شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
غربتي و

غربتي و"فان رقم 4" واللا مبالاة

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الاثنين 5 يونيو 202301:26 م

مرّ أكثر من عام ونصف على مغادرتي مطار بيروت متجهاً نحو مدينة لم يكن يخطر ببالي أن أعيش فيها أكثر من أسبوع سابقاً. الانتقال والمكوث حيث أنا اليوم، لم يُخطط لهما أبداً، ولكن ها أنا أعيش يومياتي بعيداً عن عائلتي، أصدقائي، قهوة "أبو عساف"، ووطني.

هل أنا حزين؟

الجواب كلا.

وهل أنا بخير؟

نعم، لكن جُل ما يؤرقني هو سؤال في رأسي لا ينفك يُرمى أمامي كل صباح كإشكالية يجب أن أجد لها جواباً، وهو: لماذا لم يُصِبني الحنين؟ فهل أنا بارد أو جاحد فضلاً عن عدد كبير من المواصفات التي يمكنني أن أقول بصراحة إنها ليس أبرز مساوئي؟

هنا كان لا بد أن ألجأ إلى خبرات من سبقونا إلى عالم الاغتراب، وما تناقلته الأجيال عن أسطورة الحنين الذي يثقل كاهلك، فأعددت قهوتي الصباحية وتوجهت وحاسوبي إلى النافذة، حيث كان الجو ماطراً وجعلت فيروز تصدح في أرجاء الغرفة عبر موقع يوتيوب: "ساعة ونصف لأجمل ما غنّت فيروز".

ولكن وقع ما لم يكن في الحسبان، وهو اللا شيء. فيروز والصباح و"يا لبنان بحبك"، ولا شيء؟ نعم لا شيء هو كل ما أصابني، برغم الذكريات التي أجبرت نفسي على استحضارها والتي لم تكن إلا جميلة وأسعدتني من دون أن يعكر مزاجي الحنين، فحاولت أن أستخدم الورقة الأقوى وسماع مارسيل خليفة، فكان الشعور نفسه: اللا شيء.

كان الأمر مبرراً كوني لست من الذين يستهوون مارسيل خليفة، فقلت ربما هو السبب ولكن كيف؟ جميع من سبقونا إلى الاغتراب كانوا يصفون لنا كمية الدموع التي تنهمر والتي تعادل بحسب المصادر ليترين ونصف من الدموع على أقل تقدير. وهنا كانت صدمتي المعرفية: "إذاً، إما أنا مريض أو من سبقونا قد كذبوا علينا!"، وأخبرونا بـ"كليشيهات" كتلك التي يقولون فيها إنه "لا يوجد بلد أجمل من لبنان"، ولكن هل سبق أن فتحت على محرك غوغل: "مناظر جميلة حول العالم"؟ صدّقوني ستندهشون.

ماذا أقول؟ "فان رقم 4" برأيي يجب أن يُصنّف ضمن معالم وطننا لبنان، لا بل من دون مبالغة، أُفضّل أن يقولوا عن لبنان "بلد الفان رقم 4"، على القول إنه "البلد الذي تتعانق فيه الكنيسة والمسجد"

وبعد أخذ ورد اقتنعت حينها بأنني لن أجد الإجابة المناسبة لإشكاليتي، فقررت أن أكمل يومياتي من دون أن أشغل نفسي بسؤال لا جواب له، أقلّه في الوقت الحالي. نعم أنا من الذين يهربون من المشكلات بهذه الطريقة، ولكن ما هي سوى أشهر، حتى فرحت كثيراً عندما أصابني شعور، يشبه الحنين، وأخيراً.

متى وكيف؟

كنت في الشارع، وإذ بفان من نوع "سانغ يونغ" أبيض اللون، يظهر أمامي لأول مرة في هذه المدينة. نظرت إليه بابتسامة عريضة، وكأني رأيت شخصاً يعنيني وتأملته بشوق، نعم إنه شبيه "فان رقم 4"، للمواصلات العامة الذي كان يقلّني من الضاحية الجنوبية لبيروت حيث كنت أعيش إلى عملي الواقع في منطقة الحمرا. تلك الفترة كانت جميلةً جداً في حياتي. كانت مثمرةً ومتنوعةً. أصبحت أعرف أغلب السائقين، وكنا نتبادل السجائر في طريقنا إلى الحمرا، وأحياناً نشتري لبعضنا القهوة في علاقة ودّ لن تجدها كثيراً بين سائق وراكب وسيلة نقل عامة، ولكن ماذا أقول؟ "فان رقم 4" برأيي يجب أن يُصنّف ضمن معالم وطننا لبنان، لا بل من دون مبالغة، أُفضّل أن يقولوا عن لبنان "بلد الفان رقم 4"، على القول إنه "البلد الذي تتعانق فيه الكنيسة والمسجد"، لأن تلك العبارة فيزيائياً مستحيلة وبصيغة الاستعارة هي ليست في مكانها، حيث أن المكان الذي يوحّد جميع الطوائف وعلى أنغام "نعيم الشيخ"، هو فقط "فان رقم 4".

نعم لقد ابتسمت، وفرحت كثيراً لرؤية هذا المشهد، وأصابني ما يشبه الحنين، لكن بدل الدموع كانت الابتسامة العريضة، وهذا أمر جميل، والجدير بالذكر هو تيقّني من أن حالتي بالحد الأدنى ليست مرضيةً، ومن ثم سألت نفسي مجدداً: لماذا لم يصبني الحنين الموصوف من قبل من سبقوني؟

في هذه اللحظة، وبعد أن عجزت عن تفسير تلك الظاهرة، تبادر إلى ذهني الاتصال بأحد الأشخاص الذين أثق برأيهم في ما يتعلق بالصحة النفسية، وسألت عن هذه الحالة، فكانت من ضمن الاحتمالات دراسة تشير إلى أن الإنسان بعد تخطّيه الثلاثين من عمره يترفع لديه شعور بعدم الاهتمام وتحديداً بحسب الدراسة، فإن الإنسان في هذه الحالة يكون تحت تأثير ما بعرف بالإنكليزي بـ: I don’t give a fuck.

شعور مرعب بألا تكترث، وأن تكتشف أن شعور الانتماء الذي قرأت عنه كثيراً في المدرسة، لم يعد يعنيك بأي شكل من الأشكال، والأصعب عندما تجد أنك مستعد للترحال من المدينة الجديدة إلى أي مكان آخر.

لا شك في أن نتائج الدراسة تنطبق على أغلب مشاعري تجاه كثير من الأمور في حياتي اليومية، وهو ما حولني أنا الشخص العصبي في العشرينات من عمري، إلى بارد ومستفز في الثلاثينات، فقررت أن أتعامل مع الأزمة بنضج يناسب عمري، وأن أسأل نفسي سؤالاً كان ضرورياً: هل أنا أبغض لبنان، ولذلك يغيب عني الحنين؟ في الحقيقة الجواب كان مفاجئاً، فأنا لا أبغض بلدي. قد يكون الأمر لأن سفري كان طوعياً ولم أنسلخ مجبراً، ولكن اللافت في إطار بحثي عن الموضوع اكتشافي أنني لم أحب هذه المدينة الجديدة كثيراً كما يجب، ولم أتعايش معها.

شعور مرعب بألا تكترث، وأن تكتشف أن شعور الانتماء الذي قرأت عنه كثيراً في المدرسة، لم يعد يعنيك بأي شكل من الأشكال، والأصعب عندما تجد أنك مستعد للترحال من المدينة الجديدة إلى أي مكان آخر.

المشكلة الحقيقية تظهر عندما تكتشف أن لا حاجة إلى الحنين إلى الأماكن، وإنما في رحلة الحياة المهنية تكون أبعد ما يمكن عن المشاعر المقيّدة، وتكون أمام صراع الطموح ومعالجة نفسك من الصعود والهبوط المهنيين المستمرين اللذين لن ينتهيا، عندها ستنشغل عن كل شيء؛ عن نفسك وعائلتك وأصدقائك وحتى عن الوطن، حيث الحنين موجود ولكن بصورة مختلفة، فيها ابتسامة أكثر بكثير من الدموع وهذا قد يكون أصعب بكثير من الحزن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard