فضاء شاسع من الحرية، شكلته بطرقٍ ثورية وإبداعية هذه الحركة الهائمة في تاريخنا العربي المسماة بـ"الصعاليك"، ولا ينطوي وصف حركة الصعاليك بـ"الهائمة"، على معنى سلبي، بقدر ما يُشير إلى طبيعتها الشاعرية الحالمة، والطامحة إلى إرساء قيم طوباوية، أو على الأقل، خلخلة وهزّ الجدران الصلبة للأنظمة السلطوية، التي تبتلع الضوء في أحشائها وتحوله إلى ظلام دامس في أعين الشعوب المنسحقة.
أول حركة تمردية في التاريخ العربي
من ناحية أخرى ستكون مبالغة إذا وصفنا هذه الحركة رغم فرادتها، وعنفوانها بـ"الراسخة"، لأن الرسوخ ليس من صفات الحركات الثورية والإبداعية التي يؤججها الاضطراب.
وقد كانت حركة الصعاليك أول حركة تمردية شهدها تاريخنا العربي، حيث خرج الصعاليك -هؤلاء الرجال الذين اتصفوا بالقوة والشجاعة والشهامة-، من عمق القبائل العربية في العصر الجاهلي، محطمين في طريقهم،الجدرانَ الصلبة للنظامين الاجتماعي والاقتصادي السائدين، اللذين اتسما بالعنصرية، والعنف، عبر قيامهما بممارسات ظالمة وإقصائية نحو الفقراء، وأبناء الحبشة ذوي البشرة السوداء.
كانت بغداد هي قبلة شعراء العراق، فهي مدينة الشعر والأدب بلا منازع، وقد بدأت الصعلكة الحقيقية للحصيري حين انتقل إليها من مدينته النجف، عام 1958، وهناك كان يضيء حانات بغداد ومقاهيها بقصائده التي يلقيها بصوته المبحوح
هؤلاء الذين أُطلقت عليهم هذه التسمية الازدرائية "غربان العرب"، وإزاء العنف والفقر والجوع الذي استشرى في أنحاء الجزيرة العربية، اتجه الصعاليك إلى تخوم الصحراء، متخذين من التلال والجبال مأوى لهم.
وبدأوا نشاطهم "اللصوصي النبيل" الذي حوى بشكل ما أول بذور الفكر الاشتراكي، حيث قاموا بسلب ونهب الأغنياء، لإعطاء الفقراء في محاولة لتأسيس شكل من أشكال العدالة المرتجاة، وتنوعت أنشطتهم ما بين دعم هؤلاء الجوعى، وإنصاف الضعفاء، والمهمشين، والوقوف بجانب المظلومين، وعلى الجانب الآخر، كان هناك بين الصعاليك ذوات فردية طامحة للحرية، فأعلنت انقلابها وخروجها على القبيلة، بحثاً عن الاستقلالية واكتشاف الذات خارج إطار السلطة القمعية.
وفي ليل الصحراء الدامس، كان الشعر رفيقاً وملاذاً للصعاليك. فقد أنتجت الصعلكة، شعراً خاصاً، مغايراً للشعر العربي الذي كان سائداً آنذاك، على مستوى الشكل والمضمون. ويأتي الشاعر عروة بن الورد، في مقدمة هؤلاء الشعراء الصعاليك، حتى أنهم نصّبوه أميراً عليهم، لما اتسم به من صفات الفروسية والشهامة والنبل، وقد نُسجت حول عروة بن الورد الكثير من الأساطير. هذا الشاعر الذي وضع الصعلكة في إطارٍ ذهبي متوهج تحت شمس الصحراء العربية، قبل أن يُنافسه على إمارة الصعاليك، شاعر عربي آخر، جاء بعده بقرون، هو عبد الأمير الحصيري، الذي اتخذ الصعلكة طريقاً ومسلكاً، بل هوية، في محاولة مريرة لمعانقة المطلق، والوصول إلى نار الشعر المشتعلة أبداً، لكنه حين اقترب، كان قد توقف قلبه عن النبض، بعد أن توجوه أميراً للصعاليك في حانات ومقاهي بغداد.
كان للعراق، هذا البلد صاحب الحضارة العريقة، نصيباً هائلاً ومروعاً من ميراث الصعلكة العربية، وإن لم يتخذ من هذا الميراث، سوى التمظهرات الخارجية لظاهرة الصعلكة مثل التشرد والتسكع، وإدمان الخمر، وبالطبع التمرد، ولكنه اتخذ في الصعلكة الحديثة رؤية فلسفية مغايرة؛ ففي خمسينيات القرن الماضي، كانت مقاهي العاصمة العراقية بغداد، وحاناتها، وشوارعها، وأسطح بيوتها، ملاذاً وسكناً لمجموعة من الشعراء أشهرهم عبد الأمير الحُصيري، حسين مردان، وجان دمو؛ هؤلاء الذين شكلوا ظاهرة الشعراء الصعاليك بالعراق، وكتبوا قصيدتهم الحية، تلك التي امتصت النهار كله، والليل كله، وبينهما صارت أجسادهم الشابة إلى مثواها الأخير، بعد أن صعدت أرواحهم المعذبة إلى السماء. تاركين خلفهم، قصصا وأساطير، تُشكل مادة خصبة للمغرمين بحكايات الصعاليك وما تحويه من إثارة، دون الالتفات إلى الجراح الغائرة التي خلفتها التجربة في أعماقهم، علاوة على مشروعاتهم الشعرية التي توارت بعيداً، خلف إثارة حكايات الصعلكة.
عبد الأمير الحصيري... قتيل الشّعر والخمر
وبينما كانت الصعلكة في العصر الجاهلي، تصبو نحو إنصاف الضعفاء وإطعام الجوعى والفقراء، فإن صعلكة الشعراء العراقيين، كانت منطلقة من مأزق وجودي، وتصبو نحو التحرر الذاتي ومعانقة المطلق، عبر الهروب من الواقع المرير الذي يسوده الفقر والسلطة القمعية التي تُلقي بالحالمين من الشعراء والفنانين إلى الجحيم.
وقد تجسدت الصعلكة، بكل عذابها، وتمردها، ونزقها، في صورة الشاعر عبد الأمير الحصيري، بل في صورته التي رآها الشاعر العراقي الراحل سعدي يوسف، ففي مقالة بعنوان "أسطورة الشاعر" (نُشرت على الموقع الخاص بسعدي يوسف عام 2014). يقول الأخضر بن يوسف: "في تلك السنوات (يقصد حقبة السبعينيات)، كانت حالة عبد الأمير تسوء أكثر فأكثر، وصار الناس الذين انحرفوا به عن سواء السبيل، يضيقون به ذرعا. أحيانا كنت أمر بمبنى إتحاد الأدباء، عائداً إلى منزلي بحي (زيّونة)، فأرى كومةً سوداء عند الباب الحديد للإتحاد، أتوقف لأرى عبد الأمير الحصيري، متهاوياً، وقد أدمى وجهه الضرب. رفاقه في إتحاد الأدباء هم من أشبعوه ضرباً. آخذه معي بالسيارة. أمضي به إلى بيتي. أُبدل ملابسه بعد الحمام. جيوبه ملأى بالقصائد. كنت أحتفظ بقصائده. أهديته عدة حلاقة جيدة. لكنه بعد أقل من شهر باعها بنصف دينار. فعاد وجهه البهي إلى سيماء الصعاليك".
في ليل الصحراء الدامس، كان الشعر رفيقاً وملاذاً للصعاليك. فقد أنتجت الصعلكة، شعراً خاصاً، مغايراً للشعر العربي الذي كان سائداً آنذاك، على مستوى الشكل والمضمون.
وكان سعدي يوسف من أكثر الشعراء الذين راهنوا على عبد الأمير الحُصيري شاعراً وإنساناً، لكن الحُصيري الذي ولد في محافظة النجف عام 1942، لم يكن ينتظر رهاناً أو اعترافاً من سعدي يوسف، فقد كان يرى نفسه ابناً للشعر والقوافي. كان يقول- وفقاً لما ورد في كتاب "شعراء من العراق" للباحث جمال مصطفى مردان-: "إنني لا يحد في شيء عن أن أطلق على نفسي، بأنني شاعر هذا العصر وهذا العالم من القطب إلى القطب وليس من الخليج إلى المحيط وحسب. وأحسب أنني لستُ مغالياً في ذلك ولا مانحاً نفسي غير ما تستحقه ولا أسيراً للغرور أو مصاباً بداء العظمة إنني أقول ذلك وليضحك كل أصحاب العقول المحدودة وليعتبرونني مجنوناً كما يُحبون. لكني الشاعر رغم أنف الجميع". إن هذه الأنا المتضخمة لدى الحُصيري، كانت صفة، اتسم بها العديد من الشعراء الصعاليك، لكن عبد الأمير الحصيري الذي كان يُردد في كبرياء وزهو عبارته الشهيرة "أنا شيخ الصعاليك منذ ابتداء الزمان"، كان الأكثر نزقاً ونرجسية بينهم، وربما الأكثر موهبة وشعرية.
وكانت حياته اجتراحاً لمغامرة شعرية كبرى، تلك الحياة التي عاشها على الأرصفة وفي الحانات وعلى أسطح البنايات، فقد كان منظراً مألوفاً لدى المارة أن يجدوا رجلاً مترهل الجسد والملابس، نائماً في أحد الشوارع، أو على ضفاف دجله، وتحت رأسه حقيبة سوداء صغيرة، دون أن يعلموا أن هذا الرجل، يحمل في حقيبته وفي قلبه، أجمل القصائد العمودية.
كانت بغداد هي قبلة شعراء العراق، فهي مدينة الشعر والأدب بلا منازع، وقد بدأت الصعلكة الحقيقية للحصيري حين انتقل إليها من مدينته النجف، عام 1958، وهناك كان يضئ حانات بغداد ومقاهيها بقصائده التي يلقيها بصوته المبحوح، وعندما يستبد به الجوع، كان يبيعها بمبالغ زهيدة، وكثيراً ما سُرقت القصائد من حقيبته السوداء، وهو مغشياً عليه من الخمر التي أدمنها، أو وهو نائماً في أحد الشوارع، أو حتى من أصدقائه أنفسهم. هؤلاء الذين كانوا يسخرون من منظره وملابسه المهلهلة، فكانوا يبرحونه ضرباً، بسبب عقد نقصهم والأحقاد التي استفحلت في قلوبهم ضده. لأنه كان ذو ذائقة شعرية حادة وعنيفة فهذا الذي قدم نفسه عارياً للشعر والرصيف والحياة، كان من الصعب عليه أن يكون مجاملاً لأحد. ولم تكن صعلكة عبد الأمير ترفاً، أو قناعاً للتمرد فحسب، بل كانت تفريغاً لذلك الألم النفسي والوجودي الذي ينهشه من الداخل، استفحل هذا الألم، ولم يجد الشاعر أمامه سبيلاً سوى الصعلكة؛ أن يترك ذاته وأشعاره وأحلامه تسيل في شوارع بغداد، دون رفيق أو حبيبه تهدأ من روعه، أو تُداوي هذا الجُرح الأبدي، جُرح الشعراء الحقيقيين الذي لا يندمل سوى بالموت.
وبحسب ما جاء في الكتاب السابق ذكره فإن الحصيري قد أصدر في أواخر الخمسينيات ديوانه الأول "أزهار الدماء"، وفي عام 1962 جاء ديوانه الثاني بعنوان "معلقة بغداد"، وقد اتجهت إليه الأنظار من خلال مطولته الشعرية (281 بيتاً)، بالإضافة إلى درايته الكاملة بتاريخ ومجد بغداد الأدبي والتراثي.
أكدت نادية جهاد أن قصيدة "ثورة الشك" التي غنتها كوكب الشرق أم كلثوم، واشتهرت باسم الشاعر عبد الله الفيصل بن عبد العزيز آل سعود، كتبها الحصيري لبنت خالته التي عشقها، لكنه باعها لاحقاً، لتغنيها أم كلثوم باسم من اشتراها
وتواصل عطاء الحصيري الشعري فيما بعد حيث أصدر العديد من الدواوين: سباب النار، أنا الشريد، مذكرات عروة بن الورد، أشرعة الجحيم، تموز يبتكر الشمس". هذا بالإضافة إلى الأعمال المفقودة التي سُرقت منه، أو تلك التي باعها، كي يجد ثمن ما يسد رقمه، فالحُصيري لم ينجح في الاستمرار في أي عمل، بل كان رافضاً للفكرة نفسها، وقد برر ذلك بقوله:"إن الإنسان الذي يستحق أن يُسمى إنساناً- وليس الأديب وحده- لا يستحوذ على مشاعره حب المادة الزائلة، ولا يصح أن يترك نفسه عبداً لفكرة العمل. أي عمل. ولذلك فإنني أبلغ قمة فرحي يوم أستطيع أن أشرك، ليس من قصرت يده فقط، بل حتى من طالت أيضاً فيما هو موجود في حوذتي من المال في الجلوس إلى موائد شتى وبخاصة موائد احتساء الخمر.. فهذا يؤكد لي أني صادق في شعوري الإنساني وهذا أقصى ما أريد أن أظفر به".
الحصيري وثورة الشك لأم كلثوم
وبالعودة إلى قصائد الشاعر المسروقة والمُباعة، فمن المهم أن نذكر هنا ما كتبه الأستاذ زياد الحلي على صفحات جريدة الصباح العراقية بتاريخ 10/ 2/ 2021 ، بعنوان "الحصيري وثورة الشك لأم كلثوم". فرداً على مقالة سابقة، كان قد كتبها زياد حول حياة الحصيري وموته المبكر وهو في الـ 36 من عمره، قامت ابنة خالة الشاعر الحصيري، الأستاذة نادية جهاد، بتوضيح بعض الأمور الملتبسة عن الحصيري وحياته الغامضة، كما فجرت مفاجأة كبيرة، حيث أكدت أن قصيدة ثورة الشك التي غنتها كوكب الشرق أم كلثوم، واشتهرت باسم الشاعر عبد الله الفيصل بن عبد العزيز آل سعود، كتبها الحصيري لبنت خالته التي عشقها، لكنه باعها لاحقاً، لتغنيها أم كلثوم باسم من اشتراها.
وذكرت نادية جهاد في ردها على مقالة زياد الحلي أن الشاعر الحصيري، كان ينتمي إلى أسرة دينية متشددة، وأنهم قد تخلوا عنه بسبب إدمانه للخمر، وأضافت نادية، أن الشاعر كان عاشقاً لابن خالته لكنهم رفضوه وطردوه شر طرده، حين تقدم لخطبتها، وهنا أصبح الشاعر وحيداً ومطردواً من الأهل ومجروحاً من حبه المجهض: "رأيته يبكي وهو جالس القرفصاء قرب الباب، وحين جاء خاطباً وأقسم على ترك الخمر زجره والد الفتاة وطرده شر طردة، وهكذا انتهى نفسياً وعقليا وهانت عليه نفسه، وإني أذكر هذا للتوثيق ولأرفع جزءاً من غموض شاعر يعد من فحول شعراء زمننا".
إنها المعاناة في أشد صورها قتامة، تلك التي عاشها الشاعر الحصيري، الذي لم يجد مأوى له سوى الشارع والمقهى والحانات الرخيصة، ولم تتحقق فرحته سوى بالقصيدة، ولعلها كانت فرحة مجروحة، وناقصة، لهذا الشاعر الذي –بحسب سعدي يوسف- "دخل اتحاد الأدباء فتىً، وخرج منه نعشاً محمولاً إلى مقبرة وادي السلام بالنجف. بعد أن رحل عنا في فندق الكوثر الشعبي بالكرخ في العام 1978. وكنتُ من مودعيه بعد أن كنت استقبلته عندما جاء إلى بغداد. ألقيتُ كلمة على قبره مستشهداً بأشعاره: ومن فؤادي أصيح يا نجف".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع