منذ تولي الرئيس محمود عباس للرئاسة عام 2005، وخطبه المرهفة التي تنادي بدولة المؤسسات والحريات لم تتوقف، بل كانت تشكل تساؤلات حول حمامة السلام تلك التي أورثتنا إياها بقايا الثورة الفلسطينية التي وضعت ملفاتها في الأدراج، والمآلات التي سنذهب إليها تحت ظلال حكمه، وفي ظل مساعيه للانخراط في كافة المواثيق والمعاهدات الدولية التي تعنون بالحقوق بدءاً من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وصولاً إلى إتفاق سيداو، إلا أن للسجون في أريحا، والعقوبات التي ألحقت بقطاع غزة، ولروح نزار بنات، وقطع الرواتب، والتقاعد المبكر، والخصومات، والتمييز بين شقي الوطن، كان هناك رأي أخر ينافي ويرسم واقعاً يناقض هذه الخطب. كان ضمنها وليس أخرها انتهاج شكل آخر من أشكال الاستبداد والاستيلاء على الحقوق الأساسية للمواطن، بما يتجاوز فلسفة وسياسات أعتى الأنظمة الاستبدادية، وهو "المنع من الحصول على جواز السفر" كسلاح من شأنه مواجهة الخصوم السياسيين والمعارضين للسياسات والحكم.
محمد الزعيم، مواطن فلسطيني من قطاع غزة، يقيم في القاهرة، يصنف نفسه كأحد معارضين سياسات الرئيس محمود عباس، يقول لرصيف22: "في نوفمبر 2017 انتهى جواز سفري وتقدمت بطلب تجديده، من خلال سفارة فلسطين في مصر، وتم ابلاغي برفض الطلب كوني موظفاً، وبعد جهود حثيثة استطعت عمل توكيل لأحد أقاربي في رام الله لاستصدار جواز سفر وفي سبتمبر 2018 تقدمت بطلب تجديد جواز السفر من خلاله ومن خلال المتابعة وبعد أن تم طباعة جواز السفر وذهب الوكيل لأخذ الجواز تبين أنه تم احتجازه بسبب الآراء السياسية الخاصة بي والتي أنشرها عبر صفحة الفيسبوك والتي تتحدث صراحة عن الفساد في السلطة، وفي الشهر ذاته تم قطع راتبي".
واستكمل :"الجهة التي أصدرت القرار هي الاستخبارات العسكرية بحكم أنني موظف عسكري أعمل في مرتبات جهاز الأمن الوقائي، لم يكن هناك أي قرار رسمي أو أمر قضائي ولا يجوز قانوناً منع إصدار جواز سفر باعتباره أحد حقوق المواطنة ولكن سياسة منع تجديد جوازات السفر وقطع الرواتب هي السياسة التي انتهجتها السلطة الفلسطينية في رام الله تجاه المعارضين، وتم إخبار الوكيل أن الجواز بحوزة الاستخبارات العسكرية بحكم أنه موظف ايضاً في السلطة".
وأضاف: "للأسف السلطة الوطنية تريد تكبيل أذرع المعارضة وكسر أقلامهم من خلال هذه السياسة التي بالفعل نجحت في ثني الكثيرين عن قول الحقيقة، مقابل الحفاظ على رواتبهم أو امتيازاتهم والحق في حصولهم على جوازات السفر بل حولت جزءاً كبيراً من أبناء شعبنا لقطيع من السحيجة مقابل حقوق المواطنة، فقطعت الرواتب ومنعت تجديد جوازات السفر ومنعت الحصول على أوراق حسن السير والسلوك التي يحتاجها البعض للحصول على منح دراسية ومنعت توثيق شهادات البعض فحرمت المعارضين حقوق المواطنة مقابل ضمان سكوتهم".
وفي إطار مساعيه لحل الأزمة أكد محمد الزعيم لرصيف22: "حاولت توكيل أكثر من محام دون جدوى، الكل خائف. هناك سطوة أمنية بهذا الخصوص واعتذر أكثر من محام لعلمهم أن أحكام القضاء لن تنفذ. فهناك الكثير من الأحكام لمعارضين لم تنفذ مثل الأحكام الخاصة بإرجاع رواتب المقطوعين بتقارير كيدية أو بسبب توجهاتهم السياسية".
السلطة تريد تكبيل أذرع المعارضة وكسر أقلامهم من خلال هذه السياسة التي بالفعل نجحت في ثني الكثيرين عن قول الحقيقة، مقابل الحفاظ على رواتبهم أو امتيازاتهم والحق في حصولهم على جوازات السفر
وتابع الزعيم: "تواصلت مع العديد من مؤسسات حقوق الإنسان مثل "الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان" التي حاولت من خلال بعض الأصدقاء من المحامين والعاملين في المجتمع المدني للضغط عليهم لتحريك الماء الراكد ولكن تم ابلاغي عبر أصدقاء أن لا أزعجهم ثانية وأنني أسبب الحرج لهم وأنهم لا يتدخلون في مثل هذه القضايا السياسية ورغم ذلك أرسلت لهم مراراً وتكراراً دون جدوى".
وفي وصفه لسلوك السلطة قال محمد الزعيم: "في النهاية ما تقوم به السلطة هو جريمة سياسية بامتياز وانتهاك للاتفاقيات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي انضمت لها السلطة الفلسطينية لتعزيز صورتها الديمقراطية أمام العالم، ولكن للأسف كل ذلك قناع يُخفي البشاعة التي تتم ممارستها ضد المعارضين".
ما تقوم به السلطة هو جريمة سياسية بامتياز وانتهاك للاتفاقيات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي انضمت لها السلطة الفلسطينية لتعزيز صورتها الديمقراطية أمام العالم
وأضاف: "في شهر مارس 2022 تقدمت بطلب آخر عبر السفارة، وفي البداية السفارة رفضت تلقي الطلب وعندما علموا بوجود زميل مصري وهو محامٍ برفقتي، أوهمتهم أنه من منظمة لحقوق الإنسان طلبوا مني الانتظار، بعدها اصطحبني موظف سفارة لأجد نفسي أمام ضابط مخابرات يحقق معي، ونصحني بعدم تقديم الطلب، لأنه خسارة على الفلوس على حد وصفه، وبعد إصراري وتهديدي لهم بأنّ منظمة حقوق الإنسان "جايين يوثقوا الحدث"، وافقوا على قبول الطلب وأبلغني بالحرف: "بس لو ما طلع إحنا ملناش أي علاقة (السفارة مجرد ساعي بريد)".
أما د. زياد سعد، أستاذ القانون الدولي العام في جامعة القدس، فقد أكد لرصيف22: "لا يوجد أي مسوغات قانونية لمنع الحق في إصدار جواز سفر بل يعد هذا الأمر انتهاكاً دستورياً لحقوق أساسية وضرباً بعرض الحائط لكل الاتفاقيات الدولية التي وقعتها السلطة، ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يقضي بحرية السفر وعدم وضع عراقيل عليه أو قيود، ومن هذه العراقيل عدم إصدار وثيقة السفر بل أن الأمر يزداد خطورة عندما تعرف أن سبب المنع صادر من الأجهزة الأمنية، وليس قرار محكمة بأسباب تقف خنجراً في ظهر السلطة و إثبات إدانة ضدها وهي امتداد لتعطيل حق دستوري آخر، وهو حرية الرأي والتعبير ويتم تغليف الأمر في جريمة أكثر غباءاً ألا وهي مناهضة السياسة العليا للرئيس، لذا فإن السلطة تفقد عقلها وقانونيتها عندما تحرم مواطن من جواز سفره".
وفي سؤاله عن المبدأ أو النص الذي تستند فيه السلطة الفلسطينية لتنفيذ هذه الإجراءات، قال: "على ما يبدو أنها تستند إلى انقسام دام أكثر من خمسة عشر عاماً، تم فيه تعطيل الانتخابات وتعطيل القانون الأساسي وفصل القضاء الفلسطيني، وحتى منع تفعيل وتنفيذ أحكام القضاء الصادرة في رام الله والقاضية بعودة الرواتب المفصولة والسرعة الممكنة في إصدار جوازات السفر".
لا يوجد أي مسوغات قانونية لمنع الحق في إصدار جواز سفر بل يعد هذا الأمر انتهاكاً دستورياً لحقوق أساسية وضرباً بعرض الحائط لكل الاتفاقيات الدولية التي وقعتها السلطة الفلسطينية، ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يقضي بحرية السفر وعدم وضع عراقيل عليه أو قيود
وأضاف: "كما أنها تستند إلى بلطجة الأجهزة الأمنية، التي تنتهج أساليب دكتاتورية عفا عليها الزمن في محاصرة المعارضة السياسية، ومنها عدم إصدار جوازات السفر الخاصة بهم، وبلغ الأمر منحى آخر في قيام جهاز الأمن الوقائي بوضع قائمة حمراء على المعابر تحاول تعطيل أو منع من السفر للمعارضة، كجزء من حالة التنسيق بينها وبين الدول المجاورة، ولا يدخل الشخص إلا بتنسيق خاص يطلق عليه دون العرض والذي يحاط بضمانات خاصة وإجراءات أكثر تعقيداً".
أما أ. جميل سرحان، رئيس الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، فقد أكد لرصيف22: "ترى الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان أن عملية منع إصدار جوازات السفر تخالف القانون الفلسطيني على وجه الخصوص القانون الأساسي الفلسطيني وكل التشريعات التي تعطي الحق لكل فلسطيني بالحصول على جواز سفر، هذه الوثيقة التي بدونها تصبح هناك قيود على حرية الحركة والتنقل، تلك القيود التي ترفضها كل التشريعات الدولية".
وأضاف :"وتؤكد الهيئة المستقلة على حق كل فلسطيني بالحصول على الوثائق الرسمية وتحديداً جواز السفر وتمكينه من حرية الحركة والتنقل وعدم جواز منعه من الاقامة في أي مكان أو التنقل إليه، وحرمان مواطن من جواز سفره من السلطة الفلسطينية في رام الله يشكل تجاوزاً للقانون والأصول القانونية وتجاوزاً للعقد الاجتماعي الذي يربط بين المواطنين والسلطة الوطنية الفلسطينية".
وفي إطار وصفه للاجراء أكد:"ولأن هذا الإجراء مخالف للقانون الفلسطيني، بل مخالف لأبسط الحقوق للمواطن الفلسطيني فإن الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان تختص بتلقي شكاوى المواطنين ومتابعتها لدى وزارة الداخلية في رام الله وكل الجهات الحكومية لدى السلطة الفلسطينية وتطالب بتمكين المواطنين من الحصول على جواز السفر الفلسطيني".
وحول الأدوار التي تقوم بها الهيئة المستقلة قال: "تتوجه الهيئة برسائل وخطابات لوزارة الداخلية وتطالبها بضرورة تمكين المواطنين من الحصول على جواز السفر، وفق الحالات التي نتلقاها يتم توجيه هذه الرسائل وإن لم تستجب وزارة الداخلية يجري توجيه رسائل لمستوى أعلى، كرئيس مجلس الوزراء وفي حالات محددة يتم إعداد التقارير المناسبة في التقرير الشهري وفي كل التقارير".
وأكد أ. جميل سرحان :" تتابع الهيئة المستقلة هذا الموضوع بأكثر من شكل وطريقة، وتسعى للضغط على السلطات ومناصرة أصحاب هذه الشكاوى، فقد تم إعداد تقارير تقصي بشأن تلك المخالفات، ويتم تناول هذا الموضوع بتفصيل كامل في التقارير الشهرية التي تصدر عن الهيئة المستقلة ويتم وضعها على الموقع الالكتروني ونشرها، بالاضافة الى وجود باب خاص يتناول هذا الموضوع وهذه الظاهرة التي بدأت منذ العام 2007 وتستمر حتى تاريخه".
وحول بداية الظاهرة قال: "السلطة الوطنية الفلسطينية استهدفت منذ العام 2007 خصومها السياسيين بهذا الانتهاك ومنعت الكثير من المواطنين من الحصول على جوازات سفرهم، وتتم الاستجابة نسبياً بهذا الموضوع، ولكن حتى الاشخاص الذي يتم الاستجابة لهم يكون بعد فترات طويلة ويعانون مشكلات كبيرة".
وأضاف: "بالاطلاع على واقع الشكاوى في الهيئة فإن هناك مواطنين قد احتاجوا إلى السفر للعلاج إلى جمهورية مصر العربية، وأعاقهم عدم وجود جواز سفر من الوصول للعلاج، الأمر الذي أدى الى مشكلات جدية وتفاقم أوضاعهم الصحية، كما أن هناك كثيراً من المواطنين منعوا من ممارسة حقهم في التعليم، بسبب عدم وجود جوازات سفر من وزارة الداخلية في رام الله".
أما عن الإحصائيات التي قامت بها الهيئة فقد أكد أ. جميل سرحان: "وفقاً لإحصائيات الهيئة فإن هذه الظاهرة مستمرة منذ العام 2007 ، وقد حصل الكثير منهم على جواز سفر بعد معاناة، إلا أن هناك أعداداً غير قليلة لم يحصلوا على جواز السفر، فقد تم توثيق الآن ما يقارب 70 شكوى يدعي أصحابها عدم تلقيهم جوازات السفر".
وختم أ. سرحان: "هذا الملف من الملفات التي يجب أن نتابعها على الدوام، فلا يمكن القبول باستمرار وجود أي مواطن فلسطيني دون حقه في الحصول على جواز السفر، ولا يمكن تقبل وجود مواطن فلسطيني يحرم من حرية الحركة والتنقل، أو يحرم من أي حق من الحقوق، فالقيد الوارد على هذا الحق يشكل قيداً على كل الحقوق. الإنسان الذي يرغب بالسفر للتعلم لا يمكن أن يحقق حقه في التعليم او الصحة إلى آخره إن لم يحصل على جواز السفر".
أما أ. يوسف حرب، وكيل وزارة الداخلية في رام الله، فقد قال في تصريح مقتضب لرصيف22 ردّاً على الأسئلة: "لا يوجد منع لأي شخص للحصول على جواز سفر بغض النظر عن انتمائه السياسي، ولا يوجد قانون يتيح سلب الجواز من صاحبه أو الحصول عليه… أي شخص منع من الحصول على الجواز يذهب للقضاء الذي ينصفه".
الجدير بالذكر أنّ حرب وبعد مواجهته بمداخلة رئيس الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان الذي أكد وجود انتهاكات تتعلق بالمنع من إصدار جوازات السفر للمعارضين السياسيين، امتنع عن الرد.
هنا تثار الكثير من العواصف، التي وجدت بفعل واقع شائن ساهم في تصنيف الناس وإعادة فرزهم في كل مناسبة، فمن يقبل أن يهلل ويطبل له المزايا والعطايا، ومن يرفض تغلق الأبواب في وجهه. إيغال موحش في ممارسة الظلم دفع الناس للانقسام على أنفسهم، منهم من قبل أن يؤدي دور المنافق بجدارة، وأخرون كسروا عصا الطاعة وتمردوا كي لا تمر المؤامرات بسلاسة، ليبقى السؤال: لمصلحة من يسعى هؤلاء لإيصال شعبهم لأن يكرهوا جنسيتهم؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...