شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"جائزة الباسبور الذهبية"... كلّ جحيم في الخارج أقلّ حرارة من لبنان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الأحد 11 يونيو 202306:09 م

اليوم ازداد عددكم/نّ ونقصت حياتي. أخبرتني منذ ساعة صديقة لي أنها سترحل إلى دولة الإمارات. البارحة تفضلت صديقتي الأخرى بإلقاء خبر مماثل عليّ، ومنذ أسابيع كان دور صديقتي التي أمضي معها معظم وقتي بإخباري (للمرة الأولى) أنها سترحل إلى فرنسا. في الحقيقة هي المرّة العاشرة، لكنني ولسبب ما (كلنا نعرفه) أختار أن أنسى تفاصيل رحيلها أو خطتها في فرنسا، في كل مرّة تذكر فيها أي خطوة متعلقة بالأمر، وكأنها تكذب عليّ أو كأني أختار ألا أسمع.

"فعلياً أنا قلتلك إني فالّة منذ سنة"، تقول ذلك و أهزّ برأسي، ثم أسألها عن رحلتنا إلى البحر الذي تكرهه في آب، أي الشهر الأخير لها في بيروت، ونضحك لأنها ستقصد البحر فقط لنمضي أوقاتاً إضافية معاً قبل رحيلها.

هذه ليست التضحية الوحيدة التي ستقوم بها صديقتي. في الحقيقة، إن رحيلها بأكمله تضحية. تضحية أود أن أتكلم مع أصدقائي المغادرين عنها قليلاً.

ما لن أستطيع قوله وجهاً لوجه

أصدقائي، أراكم/ن وأنتم/ن تستعدون للرحيل دون أن أعرف كيف أتكيّف مع هذه الأخبار. انها أشبه بخبر جائحة كورونا، لا أود تصديقه لكنه حصل، وكنت أعلم أنه سيبقى، وسيكون ثقيلاً جداً ومرهقاً لذاكرتي. أيضاً، أشعر مع كل كأس نشربه معاً فيما تروون تفاصيل عملية الرحيل هذه، بأنني عالقة. أشعر بأنكم/ن ترحلون، وكأنكم/ن تهربون من تسونامي كبير قبل قدوم العاصفة، فيما أختار أن أبقى على الشاطئ لوقت أطول.

رحيلنا جميعاً غير متعلق برغباتنا وأحلامنا بالضرورة ودائماً، فمعظم الأحيان نرسم خطة حياتنا المستقبلية وأحلامنا بحسب سهولة تيسير تأشيرات العمل في السفارات ومكاتب السفر أو صعوبتها

تحليلٌ أناني صح؟ تماماً. إنّ رحيلكم/نّ يجعل مني حزينة جداً لأن الفراق مؤلم، وآسفة على نفسي، لكن ما يؤسفني أكثر هو موجة التسونامي هذه التي تجعل من رحيلنا جميعاً غير متعلق برغباتنا وأحلامنا بالضرورة ودائماً، فمعظم الأحيان نرسم خطة حياتنا المستقبلية وأحلامنا بحسب سهولة تيسير تأشيرات العمل في السفارات ومكاتب السفر أو صعوبتها.

أريد أن أرحل أيضاً، إلى بلد مشمس وجميل، لكن تأشيرات العمل في إيطاليا وإسبانيا صعبة بعد الدراسة فيها، فربما أختار بلداً لا يشبهني، لأنني ببساطة لبنانية، وبالتالي، إن اختياري لا بد من أن يلتصق مع البحث عن بلد يمنحني فرصة العمل فيه، أو حتى السعي نحو جنسية أخرى، وهو ما لم أفكّر به قبل أن أشهد ضرورة هروبنا الجماعي، أو أهمية التمتّع بقليل من الحقوق المدنية والآمال التي يحرمني بلدي منها.

منكم/ن من تخبرني أن مجالات العمل في فرنسا كثيرة، علماً أنها تحلم بالعيش في بلد آخر، أو أنّ ألمانيا تستقبل الكثير من المغتربين حالياً لأنها بحاجة إلى يد عاملة. ندع لائحة السيئات والإيجابيات تختار عنا، وننسى تفاصيلنا اليومية، ثم نحتفل بفرح شديد كلما اقتربنا من بلدان الخلاص، أوروبا، الإمارات، تركيا... أي بلد ألطف من هنا وأي جحيم هو أقل حرارة من لبنان.

نريد الخروج من هذا المستنقع تحت أي ثمن، فنندفع للالتحاق بجامعات للحصول على شهادات أكاديمية إضافية، وهو أمرٌ مفيد، لكنه يجعلنا نشعر أن كل ما تعلمناه أو عملنا به إلى هذه اللحظة كان غير ذي جدوى وغير مهم، فهو لا يُقدّر في مستنقعنا إلا إذا استقطبناه من الخارج.

اعذروا تحليلي البائس: سترحلون، وتشتاقون لجلساتنا الطويلة، وربما لن تعشقوا كل تفصيل من البلد الذي تختارونه، لكن حريتكم وصفاء ذهنكم دون الانهماك بتفاصيل هذا البلد ستكون أهم بكثير من أي ليلة تقضونها معي وأنتم متعبون ومنهمكون داخل جسد يشعر بطاقات هائلة لكنه رهينة انعدام الفرص والأعباء الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة. لذلك، أكتب هذه الرسالة لأعتذر عن عدم قدرتي على الفرح أو الحزن أو حتى التقبّل، لأنني منهمكة بمحاولة استيعاب كل ما سبق وأن عرفته وآلمني.

أكتبها لأنني غاضبة من جواز السفر

أكتب هذه الرسالة لأستمع إلى نفسي، وأعترف أننا لا نرحل ونحن سعداء دائماً، وأن أحلامنا تبقى في الانتظار فيما نبحث عن هويتنا في مكان آخر، لكنني بالدرجة الأولى أكتبها وأنتظر أن يذهب أبي السبعيني عند الرابعة فجراً، ليحجز لي موعداً لأنال جواز السفر.

عام 2021، وقع لبنان في أزمة جوازات سفر، وبرّر الأمن العام قراره حينها بأن مخزونه من الجوازات شارف على النفاد بسبب الطلب الهائل عليها، ولعدم توافر التمويل اللازم لشراء كميات جديدة منها. بعد سنتين من الحرمان من حق أساسي من حقوق الإنسان، تم تأمين مخزون إضافي من جوازات السفر، لكن حال الانتظار بقي كما هو. اليوم أصبح بإمكاننا الحصول على جواز سفر عاجل، لكن بعد حجز موعد عبر منصة إلكترونية لا تعمل إن حاولنا الدخول إليها، أو من خلال الانتظار من الثانية أو الرابعة فجراً أمام مقر الأمن العام. نذهب، ننام في السيارات وننتظر في الحدائق العامة، وإن لم تتوفر لدينا فرصة في أول زيارة، نزور المقرّ مرّات عديدة، على أمل أن نحصل على "جائزة الباسبور الذهبية".

ندع لائحة السيئات والإيجابيات تختار عنا، وننسى تفاصيلنا اليومية، ثم نحتفل بفرح شديد كلما اقتربنا من بلدان الخلاص، أوروبا، الإمارات، تركيا... أي بلد ألطف من هنا وأي جحيم هو أقل حرارة من لبنان

هي جائزة فعلاً لمدة عشر سنوات، نتمكن من السفر خلالها مثل غيرنا من البشر حول العالم. من لا يتوفر له فرصة الانتظار أمام مقر الأمن يوماً كاملاً بسبب العمل مثلاً، يُحرم من حقه بالسفر بكل بساطة، وكأن السفر عبر القارات ودون حدود والتنقل بسلاسة يجوز فقط لمواطني الدول المتقدمة، أما من يعيش في البلاد النامية فهو محظوظ إن تمكن من الحصول على هذه الجائزة، واحترام حقوق أفرادها بالتنقل هبة كريمة علينا.

هذه كلها لا نفكر بها بالضرورة فيما نستغرق ساعات وأيام ونحن نفكّر بتفاصيل حجز ومواعيد تأشيرات السفر والبيانات الرسمية الداعمة، لكن حياتنا كلها أصبحت تدور حول هذه التفاصيل، إلى أن أصبح الرحيل نضالاً، نفتخر به قبل حتى بناء أي شيء في بلدان الاغتراب. هذه التفاصيل نفسها هي ما جعلت أصدقائي يغادرون، وكأن التدابير المطلوبة للرحيل هي آخر مرحلة من تفاصيل الحياة القاتلة في لبنان، وهي نفسها التي جعلتني أرتعب حين تأخرت عن تجديد جواز سفري.

هل علقت هنا؟ هل سأسمع بقرار إلغاء الباسبورات مجدداً؟

وكأنني علقت في سجن، علماً أنني في هذا السجن أعمل، وأتعلّم وأسهر وأفرح. نرتعب لمجرد التفكير في عدم القدرة على الحصول على الحق في الذهاب إلى مؤتمرات ندعى إليها أو إجازات لطيفة خارج البلد، وعندما نحصل على الجائزة الذهبية بعد محاولات عدة، يبقى علينا عائق تأشيرات السفر المعقدة، التي تصبح أسهل مع الوقت... "تعوّدنا".

نتعوّد على الرفض والدونية والاستغلال فتصبح جزءاً من حياتنا. حياتنا هذه ووقتنا المنتظر وأحلامنا ورغباتنا التي لم تكن يوماً فردية، فهذه التفاصيل المرهقة التي نعيشها هي التي تقتل قدرتنا وآمالنا. هي تسونامي قادم لكنه باقٍ، يجعل مني فرحة جداً لرحيل أصدقائي قبل قدومه، ويجعل مني أقرب للالتحاق بهم بما أنني حصلت على "جائزة الباسبور الذهبية" البارحة.

إلى أصدقائي المغادرين من لبنان: لا أعرف ما الذي يتطلّب شجاعة أكبر، البقاء في بلد مكسور أم الرحيل منه، لكن أعتذر أنه علينا أن نحارب في الحالتين.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard