لطالما كانت السنّة النبوية مثار جدلٍ طويل لأسباب كَثُر شرحها والاستفاضة في شأنها. لكن يبرز من بين تلك الأسباب عدم وجود سياق واضح للحديث المروي عن النبي، مما فتح باباً "للتأويل" من جهة، و"الوضع" من جهة أخرى!
هذا التأويل وذاك الوضع، سلاحان تم استخدامهما لأغراض سياسية، فرأينا مرويات لأحاديث نبوية تُبشّر بحاكم يسود الدنيا حتى قبل أن يولد أجداده، وقرأنا مرويات تتنبأ بدولة دون غيرها. فإلى أي مدى ثبت صدق هذه المرويات؟
الخلافة في قريش إلى أبدِ الدهر!
تلك المسألة ذُكِرَت فيها عشرات الأحاديث التي كانت سبباً في إجماع الفقهاء على أن تكون الخلافة في قريش، ولعل أبرز هذه الأحاديث تلك التي جمعها السيوطي في كتابه "تاريخ الخلفاء"، مثل الذي رواه أحمد وأبو يعلى في مسنديهما: "حدّثنا سكين بن عبد العزيز عن سيار بن سلامة عن أبي برزة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: الأئمة من قريش ما حكموا فعدلوا، ووعدوا فوفوا، واسترحموا فرحموا".
رأينا مرويات لأحاديث نبوية تُبشّر بحاكم يسود الدنيا حتى قبل أن يولد أجداده، وقرأنا مرويات تتنبأ بدولة دون غيرها. فإلى أي مدى ثبت صدق هذه المرويات؟
وكذلك الحديث الذي رواه البخاري، بقوله: "قال النبي، صلى الله عليه وسلّم، لا يَزالُ هذا الأمرُ في قُرَيشٍ ما بَقيَ منهمُ اثْنانِ"، بالإضافة إلى ما رواه الإمام أحمد في مسنده: "حدّثنا الحاكم بن نافع حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح عن كثير بن مرة عن عتبة بن عبدان، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: الخلافة في قريش، والحكم في الأنصار، والدعوة في الحبشة".
عدم وجود سياق محدد لهذه الأحاديث وضعها في مرمى الشك والمبارزة السياسية، ربما لهذا السبب كان طبيعياً أن يخرج من يُضعِّفها، لأنها ضمّت في سندها "بعض المجاهيل"، بجانب مخالفتها لأحاديث أخرى تدعو للعكس.
أحد أبرز تلك الأحاديث الداعية للعكس، قوله صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا وإن وُلِّيَ عليكم عبد حبشي كأنّ رأسَه زَبيبة"، وكذلك قول عمر بن الخطاب عند موته: "لو كان سالم مولى أبي حُذيفة حيّاً ما جعلتُها شورى، أو لَولَّيته". ومن المعروف تاريخياً بالإجماع أن سالماً مولى لامرأة من الأنصار، وهي أعتقته وربّته، ونُسب إلى أبي حذيفة بحلف، فهو من موالي الأنصار، وليس قرشياً.
وإلى هذا ذهب أبو بكر الباقلاني في كتابه "التمهيد"، حين ذكر: "إن ظاهر الخبر لا يقضي بكونه قرشياً، ولا العقل يوجبه". وعلى إثرهم ذهب الكثير من علماء العصر الحديث، مثل الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه "تاريخ المذاهب الإسلامية"، بقوله: "الأحاديث الواردة مجرد أخبار لا تفيد حكماً"، وكذلك العقاد في كتابه "الديمقراطية في الإسلام"، حين قال: "ويرى الكثيرون التحلل من هذا الشرط لأسباب كثيرة منها، أنه شرط من شروط متعددة، فإذا اجتمع أكثرها ولم تكن منها النسبة القرشية كان فيها الكفاية".
الأمويون والعباسيون... أحاديث وأحاديث مُضادة!
الصراع بين الأمويين والعباسيين لم تكفِه المكائد والدماء، فكان بحاجة إلى وازع ديني يُعلي شأن طرفٍ على الآخر، ومن ثم كان طبيعياً أن تسمع مثل هذا الحديث: "أنبأنا عَبد الوَهابِ بن المُبارَكِ، قال: حَدَّثنا مُحَمد بن المُظَفَّرِ، قال: أَخبرنا أَحمد بن مُحَمد العُتَيقِيُّ، قال: أَخبرنا يُوسُفُ بن الدَّخِيلِ، قال: حَدَّثنا العُقَيلِيُّ، قال: حَدَّثنا إِبراهيم بن الحَسَنِ القَوسِيُّ، قال: حَدَّثنا مُحَمد بن حُمَيدٍ، قال: حَدَّثنا عَبد الله بن عَبدِ القُدُّوسِ، عَن الأَعمش، عَن عَمرِو بنِ مُرَّةَ، عَن سالِمِ بنِ أَبِي الجَعدِ، قال: خَطَبَ عُثمانُ بن عَفانَ في الناسَ، فَقال: إِنَّكُم قَد عَرَفتُم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُعطِي بَنِي هاشِمَ ويُؤثِرُهُم، وإِنِّي والله لَو مَلَكتُ مَفاتِيحَ الجَنَّةِ لَجَعَلتُها فِي بَنِي أُمَيَّةَ، وقَد مَلَكتُ مَفاتِيحَ الدُّنيا، وسَأُعطِيهُم عَلَى رغمِ أَنفِ مَن رَغِمَ".
من جانبهم، ضعّف علماء الحديث هذه الرواية لعلمهم بأنها وُضعت خصيصاً لبروزة الأمويين سياسياً، وطعنوا في السند، فقال ابن الجوزي في كتابه "العلل المتناهية في الأحاديث الواهية": "العُقَيلِيُّ رافِضِيٌّ خَبِيثٌ لَيسَ بِشيءٍ (...) ومُحمدَ بنَ حُمَيدٍ كَذَّبَهُ أَبُو زُرعَةَ، وابن وارَةَ، وقال عنه ابن حِبَّان: يَتَفَرَّدُ عَن الثِّقاتِ بِالمَقلُوباتِ".
العباسيون أيضاً كانت لهم أحاديثهم النبوية المعضدة لحكمهم، فرأينا الحديث القائل: "أَخبرنا المُحمدانُ، ابن عَبدِ المَلِك، وابن عُمر، وعَبد الرَّحمَن بن مُحَمد، قالُوا: حَدَّثنا عَبد الصَّمد بن المَأمُونِ، قال: حَدَّثنا الدارقُطني، قال: حَدَّثنا أَبُو القاسِمِ نَصرُ بن مُحَمد الباقَرحِيُّ، قال: حَدَّثنا عَلِيُّ بن أَحمد السَّواقُ، قال: حَدَّثنا عُمر بن راشِدٍ الجارِيُّ، قال: حَدَّثنا عَبد الله بن مُحَمد بنِ صالِحٍ، مَولَى التَّوأَمَةِ، عَن أَبِيه، عَن عَمرِو بنِ دِينارٍ، عَن جابِرِ بنِ عَبدِ الله، قال: سَمِعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَيَكُونَنَّ فِي ولَدِهِ، يَعنِي العَباسَ، مُلُوكَ يَلونَ أَمرَ أُمَّتِي يُعِزُّ اللَّهُ تَعالَى بهمُ الدِّينَ".
وبالبحث في صحته، ورد عن الدارقُطني في "السنن" أنه قال: "تَفرَّدَ به عَبد الله بن مُحَمد، ولَم يَروِ عَنهُ إِلاَّ عُمر"، وقال ابن حبان عنه أيضاً: "عَبد الله بن مُحَمد لا يَحِلُّ ذِكرُهُ إِلاَّ عَلَى سَبِيلِ القَدحِ".
السفاح والمنصور والمهدي والفاتح... أحاديث تنبئ بعظمتهم!
لم تخلُ الأحاديث الموضوعة من التبشير "سياسياً" بخلفاء وأمراء بعينهم، مثل السفاح والمنصور والمهدي. أشهر ما جاء في شأن هذا الثلاثي من أحاديث موضوعة، ذلك الحديث القائل: "أَخبرنا عَبد الرَّحمَن بن مُحَمد، قال: أَخبرنا أَبُو بَكرٍ أَحمد بن عَلِي بنِ ثابتٍ، قال: حَدَّثنا القاضِي أَبُو عُمر القاسِمُ بنِ جَعفَرِ بنِ عَبدِ الواحِدِ الهاشِمِيُّ، قال: حَدَّثنا أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بن أَحمد بنِ مُحَمد بنِ داوُدَ الرَّزازُ، قال: حَدَّثنا أَحمد بن سُلَيمانِ النَّجادُ، قال: حَدَّثنا أَبُو قِلابَةَ الرَّقاشِيُّ، قال: حَدَّثنا أَبُو رَبِيعَةَ، قال: حَدَّثنا أَبُو عَوانَةَ، عَن الأَعمش، عَن الضَّحاكِ، عَن ابنِ عَباسٍ، قال: قال رَسول الله صلى الله عليه وسلم: مِنا السَّفاحُ، ومِنا المَنصُورُ، ومِنا المَهدِيُّ".
لم تخلُ الأحاديث الموضوعة من التبشير "سياسياً" بخلفاء وأمراء بعينهم، مثل السفاح والمنصور والمهدي
ورواية أخرى جاء فيها: "حَدَّثنا أَحمد بن عَلِي، قال: أَخبرنا الحُسَينُ بن أبي بكر، قال: حدثنا أبو سهل أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد، قال: حدثنا محمد بن الفرج الأَزرَقِ، قال: حَدَّثنا يَحيَى بن غَيلانَ، قال: حَدَّثنا أَبُو عوانَةَ، عَن الأَعمش، عَن الضَّحاكِ، عَن ابنِ عَباسٍ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: مِنّا السَّفاحُ، والمَنصُورُ، والمَهدِيُّ".
وفي كلا الروايتين، قال ابن الجوزي في "العلل المتناهية في الأحاديث الواهية": "هَذا حديث لا يَصِحُّ عَن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم".
وتم تضعيف الحديث بأكثر من جهة، أبرزها وجود أَبُو قِلابَةَ عَبد المَلِك بن مُحَمد في السند، فقال عنه الدارقُطني: "هو كَثِيرُ الخَطَأِ ويُحَدِّثُ مِن حِفظِهِ فَكَثُرَ خَطَأُهُ".
ومن جهة أخرى ضعّفه الدارقطني عن طريق مُحَمد بن الفَرَجِ، بقوله: "هو ضَعيفٌ ويُطعَنُ عَلَيهِ فِي اعتِقادِه"، وكذلك الضَّحاكُ، الذي ضَعَّفَهُ يَحيَى بن سَعِيدٍ، إذ كان لا يُحَدِّثُ عَنهُ.
أما مُحمَّد خان الثاني بن مُراد بن مُحمَّد العُثماني، المعروف اختصاراً باسم مُحمَّد الثاني، ويُلقّب بمُحمَّد الفاتح، فبشأنه بشارة نبوية يتداولها العامة حتى هذه اللحظة كما جاءت نصاً في مسند أحمد عن طريق الوليد بن المغيرة، الذي قال: "حدثني عبد الله بن بشر الغنوي، حدثني أبي، أنه سمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: لتفتحن القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش".
"قال: حَدَّثنا أَبُو عوانَةَ، عَن الأَعمش، عَن الضَّحاكِ، عَن ابنِ عَباسٍ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: مِنّا السَّفاحُ، والمَنصُورُ، والمَهدِيُّ"
وفي البحث وراء سند هذا الحديث، نجد أنه مرويٌّ عن بشر الغنوي، وهو رجل لم يُذكر اسمه في عالم الحديث سوى في تلك الرواية تقريباً، وكل ما ذُكر في سيرته أنه "رجل مصري انتقل إلى الشام"، والأغرب أنه لم يَروِ عنه سوى الوليد بن المغيرة المصري، الذي لم يوثقه سوى ابن حبان "لقاعدته في توثيق المجاهيل"، وفقاً لما أوردته مكتبة "ملتقى أهل الحديث".
إذاً، فالراوي بشر الغنوي بهذه الطريقة ليس صحابياً، وفقاً لتعريف الصحابي عند ابن الصلاح، في كتابه "علوم الحديث" الذي يقول فيه إن الصحابي "يُعرف بالتواتر، وتارةً بالاستفاضة القاصرة عن التواتر، وتارةً بأن يُروى عن آحاد الصحابة أنه صحابي، وتارة بقوله وإخباره عن نفسه -بعد ثبوت عدالته- بأنه صحابي".
يبقى الآن التعرض لمتن الحديث من حيث المنطق، وهو أمر فعله بكل عقلانية الشيخ حمود التويجري في كتابه "إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة"، بقوله: "فتح القسطنطينية على يد السلطان العثماني محمد الفاتح سنة سبع وخمسين وثمانمئة ليس هو الفتح المذكور في الحديث، وذلك لأمورٍ منها، أن ذاك الفتح إنما يكون بعد الملحمة الكبرى، وقبل خروج الدجال بزمن يسير، ويكون فتحها بالتهليل والتكبير لا بكثرة العدد والعدة، كما جاء مصرحاً به في أحاديث، ويكون فتحها على أيدي العرب، لا على أيدي التركمان".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...