في هذه البلاد لا معايير لأي شيء، لا ضوابط ولا قوانين يمكن ملامستها، وحين أقول البلاد أقصد غزة، بالرغم من مساحتها الضيقة، إلا أنها تعني لي مجموع المدن والدول في عالمي، لأنها الأماكن الكلية لهويتي، التي تشكلت بفعل التكرار لا في المساحات والأماكن، بل في المواقف والأحداث والحروب والأحزان والخوف والوحشة.
أنا هنا لم أسافر طيلة عمري، لم أطأ رملاً مغايراً لرمل غزة، ولم أستنشق هواءً لغيرها. في البداية وفي النهاية، السبب في منع سفري هو الاحتلال الإسرائيلي، الذي لطالما كان المسيطر على معابر قطاع غزة، ويتحكم بشكل مجحف بتنقل وحركة الفلسطيني على مدار الوقت. وعلى الرغم من اختلاف الأسباب والأدوات، والمعيقات من أطراف أخرى، تبقى جميعها تندرج تحت رؤية الاحتلال: منع الفلسطيني من السفر.
إذابة الأماكن في الفم
لم أسافر، ولم أتذوق طعم السفر، وكل الذين سافروا يقولون بأنه حلو جداً، وأنا أبتلع ريقي كلما تحدثوا عنه، وكأنني أشتهيه، وكأنني أذيب المدن البعيدة والأماكن في لعابي لأستشعر طعمها، لكنني صرت مع الوقت أخاف أن ابتلع هذا الطعم الحلو، وأتجنب أن أذيب المزيد من المدن في فمي، لأن هذا الخيال يؤلمني، ويتكدس في داخلي على شكل أحزان وحسرات، لا طائل لي في تخطيها.
لغزة معبران، من الشمال "معبر إيرز"، وهو بوابة القطاع نحو الضفة الغربية، وبشكل نهائي يمنع الاحتلال زيارة الغزيين للضفة، إلا في حالات المرض الشديد، مثل تناول جرعات الكيماوي لمرضى السرطان، وفي حالات معقدة ومزاجية، يتم السماح لبعض الأفراد بالمغادرة، ولا يعرف حقاً المعيار المتبع من قبل الاحتلال في المنع، فمن الممكن أن يرفض هذه المرة إعطاء التصريح، وفي المرة القادمة يوافق، والعكس تماماً.
وبحكم تمرسي في مجال الكتابة، وجهت لي دعوات عدة من جهات رسمية، ومنها حكومية، لزيارة الضفة الغربية، والأردن، وإيطاليا، وتونس، لكنها جميعها قوبلت بالمنع، عبر عراقيل رفض التصاريح، والمنع الجائر للتنقل عبر معبر إيرز. بالإضافة إلى التحقيقات الأمنية والمضايقات التي يضعها الاحتلال كبروتوكول دائم في حالات التنقل للغزيين عبر هذا المعبر، وهو ما يجعلنا دوماً معرضين للمضايقات والتهديد والخطر والابتزاز حال السفر، هذا إن تجاهلنا التكاليف المادية الرهيبة، المفروضة من الاحتلال، والمتحكمين بالمعبر من أبناء جلدتنا، التي قد تتخطى مائة دولار للفرد، من أجل التنقل بين شقي الوطن، في الوقت الذي لا يجب أن تتخطى كلفة هذا الأمر أكثر من ثلاثة دولارات.
لم أسافر، ولم أتذوق طعم السفر، وكل الذين سافروا يقولون بأنه حلو جداً، وأنا أبتلع ريقي كلما تحدثوا عنه، وكأنني أشتهيه، وكأنني أذيب المدن البعيدة والأماكن في لعابي لأستشعر طعمها، لكنني صرت مع الوقت أخاف أن ابتلع هذا الطعم الحلو، وأتجنب أن أذيب المزيد من المدن في فمي، لأن هذا الخيال يؤلمني، ويتكدس في داخلي على شكل أحزان وحسرات، لا طائل لي في تخطيها
ومن جهة الجنوب، هنالك معبر رفح البري، وهذا المعبر يفصل غزة عن مصر الشقيقة، وقد منع الغزي منذ تولي حركة حماس حكم قطاع غزة، منذ 2008 مغادرة غزة تجاه الجنوب، بشكل مطلق، وبعد سنوات، وحينما تم السماح بالأمر، كان على الغزي أن يدفع مبالغ باهظة من أجل تنسيق السفر، وهو مبلغ فرضته الحكومة المصرية بالتعاون مع الحكومة القائمة في غزة، ولا أعرف كم يحصل كل منهما، كنسبة، من المبلغ المسلوب من دم المواطن الفقير، إذ وصلت قيمة هذا التنسيق حتى ألفي دولار أمريكي، في بعض الأحيان، وإلا عليك الصبر حتى أجل غير معلوم حتى تنال حقك الطبيعي في السفر.
مشاعر السفر
إن روايتي مع السفر ذات حبكة مستمرة، أنا شخصيتها الملائكية، أما السفر فهو الشخصية الخبيثة المغرضة التي تحاول إنهاكي عبر الإغراق المستمر في المحاولة، ومن ثم تركي جثة، يحملني الماء حيث أراد.
وسارت الأحداث هنا بشكل تراكمي، حتى صرت أعرف كثيرا عن مشاعر السفر، لكنني لا أعرف عنه شيئاً، فأضحيت خبيراً في تفادي الانتكاسات الناجمة عن المنع المتكرر لي، ويبدو أنني امتلكت مساحة لامبالاة أكبر تجاه التحرك نحو المعابر والحدود.
وإنني أعيش بمشاعر خاصة تجاه الأسلاك الشائكة الممتدة على الحدود المحيطة بقطاع غزة، ولا دلالة في تلك الأسلاك سوى اعتبار المساحة التي داخلها بالسجن. نعم، بتّ أكره السلك الشائك، إنه يشعرني بنخزات في جلدي، حتى ولو لم ألامسه، وصرت أكره الفراغات في السلك المشبك، لأنها تشبه نوافذ مغلقة في وجهي، ممنوع عليّ فتحها، وأنا أجلس وحدي مختنقاً، في غرفة ممتلئة بالكلس والرطوبة، ولست أدري كيف لي أن أتدرب على الاختناق؟
هذا السلك كلما رأيته عبر الشاشات الصغيرة، أو حول المواقع الحكومية في غزة، تذكرت كم البؤس في أن أكون ممنوعاً من المرور، وأنني أدور في نفس المكان، طيلة عمري، لقد مللت الدوائر، وأريد لمرة واحدة أن أرى جسدي خارج الأقواس التي يضعها الاحتلال. وأكثر من مرة سألت ذاتي، لماذا لا أسافر؟ لماذا أنا أقرب للشبه من حجر جاف يتقاذفه المارون، يتحرك قليلاً ثم يسكن، لكنه لا يخرج قطعاً من مساحة الغابة.
زنزانة
لمن لم يجرب مشاعر الزنزانة، أنا جربتها، فجلست في غزة القرفصاء، ولم تهلك أقدامي، حيث أنني لطالما راوغت الحياة بالجلوس على الأسئلة الكبيرة، لماذا أنا من هنا؟ لماذا بعد أن رأيت العاصفة قادمة نحوي، لم أهرب!
لمن لم يجرب مشاعر الزنزانة، أنا جربتها، فجلست في غزة القرفصاء، ولم تهلك أقدامي، حيث أنني لطالما راوغت الحياة بالجلوس على الأسئلة الكبيرة، لماذا أنا من هنا؟ لماذا بعد أن رأيت العاصفة قادمة نحوي، لم أهرب!
لقد تشكل وعيي في نفس المكان، بنفس الرمل والغبار الأسود المتطاير في أنفي وعيني بفعل الحروب المتكررة على غزة، وبقيت أعيش بهيئة الحجر الملقى تحت ظل شجرة، كل ما يدور حوله العواصف، والريح تقذف الورق الذابل الجاف في وجهي. في غزة تبقى فكرة السفر الأقرب لوعي الناس، والأكثر تخييلاً في عقولهم، لكنها هي الأبعد عن المنال في الواقع. فهنا مع الأزمات الاقتصادية المتكررة والحروب، فقد الكثيرون مصادر دخلهم، وتساقط الكثير من ميسوري الحال في مستنقع الفقر والعوز، حتى أن فكرة السفر بالإضافة إلى أنها ممنوعة، أضحت رفاهية غير متاحة إلى لفئة معينة من المجتمع.
أشعر مثل الكثيرين من أهل غزة، وفي بعض الأوقات، أن رفاهية السفر قريبة، لكن يروادني في نفس الوقت، شعور الرجل الكهل بملابسه الرثة، ولحيته الطويلة البيضاء، يحاول المضي نحو شبابه من جديد، لكنه مقيد بسلاسل ثقيلة في أقدامه. أنا الشاب الذي تركته فكرة السفر كهلاً.
قبعة نحس
أذكر كم مرة تجهزت للسفر، بعد تكرار الدعوات الثقافية لي بتمثيل فلسطين في المحافل الدولية، فحقائبي لثلاثة مرات تجهزت كاملاً، ثم تم المنع ليلة السفر أو صباح يومه، ولم يتوقف الأمر عند الانزعاج والخيبة، بل مضيت في مرات عديدة أشكك في قبعة سوداء كنت أقتنيها، بأنها سبباً للنحس، وهي العائق الوحيد في إتمام السفر، لقد مزقت تلك القبعة السوداء بالفعل، لكنني لم أسافر أيضاً، ليت الاحتلال قبعة يمكنني تمزيقها.
لقد صار جسدي عربة تحمل تلك الحقائب التي كنت أكومها ليلة السفر، ولم تغادر مكانها.
أذكر كم مرة تجهزت للسفر، بعد تكرار الدعوات الثقافية لي بتمثيل فلسطين في المحافل الدولية، فحقائبي لثلاثة مرات تجهزت كاملاً، ثم تم المنع ليلة السفر أو صباح يومه، ولم يتوقف الأمر عند الانزعاج والخيبة، بل مضيت في مرات عديدة أشكك في قبعة سوداء كنت أقتنيها، بأنها سبباً للنحس
أظن أننا نقضي العمر في سبيل تحقيق رغباتنا، ولو تحققت جميعها، وبقيت رغبة في البال، ستحترق بقية الرغبات في طريقها، ولقد حققت رغبات كبيرة في حياتي، أبرزها أن اكون أمتهن الكتابة، وأن أطبع مجموعتي الشعرية الأولى والثانية، ورواية كذلك، وأن أمارس العمل الصحفي، لكنني أشعر أمام رغبة السفر الممنوعة بنهايات مريرة، حيث أتخيل أنني أقود دراجة هوائية بعجلة واحدة، بمجرد محاولة التحرك، تسقط في مكانها.
جسد مبتور، لكن بأجنحة
ذات مرة، كنت أقدّم ورشة في الكتابة الإبداعية لليافعين في مؤسسة غزية، وطلبت من الأطفال تخيل مشهد مطار غزة المقصوف من قبل الاحتلال الإسرائيلي بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2001، وطلبت منهم الكتابة عنه، كل الإنتاجات كانت مؤلمة، وتفسر حالة الخذلان لدى الأطفال جراء انتهاء حلم المطار الدولي في غزة، لكن أحد الأطفال فاجئني بكتابته: "لقد تخيلت المطار بجسد رجل تحمله الأجنحة، لكن أحد أقدامه مبتورة". ولقد كان هذا، وقت تكرار الاحتلال اعتداءه على الفلسطينيين المتظاهرين لكسر الحصار، على الحدود مع الأرض المحتلة، وقد نجم عن ذلك مئات مبتوري الأقدام في غزة.
ولا يمكن في هذا الإطار إلا ذكر أن عيناي قد دمعت في أحد زوايا الغرفة، وحينها عرفت بأن احلامنا دوماً مبتورة، حتى وإن سافرنا، وحملتنا الطائرات، سنبقى مبتوري الأجساد والأرواح، وشعرت لحظتها بأن الأجنحة لا تعتبر إضافة للغزي، وإنما وسيلة للهروب من الكساح. وتساءلت، بخيبة، كيف للأجنحة أن تقضم جزءاً من أجسادنا في لحظة ما!.
ولأننا في غزة اعتدنا على قمع الحريات من قبل النظام القائم فيها، فنخشى أن نضع تعليقاً مناقضاً لسياسته على شبكات الانترنت، نقول فيه رأينا بصراحة، خوفاً من العقاب المتوقع، طبقاً لحوادث سابقة، ونخاف أن نخالف العادات والتقاليد، خوفاً من ردة الفعل الاجتماعية العنيفة، لدرجة أننا تعودنا على فكرة الرقابة الذاتية، على أنفسنا، كما يرد الحاكم والمجتمع هنا، وأشعر بأن السفر صار من تلك المحظورات، التي تخضع لرقابتي الذاتية أولاً، فأقنع نفسي بأن هذا مستحيل، وبأن السفر شيء لا يمكن تحقيقه في هذه البلاد.
هكذا تحول السفر إلى ضفة الحقوق المركونة على الضفة الأخرى للحياة، الضفة التي أخاف الاقتراب منها.
فبعد أن خلف السفر الممنوع، كل هذه المشاعر السلبية في الذات، أصبحت أخاف السفر، أخاف أن أتحدث عنه، فأنا هنا سمكة حزينة في بحر غزة المالح، أخاف أن أكون سابحاً في ماء نهر عذب، فلا أستطيع الخروج من مأزقي، وكأن هذا الوعي تعود على ندبة الوجه، ولا يريد لأحد أن يقوم بعملية تجميل فأفقد ملامحي المعتادة، ملامحي مع المنع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...