عام 2016، عندما كنت أدير مشروعاً تطوعياً لزراعة المكتبات في المدارس الريفية التونسية، تحت عنوان "مكتبات الخيال"، وهو مشروع مستمر إلى اليوم مع جملة من الأصدقاء الذين رافقوني في ذلك الحلم لزراعة مئة مكتبة في الريف التونسي، انتصاراً للأطفال المهمشين هناك، أطلقت الفقيدة والمدوّنة والناشطة والجامعية لينا بن مهني، مشروعاً مماثلاً تتوجه من خلاله إلى المقصيين في السجون. قررتْ مع والدها السجين السابق الصادق بن مهني، إطلاق مكتبات ثقافية في السجون التونسية. انتبهت لينا إلى غياب المكتبات في السجون، أو تحولها إلى مراكز استقطاب للإرهابيين بما حوته من كتب تدعو إلى التطرف الديني، فأخذت تجمع الكتب من المتبرعين من المكتبات والجمعيات والكتّاب لكي تزرع تلك المكتبات في الزنازين المظلمة وتجدد مكتبات السجون وتثريها بكتب معرفية جديدة.
وأتذكّر، الآن، مبادرةً كنت أحد أطرافها، عندما نظّمتُ مع هيئة السجون والإصلاح سنة 2018، يوماً ثقافياً في مدينة الثقافة، استضافته مؤسسة "بيت الرواية" التي كنت أديرها، وهو عبارة عن تظاهرة إبداعية استضفنا فيها سجناء مبدعين من كتّاب الشعر والقصة وهم بعد يقضون عقوبتهم في السجن وبعضهم محكوم عليهم مدى الحياة، وتمكّننا في ظروف من ممارسة الحرية دعماً للمسار الديمقراطي في خروج أولئك السجناء لأول مرة لممارسة الحق في النشاط الثقافي والالتقاء بأهاليهم في فضاءات ثقافية بعيداً عن السجون.
منع السجين السياسي غازي الشواشي، من ممارسة حقه في القراءة واقتناء الكتب التي تباع في المكتبات التونسية، هو بلا شك اعتداء على حقوقه وخرق لكل الاتفاقات الدولية في التعامل مع السجين
وكانت تلك المناسبة مؤثرةً جداً في نفوس السجناء، وهم يتذوقون طعم الحرية ولو ليوم واحد ويقرؤون نصوصهم على الجماهير التي كانت تصفق لهم على النصوص وعلى جرأتهم وإصرارهم على التغيير.
تذكرت كل ذلك، وأنا أقرأ مساء يوم الثلاثاء 6 حزيران/يونيو 2023، تدوينة نجل المعتقل السياسي المحامي غازي الشواشي، المسجون في قضية التآمر على أمن الدولة، وقد زُجّ تحت ذلك العنوان الكثير من الأكاديميين والكتّاب والسياسيين ورجال الأعمال والمعارضين لنظام قيس سعيّد. يقول الياس الشواشي في تدوينته: "هذه كتب تم منع إدخالها إلى والدي المعتقل السياسي غازي الشواشي. يعني التنكيل بجميع أنواعه اليوم بعد اعتقاله لمدة مئة ويومَين:
ـ كاميرا مراقبة 24/24 داخل زنزانته.
ـ منعه من إخراج ملابسه الشتوية وقد ظلت متراكمةً في غرفة ضيّقة فيها 5 أشخاص.
ـ منعه من الزيارة المباشرة في مناسبتين برغم إذن القاضي.
ـ ومنعه من المطالعة وإدخال الكتب التالية".
ويضع أغلفة كتب، هي: "جدل ما بعد الثورة" للصافي سعيد، و"فرنكنشتاين تونس" لكمال الرياحي، و"الاستبداد في تونس المستقلة 1956-2011" للأزهر الماجري.
رئيس يتبجح بالقراءة ويمنعها
ظلّت أعتى الأنظمة الديكتاتورية في العالم عبر التاريخ، بما فيها سجون أنظمة أمريكا اللاتينية والسجون العربية، تسمح للمعتقلين بالقراءة، ويكفي أن نذكر كيف كان الأديب المصري صنع الله إبراهيم في سجن الواحات يقرأ الكتب ويترجمها وخرج من هناك بكتابه الشهير "يوميات الواحات"، الذي دوّنه في سجنه وسجّل فيه قراءاته المختلفة. بل إن السجون في العالم كانت وراء ظهور كتّاب يمارسون الكتابة لأول مرة، وبعضهم كانوا من المجرمين فأصلحتهم قراءة الكتب زيادةً على ما يُعرف بأدب السجون.
ما أقدمت عليه إدارة السجن في تونس اليوم، في عصر قيس سعيّد، تزداد فظاعته عندما نتذكر أن هذا الرئيس "يعذّب" ضيوفه وحاشيته والشعب بأكمله كل يوم، بـ"طلعاته" المصوّرة وهو يقرأ عليهم مقتطفات من الكتب القديمة متظاهراً بأنه الرئيس الذي يُجلّ القراءة. ولكننا ما أن نتذكر زيارته لمعرض تونس الدولي للكتاب، وغلق جناح دار الكتاب، وسحب كتاب "فرنكنشتاين تونس" ومنعه طوال أيام المعرض، أو عندما نتذكر أنه لم يستقبل كاتباً واحداً منذ أن دخل قصر قرطاج، أو عندما نتثبت من أن كل الكتب التي يختار منها جمله وعباراته لخطاباته وحديثه لم تعبر ثلاثينيات القرن الماضي، تخفت دهشتنا ونفهم أنه رئيس معادٍ للكلمة الحرة المعاصرة والحية، ومعاداته أساساً لحرية الرأي. فالكتب التي يعمد نظامه إلى ملاحقتها والخوف منها حتى في السجون، هي كتب الرأي التي تأتي من مثقفين يحللون الظاهرة السياسية، وهي كتب لأحياء عن قضايا حية.
خرق الاتفاقات الدولية
أصدرت الأمم المتحدة بنيويورك وجنيف، عام 2004، كتيّباً بعنوان "حقوق الإنسان والسجون"، من أجل تدريب موظفي السجون وتثقيفهم في هذه الأمور المتعلقة بالحريات، فتؤكد فيها على الحقوق المختلفة للسجين وتشمل: "الحق في السلامة الجسدية والمعنوية" والتي تحظر التعذيب الجسدي والنفسي للسجين، و"الحق في مستوى معيشي كافٍ" وتخص المسكن والملبس والتغذية، و"الحق في الصحة" أي العناية الطبية، و"الحق في الأمن" أي أن تكون السجون آمنةً، و"الحق في الاستفادة" عبر العمل والتعليم والأنشطة الثقافية وممارسة الطقوس الدينية، و"الحق في الاتصال الخارجي" ويشمل الحق في التراسل والزيارات والاتصالات الهاتفية والإفراج المشروط والكتب والصحف.
ويشير الكتيّب إلى أن "الكتُب والصحف ووسائط الإذاعة وشبكة الويب العالمية وسائل مهمة يمكن للسجناء من خلالها البقاء على اتصال بالعالم الخارجي، وينبغي تمكين السجناء من شراء كتبهم وصحفهم! ينبغي أيضاً النظر في السماح للسجناء بشراء أو استئجار مذياع أو جهاز تلفزيون خاص إذا كانت ظروف المعيشة ملائمةً لذلك! ينبغي أيضاً تسهيل الاستفادة الجماعية من الإذاعة والتلفزيون على نفقة الجهات العامة. وينبغي أيضاً توفير الصحف في مكتبات السجن! وينبغي أن تُتاح للسجناء إمكانية الدخول إلى شبكة الويب العالمية بغرض جمع المعلومات والاطلاع على أحدث الأنباء".
السجون في العالم كانت وراء ظهور كتّاب يمارسون الكتابة لأول مرة، وبعضهم كانوا من المجرمين فأصلحتهم قراءة الكتب زيادةً على ما يُعرف بأدب السجون.
منع السجين السياسي غازي الشواشي، من ممارسة حقه في القراءة واقتناء الكتب التي تباع في المكتبات التونسية، هو بلا شك اعتداء على حقوقه وخرق لكل الاتفاقات الدولية في التعامل مع السجين ويحوّل السجون التونسية إلى أداة عقاب نفسي وجسدي ومعنوي.
ويبدو أن قيس سعيّد، لم يغفر لغازي الشواشي جملته: "أدعو قيس سعيّد لإطلاق حوار وطني وتركيز حكومة إنقاذ وطني وسنضمن له خروجاً آمناً". وكان سعيّد يتحيّن الفرصة للانقضاض على الرجل الذي نزع عنه كل شرعية، ووضعه في مأزق أخلاقي في ظل انهيار البلاد واستعداد المعارضة ودعا الشعب للعفو عنه وعدم محاكمته في مقابل أن يترك التونسيين يستعيدون وطنهم.
ومنذ وقع توقيف غازي الشواشي، وسلطة قيس سعيّد لم تتوقف عن التنكيل به، بدايةً بتثبيت كاميرا مراقبة في غرفته 24/24 ساعةً، وهذا ما يعني انتهاك خصوصياته، ولنا أن نتخيل الوضع الذي يعيش فيه السجناء تحت الكاميرا في بلد أصبح يعيش أجواء رواية "1984" لجورج أورويل، وانتهاءً بمنع المعتقل من الذهاب إلى مكتبة السجن، ومسك الكتب التي يقتنيها له أفراد عائلته من المكتبات التونسية.
لماذا يمنع قيس سعيّد المساجين من تلك الكتب تحديداً؟
منع الكتب التي تشخّص الوضع السياسي، أو تنتقد الرئيس قيس سعيّد كما هو الشأن مع كتاب "فرنكنشتاين تونس"، يدخل بلا شك في إنهاك السجناء نفسياً وتحطيم نفسياتهم بإبعاد كل ما من شأنه أن يرفع معنوياتهم ويخبرهم بأن هناك مقاومةً خارج السجن بأشكال مختلفة، وأن حملة الاعتقالات لم تثنِ التونسيين عن الكلام ومعارضة سلطة الانقلاب والتمسك بالحرية والديمقراطية. غير أن ما يريده النظام بطرائقه البدائية من منع الكتب في الفضاءات العامة أو إدخالها السجون، لا يمكن أن يحجب تلك الأخبار عن المعتقلين، فالأخبار تتسرب حتى مشافهةً عبر الزيارات القليلة التي ما زالوا يفوزون بها بين حين وآخر من أسرهم أو عبر الجلادين أنفسهم.
في كتابه السيري "عربة المجانين"، يتحدث الكاتب كارلوس ليسكانو، عن ظروف اعتقاله في السجن السياسي العسكري في الأوروغواي لمدة ثلاث عشرة سنةً. وفي قلب ذلك الظلام الذي شيّده النظام العسكري القمعي واستعادة الكاتب لفنون التعذيب التي تعرّض لها، يذكر كارلوس ليسكانو أنه كان يُسمح له بتدريس زميله السبّاك وقاطع الطريق "شولو غزنزالس" الإسبانية، ويُسمح له بقراءة الكتب وكان يُسمح له بأن يقابل أمه ووالده دون حواجز. يقول: "بعد خمس دقائق، ودّعت أبي محتضناً إياه بين ذراعيّ".
منع الكتب التي تشخّص الوضع السياسي، أو تنتقد الرئيس قيس سعيّد، يدخل بلا شك في إنهاك السجناء نفسياً وتحطيم نفسياتهم بإبعاد كل ما من شأنه أن يرفع معنوياتهم
وفي غمرة استعادة ليسكانو كل ذلك التعذيب المذلّ الذي تعرّض له، يسجّل اعترافاً عظيماً لجلاده الذي حفظ له لحظةً إنسانيةً كبيرةً عندما ساعده مرةً على التبوّل وهو مكبّل اليدين. يروي الكاتب الحادثة بكثير من التأثر: "ذهب ضباط الجيش لتناول الغداء؟ احتجت إلى أن أتبوّل. طلبت من الجنود، وأنا مكبّل اليدين خلف ظهري، فبحثوا عن مفاتيح القيود. كان الضبّاط قد أخذوها معهم. لا ينبغي حتى أن أحلم بأن يقرر النقيب المناوب الذهاب في طلب المفاتيح منهم. كدت أتبوّل على نفسي، وبذلت جهداً كبيراً لأتمالك نفسي أكثر. اقترب جندي مني وأخبرني بأنه مستعد لمساعدتي إن أردت. فوافقت... قادني الجندي إلى المراحيض واتخذ قراره. أسند سلاحه إلى الحائط، وانحنى أمامي، وفتح فتحة سروالي، وأخرج عضوي. تبوّلت بلذّة، وبخجل، مني ومن الجندي. حينما انتهيت من ذلك، كنت في حالة أسوأ من ذي قبل، ففتحة السروال مفتوحة تفضح عورتي. نظرت إلى الجندي. ضحك بنزق طفل، ضحكت بدوري، بنزق طفل. انحنى وأعاد عضوي إلى داخل سروالي، وأغلق فتحته. تبادلنا النظرات؟ تأثرت لما قام به أيما تأثير. أردت أن أعبّر له عن ذلك، فخانتني الكلمات. شكراً، عفواً. وددت أن أقول له شيئاً آخر. لم أعرف ما هو. أعادني إلى مكاني".
هكذا ينتزع ليسكانو لحظةً مضيئةً وإنسانيةً من قلب وحشية المعتقل السياسي ليعترف بإنسانية السجّان أحياناً، فماذا سيذكر المعتقل غازي الشواشي لسجّانه في نظام قيس سعيّد الذي منعه حتى من رؤية حفيدته الرضيعة واحتضانها، ومنع ابنه وأمه من حق زيارته من دون حواجز برغم أن القاضي أصدر قراراً بهذا الحق مرتين، ونشر نجله الوثائق على منصات التواصل الاجتماعي جنباً إلى جنب مع منع الكتب من دخول السجن؟
فإذا كان هذا حال المحامي غازي الشواشي، فما هو الحال مع الكاتبة شيماء عيسى، المعتقلة بالتهمة نفسها: التآمر على أمن الدولة في سجن النساء في منوبة سيئ الذكر؟ ما الذي يحدث معها؟ كيف حالها مع الكتابة ومع القراءة وإدخال الكتب في ظل تلك الحاجة الحياتية للكتّاب والمبدعين إلى الكتاب؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.