شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
زهرة لكل خيمة في الشمال السوري... عن أبو زهير ومبادرته وإنسانيّته

زهرة لكل خيمة في الشمال السوري... عن أبو زهير ومبادرته وإنسانيّته

"شتولنا كلها مجانية، وبلا أي مقابل، وعملنا تطوعي، من تأمين البذور وتأمين البلاستيك إلى التوزيع والزراعة. استطعنا خلال السنتين الأخيرتين، إضافة شيء آخر، هو زراعة شتول الورود، فمعظم أهل الشمال يسكنون في الخيم. أحلم بالوصول إلى كل خيمة في الشمال لأزرع فيها زهرةً. لأزرع الأمل بالحياة. أزرع الأمل بالعودة إلى بلادنا التي هُجّرنا منها"؛ بهذه الكلمات عبّر المهندس الزراعي الستيني عيد العيسى، أبو زهير، الذي شغل منصب نقيب المهندسين في إدلب لسنوات عدة، عن سعادته بمبادرة أطلقها قبل سنوات بهدف مساعدة الفلاحين الأكثر ضعفاً، خاصةً من يقطنون في المخيمات في مناطق إدلب وريف حلب في شمال غرب سوريا.

يعيش أبو زهير مع زوجته وابنه ذي العشر سنوات، بعد أن سافر أولاده إلى بلجيكا وألمانيا، بين الورود والخضروات، ويمضي معظم وقته معها؛ يتلمسها بعناية فائقة، ينتقي أفضل الأصناف، ويُخرج الحبات الفاسدة من بين البذور، ويتفقدها حبةً حبةً، ليبدأ برحلة زراعتها وسقايتها، بعد أن يضعها في صناديق من "الفلّين" لتكون شتولاً جاهزةً للزراعة، تُوزَّع على الفلاحين مجاناً.

مليونا شتلة سنوياً

لم يكن أبو زهير يعلم أن نشاطه الفردي البسيط الذي أطلقه بعد رحلة تهجير قاسية في عام 2017، من منطقة أبو ظهور شرق إدلب، إلى قرية عرب سعيد في غربها، سيكون حديث الشارع في شمال غرب سوريا وسيلقى ثناءً جميلاً، لما قام به من مساعدة الفلاحين في المنطقة، ودفعهم إلى الاستمرار في مهنة الزراعة.

أطلق أبو زهير مبادرته الفردية، بعد أن انتقى أفضل أصناف البذور الصيفية، وبإمكانات بسيطة قام بإنتاج 200 ألف شتلة كمرحلة أولية، بمساعدة عدد من الفلاحين المتطوعين. وبعد الرغبة الشديدة التي أبداها الفلاحون في أخذ البذور وزراعتها، كونها بلا مقابل وتخفف عنهم تكاليف شرائها، زاد كمية البذور وتجهيزها كشتلات لزيادة الكميات الموزعة، ليتجاوز الرقم مليوني شتلة من مختلف أصناف الخضار.


يقول في حديثه إلى رصيف22: "بدأت الفكرة بعد الـ2011، بعد أن أصبح دخول البذور الجيدة إلى مناطقنا شحيحاً جداً، ودخلت بذور بنوعيات رديئة. عملت وفق واجبي كمهندس زراعي على تأمين قدر المستطاع من البذور لتلبية حاجة فلاحينا، نتيجة عدم توافرها وتردّي وضعهم المادي. واجبنا كفنيين زراعيين أن نأخذ زمام المبادرة ونطرح بدائل تناسب الفلاح، فمن أشياء صغيرة من الممكن أن نخلق ظروفاً مناسبةً للفلاحين، ونؤمّن لهم فرصة عمل، ليستمروا في الزراعة".

كل سنة آخذ شتول الخضروات من أبي زهير مجاناً من دون مقابل. ساعدني الأمر كثيراً في التخفيف من تكاليف الزراعة وشجعني على العمل أكثر في مساحات أكبر

بدأ أبو زهير مشواره مع المبادرة قبل ست سنوات. في السنة الأولى وزّع 200 ألف شتلة، مع جلسات إرشادية للفلاحين، وتوصيتهم بأن يستبذروا من البذور اللي قدّمها لهم، فهي أصناف مستقرة وراثياً بحسب ما يقول.

في السنة الثانية، وصل الرقم إلى نصف مليون شتلة. وفي السنة الثالثة تجاوز المليون شتلة، والأرقام تزداد سنوياً، فقد وزع في السنة الماضية فقط مليوناً و750 ألف شتلة، من مختلف أنواع الخضروات (بندورة، باذنجان، فليفلة، بازلاء، وفاصولياء)، بالإضافة إلى أنه أدخل بذور الخضروات الشتوية (الخسّ والسلق والسبانخ والفجل)، ووزّع البذور بالإضافة إلى الشتول، وشمل التوزيع مناطق زراعيةً في أرياف إدلب، ويتجه نحو العمل مستقبلاً في منطقة عفرين شمال غرب حلب.

واقع زراعي مرّ... وفرص

لم يلاقِ المهندس عيد، صعوبةً في تعليم الناس على طرائق الزراعة وأساليبها، فمعظم من وزّع عليهم الشتول هم من الفلاحين ولديهم خبرة في الزراعة، ولكنه يقدّم لهم نصائح للعناية بها وإدارتها جيداً، مستخدماً خبرته الطويلة، ومستعيناً بزملائه من المهندسين الزراعيين في بعض الأحيان.

تنبع أهمية المبادرة بالنسبة لأبي زهير، من كونها خلقت فرص عمل جيدةً للفلاحين، تجعلهم قادرين على الاستمرار في الزراعة، وتأمين بدائل بذرية في بيئة الشمال الزراعية، عن طريق انتقاء أفضل الأصناف وأعلاها إنتاجيةً وأكثرها ملائمةً للظروف البيئية، بحيث يقدر الفلاح على الزراعة من دون استخدام مبيدات حشرية أو أي تكلفة أخرى، لأنها ملائمة للظروف البيئية.

ويعيش قرابة 4 ملايين ونصف المليون نسمة في مناطق شمال غرب سوريا، التي ينتشر فيها قرابة 1،400 مخيم عشوائي، يفتقد قاطنوها مختلف المساعدات الإنسانية التي تراجعت بنسبة كبيرة في السنوات الأخيرة، نتيجة خفض التمويل من قبل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، واستمرار الابتزاز الروسي الذي يهدف إلى إيقاف وصول المساعدات الإنسانية إلى مناطق الشمال عبر معبر باب الهوى الحدودي، ودخولها عبر خطوط التماس قادمةً من مناطق النظام إلى مناطق المعارضة.

وأدى ارتفاع أسعار البذور والأسمدة والمبيدات الحشرية وتكاليف السقاية الكبيرة، إلى انتشار البطالة والفقر بين الفلاحين، فقد ترك عدد كبير منهم أراضيهم بوراً من دون زراعة خشية الخسارة، ناهيك عن المساحات الواسعة التي خسروها، نتيجة التهجير، كما أن قسماً كبيراً منهم قد سكن في المخيمات. وهذه كلها أسباب ساهمت في تراجع القطاع الزراعي في شمال غرب سوريا، وعزوف عدد كبير من الفلاحين عن مهنة الزراعة واعتمادهم على المساعدات الإنسانية الشحيحة.

يعيش أبو زهير في خيمة تلفها الورود والشتول، لا يملك مورداً مادياً، سوى ما يرسله إليه أولاده المغتربين، يوفر بعضها، لزراعة الشتول واستبذار البذور منها، وتوزيعها على الفلاحين الأشد ضعفاً

وكان قطاع الزراعة قد تعرض لخسارة كبيرة طوال سنوات الحرب في سوريا، كما انحسرت المساحات الصالحة للزراعة لصالح قوات النظام، بعد حملته العسكرية الأخيرة على المنطقة في أواخر عام 2019، كما أن أغلب المخيمات العشوائية التي تم بناؤها قد بُنيت في الأراضي الزراعية التي تتقلص أساساً نتيجة المد العمراني، ناهيك عن ارتفاع كلفات الزراعة وقرب الأراضي من خطوط التماس، وهذا كله ساهم في ترك عدد كبير من الفلاحين مهنة الزراعة، واتجاههم إلى مهن أخرى أو السفر خارج سوريا بداعي العمل.

رواج واستحسان

لاقت مبادرة أبي زهير رواجاً واستحساناً من فلاحي المنطقة المقيمين والمهجرين على حد سواء، فهي تخفف عنهم تكاليف الزراعة. وبنصائح أبي زهير ورفاقه من المهندسين والفنيين الزراعيين، استطاعوا العودة إلى مهنتهم أو التشجيع على عدم تركها، الأمر الذي ساهم في تحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي لهم، وفي خلق فرص عمل تساهم في الحد من انتشار البطالة في المنطقة.

فقد استجلب المزارع عمار رجب الأحمد، من قرية مورين غرب إدلب، 30 ألف شتلة من أبي زهير على مدار السنوات الماضية. يقول: "كل سنة آخذ شتول الخضروات من أبي زهير مجاناً من دون مقابل، وهي شتول ذات جودة صنفية جيدة (بندورة وباذنجان وفليفلة على أنواعها... إلخ). ساعدني الأمر كثيراً في التخفيف من تكاليف الزراعة وشجعني على العمل أكثر في مساحات أكبر، مع نصائح جيدة في إدارة المشاتل والأراضي التي نزرعها".


من جهته، عبَّر المزارع أحمد سعيد العبود، عن سعادته بمبادرة أبي زهير، فقد ساهمت مبادرته في تزويد مدينة سرمين شرق إدلب، بكميات كبيرة من الشتول، فالمدينة بحسب أحمد قريبة من خطوط التماس مع قوات النظام المتواجدة في مدينة سراقب، ويعيش أهاليها بالحد الأدنى وسط غياب المساعدات الإنسانية، فأكثر من نصف مزارعي المدينة استجلبوا الشتول والبذور المجانية من أبي زهير، ويستقبلونه بشكل متكرر لأخذ النصائح والإرشادات التقنية من أجل تحسين عمليات الزرع والسقاية، لتحسين الأصناف المزروعة وزيادة كميات الإنتاج.

جيدة لكن خجولة ومحصورة

يرى المهندس الزراعي موسى البكر، في حديثه إلى رصيف22، أن المبادرات التنموية في قطاع الزراعة جيدة، ولكنها خجولة ومحددة في قطاعات معينة، فقد نبّه إلى أن "المساحات الصالحة للزراعة في المنطقة ضيقة جداً، وزراعتها بمحصول واحد على مدار العام لن يحقق الاكتفاء الذاتي، ومن الضروري زراعة الأرض بأكثر من محصول مع التنويع لاستغلال المساحات الصغيرة في زيادة الإنتاج وتحسين الواقع الزراعي".

ويرى البكر أنه من الممكن أن يتطور القطاع الزراعي مستقبلاً في شمال غرب سوريا من خلال إدخال أصناف جيدة وزراعات جديدة واستخدام تقنيات حديثة في الزراعة، للوصول إلى الاكتفاء الذاتي وعدم الاعتماد على الاستيراد بأسعار عالية ترهق الناس.

جديد بالذكر أن أبو زهير يعيش في خيمة تلفها الورود والشتول من كل جانب، يقضي معظم أوقاته في العناية بمزروعاته، لا يملك مورداً مادياً، سوى ما يرسله إليه أولاده المغتربين من حوالات مالية، يوفر بعضها، لزراعة الشتول واستبذار البذور منها، ومن ثم توزيعها على الفلاحين الأشد ضعفاً، ويوصيهم باستبذار البذور من المزروعات التي يزرعونها، من أجل المحافظة على الجودة الصنفية وعدم التكلفة الزائدة، بشرائها في كل عام. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما أحوجنا اليوم إلى الثقافة البيئية

نفخر بكوننا من المؤسّسات العربية القليلة الرائدة في ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺇﺫﻛﺎﺀ ﺍﻟﻮﻋﻲ البيئيّ. وبالرغم من البلادة التي قد تُشعرنا فيها القضايا المناخيّة، لكنّنا في رصيف22 مصرّون على التحدث عنها. فنحن ببساطةٍ نطمح إلى غدٍ أفضل. فلا مستقبل لنا ولمنطقتنا العربية إذا اجتاحها كابوس الأرض اليباب، وصارت جدباء لا ماء فيها ولا خضرة.

Website by WhiteBeard
Popup Image