانحيازه إلى ما يُطلق عليهم "الأقليات"، ولكنه يرفض التطرف والقراءة الخطأ وإشاعة المعلومات غير الدقيقة والمنافية للمعرفة التاريخية، مع أو ضد، أي في الدفاع عن "الأقليات" دفاعاً متطرفاً على حساب وحدة التراب الوطني والهوية العربية الإسلامية للوطن العربي، وتبنّي أطروحاتهم ومزاعمهم كافة، بلا تمحيص وتدقيق، ويرفض عدم تبنّي الحقيقة المطلقة التي تقول: "لا تخلو مجموعة سكانية من تباين في الآراء والأفكار، تبايناً قد يصل حد التطرف والعنف عند بعضهم، وفي ظروف حرجة مثلما تمر بها المنطقة والعالم حاليّاً، فإن أصحاب الآراء المتطرفة قوميّاً وعقائديّاً ومناطقيّاً هي التي تطفو على السطح لأنها الزبد، ويجب الخشية من تحول الزبد إلى ماء زلال يشربه الجميع بدون دراية".

يتناول الكتاب ظاهرة الاستخفاف بالتاريخ، فالكل يفتي بالتاريخ وقلة قليلة، بل نادرة، متمكنة من أدواتها.

ولهذا نلاحظ أن الكتاب يُفصّل بين مصطلحات مثل القومية والإثنية والعِرق، وبين مصطلحَي الكتابة والتدوين، ويعطي دوراً كبيراً للذاكرة الجمعية التدوينية المكانية، التي تقودنا إلى أسئلة يحاول أن يجيب عنها الكاتب، بل تحل لنا إشكاليات عديدةً، مثل "كثرة الذين كتبوا بالعربية وهم من أرومة غير عربية"، فلقد ترسخت في الوعي الجمعي سلبية هذه الحقيقة، وعدّها منقصةً تسيء إلى العرب، لكن صاحب "اغتيال الهوية"، يُثبت لنا أن المجموعة اللغوية لا تصل إلى أعلى مراحل القومية، إلا حين يكتب بها عشرات الآلاف مؤلفاتهم وشعرهم وأدبهم، وقد مضت على وفاة غالبيتهم العظمى قرون عدة. وما ينطبق على اللغة العربية في العصر العباسي وما تلاه، انطبق بعد قرون على اللغتين الفارسية والتركية، حيث كتب عشرات الآلاف باللغتين المذكورتين بعد سقوط بغداد ببضعة قرون، ولم تكن اللغة العربية شذوذاً، فقد سبقتها لغتان هما اليونانية واللاتينية، وأغلب من كتب بهما لا ينتمي إلى أرومتهما العرقية. وبهذا يثبت باسم فرات أن هذه مفخرة للعرب والثقافة العربية.

وإذا كانت الكتابة تشمل ما دُوّن على الألواح الطينية والصخور والبرديات والمعابد، فإن من شروط التدوين، ظهور موسوعات كثيرة ومئات الكتب الضخمة في لغة ما، كما يجب أن تحتوي اللغة مئات الأدباء والشعراء والكتاب الذين نعرف جيداً محل وتاريخ ولادتهم ووفاتهم ومؤلفاتهم وأساتذتهم وطلابهم، وشرط التدوين أساسي حتى تنتقل المجموعة اللغوية من مرحلة الإثنية إلى مرحلة القومية، ومن شروطها بناء المدن، وتشكيل غالبية ثقافية في مدن حديثة وقديمة، وأن تكون أجيال وأجيال من الشعراء والأدباء والمؤرخين والباحثين والنحويين والكُتّاب قد وُلدوا أو ترعرعوا وماتوا فيها، فلا يمكن نسبة مدينة إلى مجموعة لغوية أصبحت تُشكل غالبيةً مطلقةً فيها قبل القرن العشرين، وهذه المجموعة تفتقد نخبةً ثقافيةً وفكريةً وأدبيةً بلغتها في تلك المدينة قبل القرن التاسع عشر على أقلّ تقدير إن لم يكن قبل هذا التاريخ بقرون.

لا يخفي الكاتب تعاطفه وانحيازه إلى التنوع، عبر تعاطفه وانحيازه إلى ما يُطلق عليهم "الأقليات"، ولكنه يرفض التطرف والقراءة الخطأ وإشاعة المعلومات غير الدقيقة والمنافية للمعرفة التاريخية، مع أو ضد، أي في الدفاع عن "الأقليات" 

ويرى فرات، أن بعض الأحداث تُعدّ فاصلةً في تاريخنا، ويعطي أهميةً لحدثين مهمين تغيرت الخرائط بسببهما؛ حدث سقوط الأندلس الذي تزامن مع الوصول إلى الأمريكيتين، وحدث الحرب العالمية الأولى، ومنهما ينطلق فرات إلى محاور عدة مبثوثة في الكتاب، منها هذا السؤال الذي يطرحه ويجيب عنه: لماذا نقول الآداب المكتوبة بالإنكليزية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية، بينما نقول "الأدب العربي"، وهذا متفق عليه في الدرس الأكاديمي العالمي؟

لذا يرى أن اللغات الأوروبية تفتقر إلى الذاكرة الجمعية التدوينية المكانية خارج أوروبا، هذه الذاكرة التي لا تتشكل خلال قرنين وثلاثة، أو خلال بضعة عشر جيلاً، إنما تحتاج إلى قرون وقرون. ويرى أن الذاكرة الجمعية التدوينية المكانية، في حدها الأدنى تزيد على قرنين، وهي ذاكرة هشة للغاية، أي أن يكون للمجموعة اللغوية عشرات الشعراء والأدباء الذين كتبوا بلغتها وماتوا قبل أكثر من قرنين، وكلما عدنا إلى الوراء قَرناً قَلَّت الهشاشة، لكن الذاكرة التي عمرها يزيد على سبعة قرون، مع وجود أدلّة على وجود كثيف للناطقين بها، ضِعف هذا التاريخ، كما هو الحال مع الوجود العربي في "الوطن العربي" والوجود الفارسي في إيران، وهذا ما تفتقر إليه اللغات الأوروبية خارج أوروبا.

كما أن باسم فرات يثبت في كتابه عربية الجيل المؤسس للنحو العربي، وعراقية الحرف العربي، لكنه في الوقت نفسه يُشيد بدور الفرس والسريان والأتراك والأمازيغ والأقباط والنوبيين وغيرهم في الحضارة العربية الإسلامية، ويراهم مع العرب مادتها وصنّاعها، بل يرى أن العروبة هوية ثقافية وفضاء حضاري اجتماعي صنعته شعوب المنطقة بكل ألفة ومحبة، ويطالب بالإشادة بدور غير العرب المسلمين في حضارتنا وهويتنا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image