شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
دراما رضا بهلوي... نسخة إيرانية من بدايات الطغاة ونهاياتهم

دراما رضا بهلوي... نسخة إيرانية من بدايات الطغاة ونهاياتهم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الخميس 8 يونيو 202311:06 ص

على هامش ملف "الطريق إلى إيران" في رصيف22.


حتى لو انتهت مصادفة ما، أو ما يبدو مصادفة، بتحولات كبرى، فلا مصادفات في التاريخ. يقول المثّل المصري: "كل برغوت على قدّ دمه"، ودماء البراغيث عزيزة. وكل ديكتاتور على قدر إمكانات بلده الديموغرافية والجغرافية والإستراتيجية. هكذا كان مؤسس أسرة بهلوي نسخة إيرانية، غير مزيدة غير منقّحة، من أسلاف في الشرق والغرب، اختارتهم لحظة خاصة لصعود حاسم. "لو" اختلفت اللحظة لتغيرت المصائر. صعدوا ثمرة فراغ سياسي واضطرابات، عقب هزيمة عسكرية، أو صراع قوى ما بعد ثورة، وفي الأفق يمتد الطريق إلى مسرح ينتظر مخلِّصاً، يكون حلًّا ثم يصير مشكلة. لولا الظرف التاريخي لما كان رضا شاه بهلوي، وإنما المواطن رضا خان.


بعد مرور اثني عشر عاماً على بداية حكم رضا شاه، استحسن الديوان الملكي في مصر مشروع زواج يمدّ جسراً بين قطبي العالم الإسلامي، السني والشيعي. لم يستمر طويلاً زواج ولي العهد محمد رضا بهلوي بالأميرة فوزية أخت الملك فاروق. الأسباب شخصية تخص الأميرة التي لم تنسجم في الأجواء الإيرانية. وكانت أم العروس، الملكة الأم نازلي، تعارض الزواج، وتجادل بأن سليلة الأسرة العلوية لا يليق بها الزواج من ابن عائلة أدنى، ولو وليّاً للعهد. فالأميرة فوزية جدها لأبيها هو الخديو إسماعيل، وجدها لأمها هو سليمان باشا الفرنساوي مؤسس جيش محمد علي. عائلة مالكة تأسست عام 1805 تعاير أسرة حديثة العهد بالمُلك.

حتى لو انتهت مصادفة ما، أو ما يبدو مصادفة، بتحولات كبرى، فلا مصادفات في التاريخ. يقول المثّل المصري: "كل برغوت على قدّ دمه"، ودماء البراغيث عزيزة. وكل ديكتاتور على قدر إمكانات بلده الديموغرافية والجغرافية والإستراتيجية.

تقادُم العهد بالحكم ربما أنسى الملكة نازلي، أرملة الملك فؤاد، أن جدها محمد علي كان تاجر دخان. أتى محمد علي الأميّ قائداً لقوة عسكرية تركية، في أجواء اضطرابات ما بعد خروج جيش الاحتلال الفرنسي. وفي سن السادسة والثلاثين تمكن من إقناع القوى الوطنية بجدارته بالحكم؛ فاختاروه ليكون أول والٍ تركي تفرضه إرادة المصريين. كانت التجربة السياسية الميدانية تنقصه، فأسعفه الدهاء. أما رضا خان فحكم في سن السابعة والأربعين، بعد تجارب في الوزارة أتاحت له الاقتراب من آخر ملوك السلالة القاجارية. محمد علي دخل مصر قائداً عسكرياً، وقام بانقلاب نابليوني. على العكس من رضا خان الذي بدأ حارساً، وقاد انقلاباً خشناً.

مصر وإيران كفتا ميزان، بينهما تكافؤ وصراع لا ينتهي. تقوى مصر، فتحرص على أن تصل تخومها الآمنة حتى نهر الفرات في عصر الإمبراطورية (1567 ـ 1200 قبل الميلاد). وتضعف فيغزوها الملك الفارسي قمبيز الثاني عام 525 قبل الميلاد. وبينهما اختلافات، منها ثبات اسم مصر مهما تتواصل الاحتلالات العسكرية. تتحول من ولاية، إلى حكم خديوي، إلى سلطنة، إلى مملكة، إلى جمهورية. كلها عناوين أو واجهات لكيان سياسي اسمه مصر. أما اسم فارس فتغير عام 1935 إلى إيران، بقرار رضا شاه بطل قفزة صعود "تشبه القصص الخيالية ولا يمكن أن تتحقق إلا في دول الشرق فقط"، كما وصفها محمد أسد (ليوبولد فايس).

ارتقاء قائد حرس الإسطبل الملكي عرشَ الطاووس هو الدراما. لو وقعت قبل عصر التدوين لدخلت نسيج ألف ليلة وليلة. وقد شهد محمد أسد فصلها الأخير، ووثقه في كتابه "الطريق إلى مكة" الذي ترجمه الدكتور رفعت السيد علي. في أي شيء فكر جندي الحراسة أمام باب السفارة الألمانية، وهو يتلقى الإهانات؟ يقول أسد إن رضا، الذي تعلم القراءة والكتابة عام 1921، لم يتأثر بصفات "مثل ابن الكلب... كان يدرك ويوقن أنه ليس ابن كلب، بل ابن أمة عظيمة أنجبت عظماء مثل رستم، وداريوس، وأنوشروان". بدأت التحولات الدرامية بشجاعة "الرقيب" الأمي، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، في قمع تمرد شيوعي تدعمه روسيا.

في التاريخ لاعبون أساسيون، يحكمون من مواقعهم في الظل، يحكمون الحكّام، ولا يستهويهم الظهور على المسرح. 

بطولة رضا سحرت الجنود الإيرانيين، فصعد نجمه قائداً ميدانياً أغرى قوة أخرى بالانضمام إليه. وتمت ترقيته إلى رتبة "نقيب"، وتوالت ترقياته حتى أصبح قائد لواء. وفي عام 1921 دبر انقلاب قصر محكماً، وأجبر الملك أحمد شاه القاجاري، ضعيف الشخصية، على تعيين مجلس وزراء جديد تولى فيه وزارة الحرب. واختفى رئيس الوزراء، وحل مكانه رضا خان الذي رآه المؤلف الرحالة محمد أسد، في صيف 1924، "ديكتاتور إيران بلا منازع". لا تتسع القمة لاثنين على طرفي نقيض، قائد طموح وملك ضعيف. لا بدّ أن يتخلص أحدهما من الآخر. رضا نصح الملك برحلة ترفيهية إلى أوروبا، ونظم له وداعاً مهيباً، وأغلق الصفحة القاجارية.

تبنى رضا شاه لقب "بَهْلَوي" الذي يحيل إلى القومية الفارسية قبل الإسلام، افتتاناً بمصطفى كمال الذي منح نفسه لقب "أتاتورك"، ليصير أبا للأتراك في فترة انكسار تستدعي الاعتزاز الوطني. صعود رضا شاه دعمته القوى الكبرى، بريطانيا تحديداً.

وفي التاريخ لاعبون أساسيون، يحكمون من مواقعهم في الظل، يحكمون الحكّام، ولا يستهويهم الظهور على المسرح. أجبر الملك إدوارد على التنازل عن الملك؛ لتعاطفه مع الزعيم النازي أدولف هتلر، ولا يعدم المخرج أن يغلف عملية الإبعاد بقصة حب. والرعاة، في الوقت الحاسم، ينزعون الرضا عن الطغاة. تعاطف الشاه مع هتلر، فانتهكوا سيادة إيران، وأجبروا الشاه عام 1941 على التنازل عن العرش لابنه محمد.

مصر وإيران كفّتا ميزان، بينهما تكافؤ وصراع لا ينتهي. تقوى مصر، فتحرص على أن تصل تخومها الآمنة حتى نهر الفرات في عصر الإمبراطورية (1567 ـ 1200 قبل الميلاد). وتضعف فيغزوها الملك الفارسي قمبيز الثاني عام 525 قبل الميلاد

لا تنتهي الدراما بنفيه إلى جنوب إفريقيا، وموته بها عام 1944. هناك خيط ممتد من عام 1939، من مسجد "الرفاعي" بالقاهرة، وفيه عُقدَ قران الأميرة فوزية ومحمد رضا بهلوي الذي سيدفن، عام 1980، في هذا المسجد. وسبق لمسجد الرفاعي إيواء جثمان رضا شاه، ثم نقلَه ابنه الشاه الأخير محمد رضا بهلوي إلى إيران. والآن لا يُعرف لرضا شاه بهلَوي قبر. حتى فرانكو أوفر حظاً، ففي عام 2019 قررت الحكومة الإسبانية نقل رفاته من مقبرة الدولة، التي دفن فيها عام 1975، إلى مقبرة عائلية بعيدة، وتحويل مجمع مقبرة الدولة إلى نصب تذكاري لنصف مليون مواطن ضحايا الحرب الأهلية التي أشعلها فرانكو.


يظل الزعيم السوفياتي ستالين حالة استثنائية. نجا من مصائر كارثية لطغاة ضنت عليهم الأرض بقبر. من الكبار (هتلر وموسوليني) ومن الصغار (رضا شاه والقذافي). شاهدتُ، عام 2019، فيلم "جنازة رسمية" للمخرج الأوكراني سيرجي لوزنيتسا. ساعتان من الصمت الخالي من الملل، لا شيء يحدث إلا مشاهد من جنازة الرجل الحديدي. لقطات أرشيفية اختارها المخرج بذكاء، لرسم جدارية لسيكولوجيا شعب يودع الزعيم بالنحيب والورود، ويخلّده برسم اللوحات والتماثيل. نجح الإرهاب والآلة الدعائية في تأليه رجل حكم ثلاثين سنة. عرض الجثمان بجوار جثمان لينين، وفي عام 1961 حرموه من هذا الشرف، وأبعدوه بالدفن في مقبرة خلفية، ضمن حملة خروتشوف لإزالة آثار حقبة ستالين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image