"يا رب السفر... السفر"، "راحة البال والسفر"، "بتمنى سافر لبعيد"، "يا رب تنتهي الحرب ويوقف شلال الدم ويعم السلام بكل سوريا"، "شغل منيح ووضع اقتصادي أحسن للبلد"... هذه بعض من مئات الأمنيات التي علقها روّاد مقهى "زرياب" في دمشق على شجرة ميلادية، يخصصها صاحب المقهى نهاية كل عام لاستقبال السنة الجديدة على طريقته الخاصة.
"كثيرون يرغبون بمغادرة البلاد، وبعض من سافروا يندمون على ذلك"
تزدحم شجرة الأمنيات، وعمرها اليوم خمسة أعوام، بأكثر من ألف وخمسمئة ورقة صغيرة ملونة معلقة على الأغصان الخضراء بملاقط خشبية صغيرة، وتمثّل أمنيات السفر خارج سوريا ولقاء الأحبة والغيّاب القسم الأكبر منها، كما يقول برنار جمعة، صاحب المقهى خلال لقاء مع رصيف22.
ويتابع: "كثيرون يرغبون بمغادرة البلاد، وبعض من سافروا يندمون على ذلك، وأمنية واحدة تتحدث عن الرغبة بالعودة للاستقرار في سوريا مجدداً".
يندر أن يزور أحد هذا المقهى الصغير الواقع في قلب المدينة القديمة خلال شهر كانون الأول/ ديسمبر دون أن تعتريه الرغبة بتناول ورقة وكتابة أمنية، ولو بجملة واحدة. البعض يقصد المكان خصيصاً من مناطق بعيدة، وحتى من مدن سورية أخرى، كي لا يفوتهم هذا الطقس السنوي، ويوماً بعد آخر، تمتلئ الأغصان بعبارات بعضها متفائل والبعض الآخر يملؤه الحزن أو اليأس أو الشوق، أو مجرد الرغبة بحياة أفضل، في بلد أنهكته الحرب حتى آخر رمق.
شجرة الأمنيات في مقهى زرياب بدمشق | تصوير: ماهر المونس
يراقب برنار رواد المقهى وهم يخطون أمنياتهم على الأوراق الصغيرة. بات يعرف مشاعرهم على وجه الدقة. منهم من اعتاد القيام بذلك كل عام، ومنهم من يعبّر عن أمنيته بالكتابة لأول مرة. كثر يتصلون من مدن وبلدان أخرى ويطلبون منه أن يكتب لهم أمنياتهم بخط يده، إذ يتفاءلون بهذه الشجرة، وآخرون جاؤوا وكتبوا عشرات الأمنيات عنهم وعن أصدقائهم المسافرين.
"عدد الأوراق هذا العام هو الأكثر على الإطلاق"، يقول برنار مضيفاً: "تحولت الشجرة إلى رمز للمشاعر الصادقة بالنسبة لكثيرين، أو ربما نحن كالغريق الذي يتعلّق بقشة. لم يحقق لنا أحد أمنياتنا طوال السنوات الماضية، ولعلّ الشجرة تتكفل بذلك".
"نريد للحرب أن تنتهي فعلاً"
من أولى الأمنيات التي تعلقت على شجرة مقهى زرياب، تلك التي تطلب انتهاء الحرب وعودة السلام، وكتبها صاحب المقهى بنفسه.
"نحن اليوم نحتفل بالأعياد، ونحلم بأيام قادمة أفضل، لكننا لا ننسى بأن الحرب لم تنتهِ بعد، ما دام الموت حاضراً في أرضنا وما دامت هناك نقطة دم واحدة تسيل في سوريا"، يشرح الرجل ونحن جالسَين داخل المقهى.
كل عام يكتب برنار ذات الأمنية، ويشاركه فيها كثيرون. حتى أولئك الذين صمتت أصوات الحرب في مدنهم، يتمنون النسيان ويودعون هذا العام ببعض من الفرح والأمل اللذين يشوبهما الحزن، فآثار الحرب ماثلة في كل مكان حولنا، بحجم لم يتوقعه أحد على الإطلاق، وبأشكال مختلفة على رأسها الوضع المعيشي الذي يزداد صعوبة يوماً بعد آخر، دون أن يترك المجال سوى لبعض الأفراح المؤقتة.
شجرة الأمنيات في مقهى زرياب بدمشق | تصوير: ماهر المونس
إلى جانب برنار يجلس أحمد شبيب، وهو شاب ثلاثيني يعمل في واحدة من الشركات الخاصة بدمشق. خلافاً للأعوام السابقة، لم يعلّق أحمد أي أمنية على الشجرة هذا العام "بسبب ازدحامها الشديد"، يقول بابتسامة عريضة.
ويضيف في حديث لرصيف22: "لو أردت الكتابة، لتمنيت أن نحظى، نحن الذين بقينا داخل سوريا، بحياة أفضل على كافة الأصعدة".
ويتابع: "صحيح أننا نستقبل العام الجديد بسعادة، لكننا نستحق ما هو أفضل مما نعيشه اليوم من أزمات متتالية وأوضاع اقتصادية صعبة. تكفينا عشر سنوات من الحرب، وآن الأوان لننعم ببعض من الراحة". مع ذلك، لا يتوقع الشاب تحقق ذلك قريباً، حيث يصف الوضع في سوريا "بالمعقد للغاية".
"يا رب السفر... السفر"، "راحة البال والسفر"، "بتمنى سافر لبعيد"، "يا رب تنتهي الحرب ويوقف شلال الدم ويعم السلام بكل سوريا"... هذه بعض من أمنيات العام الجديد التي علقها روّاد مقهى "زرياب" في دمشق على شجرة ميلادية
"انشالله بسفرنا جميعاً"، خرج صوت من أحد الموجودين لتتبعه دعوات مماثلة... لم يرغب أحد من المجتمعين، وكلهم طلاب في كليات مختلفة بجامعة دمشق، سوى بمغادرة البلاد في أسرع وقت ممكن، وهي الخطوة الأولى لتحقق كثير من الأمنيات، وفق حديثهم لرصيف22
بداية يشوبها الخوف
أثناء احتفال سبق عيد ميلاد السيد المسيح بيوم، أطفأت آية العبيد، مع عدد من أصدقائها، بعض الشموع التي زينت قالباً صغيراً من الحلوى، أرادوا من خلاله وداع هذا العام والاستعداد لدخول العام الجديد ببعض الفرح والأمل.
"انشالله بسفرنا جميعاً"، خرج صوت من أحد الأصدقاء، لتتبعه دعوات مماثلة من الجميع. لم يرغب أحد من المجتمعين، وكلهم طلاب في كليات مختلفة بجامعة دمشق، سوى بمغادرة البلاد في أسرع وقت ممكن، وهي الخطوة الأولى لتحقق كثير من الأمنيات وفق حديثهم.
من احتفالات نهاية العام في شوارع دمشق | تصوير: زينة شهلا
تقول آية في حديث لرصيف22: "أحلم بالسفر منذ حوالي عامين لكني أجّلت هذا الحلم لحين تخرجي، واليوم وأنا قاب قوسين أو أدنى من إنهاء سنواتي في الجامعة، تحول السفر لهاجس حقيقي لدي".
تؤكد آية بأن هذه الأمنية مشتركة بين جميع أصدقائها ومعارفها ممن هم في مثل سنها، والسبب الأساسي هو إحساسهم بعدم الأمان.
"لدينا شعور عام بالتهديد والخطر، وبأن كل ما يمكن أن نبنيه هنا يمكن أن يتهدم في لحظة بكل بساطة، ونتيجة عوامل خارجة عن إرادتنا. الأحوال في سوريا اليوم أسوأ من أن نفكر بتأسيس حياتنا فيها"، تشرح الفتاة التي نزحت من واحدة من مدن شرق سوريا قبل حوالي سبعة أعوام، لتستقر مع عائلتها في مدينة جرمانا، شرق دمشق.
لا تشعر آية بكل تأكيد بأي سعادة وهي تقول ذلك، وتعجز أيضاً عن العثور على السعادة والفرح في أي شيء حولها، حتى في احتفالات استقبال العام الجديد. وتضيف: "مشاعري ونحن نستعد للعام 2020؟ خائفة للغاية. أشعر بأننا مقبلون على ما هو أسوأ من كل ما عشناه من قبل".
من احتفالات نهاية العام في شوارع دمشق | تصوير: زينة شهلا
يشترك عبد الرحمن التش، وهو موظف علاقات عامة في واحدة من الشركات الخاصة بدمشق، مع آية بهذه المشاعر. لطالما تمنى الشاب الثلاثيني ومع نهاية كل عام من أعوام الحرب، البقاء على قيد الحياة والسلامة، والخلاص من الأذى المباشر الذي تسببه القذائف والانفجارات وشظايا الحرب.
ومع نهاية الحرب الميدانية في دمشق العام الفائت، انتهى الخوف المباشر بالنسبة لعبد الرحمن، وبدأت مرحلة الإحباط من مستقبل غير واضح على الإطلاق. عن هذا يقول: "خلال العام الأخير حظينا بفرصة أن نتفقد أنفسنا وأحوالنا ونكتشف ما خسرناه خلال الحرب، وهو كثير للأسف. واليوم، لا أتمنى سوى الخروج من هذه البقعة الجغرافية التي لم يعد لدي أمل فيها. حقيقة، ربما أنا لا أتمنى أي شيء على الإطلاق، فالحال أصعب وأكبر من أي أمنيات".
ويشبّه عبد الرحمن نهاية السنة بالنسبة له ولعائلته بمجرد ورقة يمزقونها من التقويم السنوي لتظهر خلفها ورقة أخرى لا تختلف عنها بشيء. ويتابع: "هو يوم كغيره من الأيام، لا نملك فيه سوى أمنيات جماعية بالخلاص، بأي طريقة كانت".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...