كان يتغنّى بشوارع بغداد العتيقة، ويعمل حمّالاً لدى أحد التجار المحليين، فأحب محسن جمال، وهو من أهالي منطقة الشيخ عمر، امرأةً تسكن بالقرب منه. كان يراقبها من بعيد، ويكتب إليها قصائد وأشعاراً شعبيةً ويلاحقها أينما ذهبت. أراد الزواج منها، لكنها رفضت بسبب صغر سنّها وعدم معرفتها بالحب. تقدم لها عام 1962، لكن والدها قام بطرده.
نتيجةً لذلك، أصبح محسن، مجنوناً بامرأة بغدادية، فافتعل المشكلات واحتسى الخمر وهو يتغنّى بها في منطقته، إلى أن تدهورت حالته الصحية وفارق الحياة بعدها.
تقول خالدة جعفر (59 عاماً)، وهي ابنة المرأة التي لم يتمكن محسن من الزواج بها، لرصيف22: "جدي رفض زواج أمي من محسن الذي جُنّ بها، وقام بتزويجها من ابن عمها، الذي أنجب منها فتاتين وصبيين، ثم طلّقها وذهب".
تؤمن خالدة بأن حياتهم تدهورت بسبب لعنة محسن، وتقول: "توفي جدي وتوفيت أمي أيضاً، تطلّقت شقيقتي من زوجها، وفقد أخي ساقه في الحرب العراقية الإيرانية، أما أخي الثاني فلم أعرف عنه شيئاً"، مشيرةً إلى أن "المصائب والمشكلات التي حلت بهم، كانت سببها لعنة محسن التي لم تفارقهم يوماً".
جنّ وأرواح
قبل خمس سنوات، هاجر سكان قرية العكار في قضاء الحي في محافظة واسط، بسبب كثرة الحرائق ونشوبها في بيوتات عدة من دون معرفة الأسباب كما يروون، وخرج ساكنو تلك القرية ليقولوا إن "الحرائق نشبت بسبب الجن، وجلبنا علماء روحانيين لكنهم عجزوا عن القضاء عليه".
هاجر السكان إلى قرية أخرى، وجلسوا في مخيمات، ولكن لم تفارقهم النار، فقد حرقت ملابسهم وأموالهم، ومعسكراتهم الاستيطانية الجديدة. فخرج باحثون في علم البيئة آنذاك، معللين سبب الحرائق إلى تغيرات مناخية طبيعية، ومؤكدين أن لا علاقة للجن بما يحصل. لكن الأهالي لم يُصدقوا العلم. وبرأيهم الجن وحده وراء ما يحصل معهم.
توفي جدي وتوفيت أمي أيضاً، تطلّقت شقيقتي من زوجها، وفقد أخي ساقه في الحرب العراقية الإيرانية، أما أخي الثاني فلم أعرف عنه شيئاً، كل هذا بسبب "لعنة محسن"، فمن هو محسن؟
ابتاع جاسم عبد (50 عاماً)، منزلاً في منطقة التراث في بغداد، كان فرحاً به، حتى مجيء زوجته التي لم يعجبها المنزل، إذ اعتقدت أن المنزل يحتوي على أرواح وأشباح وهؤلاء سيخلقون مشكلات لهم. لم يعِر عبد أهميةً لكلام الزوجة واشترى المنزل وسكنوا فيه. بعد شهرين عرضه للبيع، بسبب المصائب التي حلت بينه وبين زوجته جراء إصرارها على بيعه. لكن خوف زوجته أثّر على بيعه، وأصبح يُطلق عليه المنزل المسكون الذي لا يرغب أي تاجر في شرائه بسبب سمعته السيئة.
يقول الشاب أحمد، البالغ من العمر 23 عاماً، وهو ابن جاسم، لرصيف22، إن "المنزل أصبح مسكوناً، لكون والدتي ترى بين حين وآخر، أحلاماً وكوابيس تشير إلى أن الجن يجلس معنا. لم نستطع إخراج الأشباح من المنزل، حتى شاعت سمعته داخل المنطقة، ولم نتمكن من بيعه".
قوة العقيدة
يقول الدكتور علي الوردي، في كتابه "خوارق اللا شعور"، إن "اللا شعور لا يعرف التمييز بين الحق والباطل، أو بين الصواب والخطأ، فالعقل الباطن، عقل اليقين والعقيدة، بينما العقل الظاهر هو عقل الشك والبحث والتفلسف، فخوارق اللا شعور إذاً لا تدلّ على صحة العقيدة بقدر ما تدل على قوتها في النفس".
ويتطرق الوردي إلى ممارسات الدراويش الصوفية، ويقول: "حين يضربون أنفسهم بالسلاح ويغمدون الخناجر والسيوف في بطونهم ويأكلون النار، يعتقدون اعتقاداً تاماً بأن تلك الفعاليات لن تؤثر بهم بسبب قوة عقيدتهم وإيمانهم المطلق"، موضحاً أن "تلك الخوارق تدخل في موضوع تأثير الفكر في البدن وهي في الواقع ناتجة عن سيطرة عقيدة معيّنة على بدن الإنسان".
خداع الآلهة
يقول حصوة جابر، وهو شاب عراقي يبلغ من العمر 35 عاماً، لرصيف22، إنه "يعاني من حالة نفسية شديدة رافقته منذ نعومة أظفاره، بسبب اسمه الغريب. فمنذ صغري لم أحب اسمي. تنمّر عليّ كثيرون، في المدرسة والعمل، وحتى في الجامعة. لعنة اسمي رافقتني طوال عمري، وفي بعض الأحيان عددت نفسي حجارةً صغيرةً يدعسها الجميع، بسبب والدي الذي أطلق عليّ هذه التسمية".
المنزل أصبح مسكوناً، لكون والدتي تؤمن أن الجن يجلس معنا. لم نستطع إخراج الأشباح من المنزل، حتى شاعت سمعته داخل المنطقة، ولم نتمكن من بيعه
وتسمية الأسماء الغريبة، موروثة منذ أجيال، أول من بدأ بها هم الآشوريون عام 1883 ق.م.، إذ كانوا يسمون أبناءهم أسماء قبيحةً لخداع الآلهة وعدم طلبها لهم، فيما يُطلقون على عبيدهم الأسماء الجميلة لتكون ضحية الأرباب، ووصلت هذه العادة إلى العرب وفسّروها تفسيراً آخر، يقول إن الشخص الذي يحمل اسماً قبيحاً يعيش كثيراً ولا يُصاب بعين أو حسد، في حين يظنون بأن الاسم الجميل يجلب لأصحابه سوء الحظ وقلة المال.
ولا يقتصر الإيمان بالمعتقدات والأوهام والخرافات، على شعوب محددة، بل هناك مجتمعات كثيرة متقدمة تؤمن بها أيضاً.
رائحة الخمر
أبو نواس، وهو أشهر شعراء عصر الدولة العباسية، وُلد في إيران، ونشأ في جنوب العراق في محافظة البصرة، وانتقل إلى بغداد، عاصمة الخلافة، ومحط آمال الشعراء، وبعد سنوات عدة اتخذ ضفاف دجلة، مكاناً لشرب المشروبات الكحولية وكتابة الشعر وملجأً له في كل شيء.
شاعت الخمرة في عصر أبي نواس، وكثر شاربوها، واشتدّ الجدل بين الفقهاء في أمر تحريمها وتحليلها، وقد نشب الصراع بين أهل القديم والجديد. ووصف أبو نواس الخمر بأنه مادة روحانية تتصف باللطافة فيكاد الماء لا يمازجها، وهي نورٌ متلألئ، ولم يكتفِ بهذا فقط، بل وصفها أيضاً بصفات الذّات الإلهيّة، وجعل لها آلاءً وأسماءً حُسنى، وصفات تجلّ عن الشبه والمثل، وسميت أماكن عدة على اسم أبي نواس، منها شارع "أبو نواس" الذي يمتد على الضفة الشرقية لنهر دجلة، ويُعدّ اليوم أحد معالم بغداد، وأصبح الشارع مكاناً يرتاده الشباب لشرب المشروبات الكحولية، متخذين من أبي نواس قدوةً لهم.
يقول أحمد أمين، (19 عاماً)، إن شارع "أبو نواس"، "يتميز بطاقة روحانية كبيرة، وعندما نشرب الويسكي فيه، نذهب إلى عالم جميل"، في حين يخشى جبار ياسين (27 عاماً)، الذي يسكن في منطقة السيدية في بغداد، من الذهاب إليه واصفاً إياه بالـ"مكان الذي يجلب الفقر والسوء"، عادّاً أن تشاؤم أبي نواس في حياته ومسيرته، عالقٌ في الشارع.
طاقة وارتياح
تقول حوراء حسين (22 عاماً)، لرصيف22: "الأحجار الكريمة تجلب لي الطاقة والنشاط والقوة والحيوية، أما الحقائب والأكسسوارات فلها طاقة روحانية أيضاً"، مشيرةً إلى أن "الحقيبة الحمراء تجلب المال والرزق كونها تحتوي على اللون الأحمر الذي يرمز إلى النجاح والفرص".
يتميز شارع أبو نوّاس في بغداد بطاقة روحانية كبيرة، وعندما نشرب الويسكي فيه، نذهب إلى عالم جميل
ويروي سائق الأجرة، عباس فاضل (27 عاماً): "ملابسي المفضلة، تجلب الخير لي، لا أستطيع استبدالها، حاولت أكثر من مرة لكن لم أنجح بسبب قناعتي التامة بأن الرزق والراحة يرتبطان بالأشياء التي نحبها ونشعر بارتياح تجاهها".
وتعتقد الموظفة في وزارة الصحة، فاطمة كمال (37 عاماً)، أن قراءتها لسورة البقرة في القرآن الكريم جلبت لها المشكلات والمصائب، ولكن عندما تقرأ سورة يس، الواقعة، النور، والفتح، ترتاح نفسياً. تقول فاطمة لرصيف22: "عندما أقرأ سورة البقرة، وأذهب إلى عملي، لا أعرف ما السبب، ولكنها تسبب لي مصائب ومشكلات، وحينها لا أشعر بالارتياح طوال يومي".
ويتمسك الإنسان بمعتقداته وأفكاره، كونها متوارثةً من جيل إلى جيل، إذ يؤمن بالأساطير والخرافات التي امتدت لعصور طويلة، وينتّج من خلالها معتقدات خطأ يتعلّق بعضها بالتشاؤم أو التفاؤل بأشياء معيّنة، مثل لجوء النساء إلى قراءة فنجان القهوة وهن يبحثن في داخله عن حل لمشكلة مالية أو عاطفية، بحسب ما تقول الأخصائية النفسية شهرزاد العبدلي، لرصيف22.
وتضيف: "الإنسان الجاهل أو المتوسط التعليم لا يجد نفسه في البحث والتحليل ولا يتأكد من المعلومات التي يحصل عليها من الآباء والأجداد، وتالياً أصبحت المعتقدات الخطأ سائدةً في المجتمع".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...