شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"أمشي في لندن وأفكر في أن كُل شيء على ما يرام إلا نحن"

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 28 مارس 202312:36 م

تنتهي الرواية اللبنانية عند المهاجر عند حدود مطار بيروت الدولي. يدنو نحو نقطة الأمن العام، ويبتعد عن الأهل الباكين، مذكّراً نفسه بأنه وصل إلى المطار بأعجوبة أصلاً، لأن طرقات بيروت ليلاً لم تعد آمنةً أبداً.

يتّجه المسافر نحو محطات شركات الطيران حيث يودّع "الشرق المظلم"، بحثاً عن مستقبلٍ أوضح. ولكن، في أدب الهجرة اللبنانية المستحدث بفعل الموجة العاتية من هرب جيل الشباب واللجوء إلى الهجرة، قليلةٌ هي المقالات التي تصف رحلة هذا "المحظوظ" بعد نقطة الأمن العام، بعد انفصاله عن عالم المطار الكئيب الذي يذكّر ببواخر الحرب العالمية، التي نراها في الأفلام، حيث النساء تودّع الرجال-الجنود الذاهبين إلى الحرب.

قبل فترة، صرّح النائب طوني فرنجية، ابن المرشّح الرئاسي سليمان فرنجية، في مقابلة مع الصحافي جاد غصن، بأن "لا حاجة للدولة اللبنانية للعمل على تصدير المحاصيل، نحن نصدّر الأدمغة والشباب، فالشاب المهندس المغترب الواحد يرسل لأهله سنوياً ربح محصول كامل من البندورة".

طوني وريث السياسة، ليس مهندساً مغترباً، ولا مزارع بندورة. هو يصدّر أفكاره عن هجرة الشباب اللبناني الذي بسبب أمثاله، لم يعد له مكان في لبنان. فنحن مجرد سلعة من سلع هذه الزمرة الحاكمة، ندرس ونعمل ونرسل المال، كي يهندسها رياض سلامة وشركاؤه ممن يملكون الآن شققاً وعقارات فارهةً، اشتروها من أموالنا المنهوبة، كي نعيش نحن في شقق مستأجرة مساحتها 25 متراً مربعاً.

سأخبركم عن الحياة خارج بيروت، وعن الدولارات التي تُغني عن موسم البندورة. مرحباً بكم في عالم الهجرة، حيث المشاعر والانتماء والجذور هي اللعنة الكبرى.

نحن سلعة، روبوتات بلا مشاعر، على الأقل بالنسبة إلى طوني وأبيه، ورفاقهم في الحكم. إن كنتم لا تعرفون، سأخبركم عن الحياة خارج بيروت، وعن الدولارات التي تُغني عن موسم البندورة. مرحباً بكم في عالم الهجرة، حيث المشاعر والانتماء والجذور هي اللعنة الكبرى.

على متن الطائرة المتّجهة إلى لندن، ألتقي بفتاة تدرس في المدرسة في ولاية كاليفورنيا، لم تبلغ الثامنة عشر، تقول إنها تريد العودة إلى لبنان عندما تنهي دراستها الجامعية. فأقول لها بكل برودة: "لن يحصل". مع أن كلماتي تُعدّ قاسيةً على أحلامها، لكن فلنكن واقعيين: من المجنون الذي سيعود إلى لبنان في هذا الوضع؟

لندن، مثل العديد من مدن العالم الكبرى، عالم سريع بحد ذاته، جنسيات كثيرة مختلفة، لغات وأعراق وسياح من كل أصقاع العالم، لست فيها سوى رقم يركب القطار صباحاً، يشرب القهوة وقت الفراغ، يسعد لسماع الغرباء بتحدّثون بلغة تفهمها، لتشعر بأنّك لست بالغرابة التي تظنّها. هنا كل شيء يذكّرني ببيروت. المقارنة سيّدة الموقف، بدءاً من المباني والشوارع، وصولاً إلى البنوك وعلاقتنا بها. صعبٌ أن تنسى حبّك الأوّل؛ كل ما يأتي بعده يبقى مرتبطاً به، إمّا أفضل، أو أسوأ، ولكن النسبة دائماً إليه. صعبٌ أن تترك نفسك، ما كنت عليه، علاقاتك اليومية، إنجازاتك ومركزك الذي حققت، والوجوه اليومية التي تعرفها وتألفها في الحمرا، لتسكن المكان الذي ستكون فيه لا شيء، أو في الكثير لاجئاً، مهاجراً، وغريباً.

في عطلة الميلاد نعود إلى لبنان؛ الوضع أسوأ، الدولار أعلى والأسعار لم تعد منطقيةً أبداً. تصبح المقارنة مقلوبةً، الشوارع معتمة أكثر مما كنت أعرف، أو ربّما لأنني تعودّت على الضوء، صرت أرى الأمور أعتم. نجتمع كلّنا في بيروت، رفاق الجامعة الذين كنت أراهم يومياً في شارع الحمرا. صار اجتماعنا يحتاج إلى عطلٍ مسبقة يوافق عليها أرباب العمل، وإلى تذاكر سفر من السعودية، ودبي وإسبانيا وغيرها. تعمّ وتضج بيروت بنا في العطل، ثمّ تعود إلى فراغها عندما نعود إلى غربتنا.

في لندن، أحاول أن أخلق الأحاديث مع الأجانب، فأحدّثهم عن الانهيار الاقتصادي في لبنان، وأشرح كيف صارت أموالنا عالقةً في البنوك. هي أرقام على الشاشات لا تتحول إلى نقد، وإن تحوّلت، تخسر تسعين في المئة من قيمتها. وللمفارقة، الأجانب بغالبيتهم لا يعرفون بوجودنا أو بأزمتنا، ولا يتخيّلون هذا السيناريو الغريب؛ السطو على أمولنا بهذه الوقاحة، فيسألون مئات الأسئلة، ويدخلون في دوّامة استحالة حصول موقفٍ كهذا، فأضحك على حالنا. مضحكٌ هو ما يجري في لبنان إذا شاهدناه من بعيد.

العالم يجري بسرعة نحو التطوّر، وما زلت عالقةً في محاولة شرح كيف أننا حللنا مشكلة انقطاع الكهرباء بالألواح الشمسية. أبحث هنا عمّن يشبهني، عمن يفهم حجم التروما التي حملتها معي، عمن يفهم أن صوت تدريبات الجيش هنا يذكّرني بطائرات الاستطلاع الإسرائيلية، وعمن يفهم أنني أخزّن الخبز في الثلاجة لأنه سينقطع في أي لحظة. وللمفارقة، لم أكوّن صداقةً إلّا مع العرب من فلسطين والعراق وسوريا والإيرانيين المعارضين، فهم وحدهم من يفهمون القصص اللبنانية ويروون قصصاً مشابهةً بلغةٍ نفهم زواريبها.

أعدّ الأيام لتتحقق معجزة تجعل من بلدي مكاناً آمناً أرجع إليه، أعمل فيه ولأجله، مكاناً فيه أحب وأكوّن عائلة، مكاناً أستمع فيه إلى قصص أبي اليومية، لا إلى مجرّد ذكريات تأكل ما تبقّى فيّ من مشاعر انتماء

هكذا هي حياتنا نحن المغتربين، كالمرض المستعصي، نفكّر في بيروت حيثما أدرنا وجهنا، نلعنها عندما نعود إليها، ونشتاقها عندما نرحل. هي أحلى العلاقات السامة، أحلى علاقة حب وكره، حيث نختنق بالذكريات، وبأن الحياة تسير دوننا، وأن الدولار يرتفع وينخفض، نعيم يصنع القهوة في شارع بليس، النساء يركضن على عين المريسة مساءً، وأمي تحتسي القهوة مع جيرانها صباحاً. كل شيء على ما يرام، إلّا نحن، أو على الأقل هذا ما نتخيّله. يحسدنا من نعرف في بيروت على الحياة المرفّهة التي يتخيّلون أننا نعيشها: "خذونا معكم"، يقولون. ونحن نحسدهم على عدم توفّر فرصة تسلخهم عن بيوتهم، ونقول في سرّنا: "اتركونا معكم".

أفكّر في العودة، في فكرة أن الوجود غير المرتبط بمنطقة الراحة، والأمان غير مبرر، وأن الحياة من دون العائلة والأصدقاء والحب لا قيمة لها. أعيد التفكير في شريط حياتي، وفي أنني لم أعرف حينما أخذت قرار الرحيل إلى بريطانيا أن ذلك سيكلّفني مشاعر من الضياع والوحدة. أفكّر في قوارب الموت؛ آخرها غرق وأنا هنا. هي الحياة بهذا الدهاء، كلّ منا يركض نحو مكانٍ يأويه، كل منا يركض من النار إلى الجنة كي يحلم بالعودة إلى حيث تعوّد العيش. واليوم أنا بتُّ أهرب من نفسي، من فكرة أنني ظننت أنني قوية، ثم بكيت لسماع تسجيلٍ بصوت أمي، تسألني فيه عن حالي: "أنا بخير"، وكيف لا أقولها كي أطمئنها؟ وأنا؟... من يطمئنني يا أمي؟

هي قصّة المهاجر من دول العرب المنكوبة، إلى دول الخليج أو أوروبا أو أمريكا، إلى كل أصقاع الأرض، هرباً من التاريخ والعار والفساد، هرباً من واقع مرير وأيامٍ كلها ليل، إلى الغربة الأمرّ، إلى عدّ الأيام والصلاة لمعجزة تجعل من بلدي مكاناً آمناً أرجع إليه، أعمل فيه ولأجله، مكاناً فيه أحب وأكوّن عائلة، مكاناً أستمع فيه إلى قصص أبي اليومية، لا إلى مجرّد ذكريات تأكل ما تبقّى فيّ من مشاعر انتماء وحبّ لأرضٍ ما أعطتني سوى الألم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image