"استشهد" نوري سيكالة، في منطقة الكرم الغربي، يوم 16 كانون الثاني/ يناير 2011، على إثر إصابته برصاصة على مستوى القلب إبان أحداث الثورة التونسية يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010، وعيّنت السلطة حينها أواخر 2011، مجموعةً من المحامين للدفاع عن عائلات شهداء الثورة وجرحاها، ومن بينهم قضية سيكالة"، تقول زوجته عربية جنايحي، لرصيف22.
كان قد مرّ على زواجهما حينها عامان اثنان وأربعة أشهر، ولم يرزقا بأطفال، وكان سيكالة يعمل في ذلك الوقت نجّاراً، بينما تعمل الآن عربية عاملة نظافة في مقر وزارة التعليم العالي التونسية.
"تولّى القضاء العسكري إلى حدود سنة 2016، النظر في القضايا المتهم فيها جنود من المؤسسة العسكرية، وفصل في بعضها، وأصدر أحكاماً نهائيةً وقضى بتعويضات مالية في بعضها الآخر، لبعض الضحايا ليتسلم بعدها القضاء الإداري ممثلاً في دوائر قضائية متخصصة في مسار العدالة الانتقالية كافة، بقية القضايا ومن بينها قضية نوري سيكالة"، تضيف عربية (46 سنةً).
ينص الفصل الثامن من القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013، المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية على "إحداث دوائر قضائية متخصصة بالمحاكم الابتدائية المنتصبة بمقارّ محاكم الاستئناف تتكون من قضاة يقع اختيارهم من بين من لم يشاركوا في محاكمات ذات صبغة سياسية ويتم تكوينهم تكويناً خصوصياً في مجال العدالة الانتقالية".
وفق الفصل نفسه، تتعهد الدوائر المذكورة، "بالنظر في القضايا المتعلقة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان على معنى الاتفاقيات الدولية المصادق عليها وعلى معنى أحكام هذا القانون".
ومن بين هذه الانتهاكات: "القتل العمد والاغتصاب وأي شكل من أشكال العنف الجنسي والتعذيب والاختفاء القسري والإعدام دون توفر ضمانات المحاكمة العادلة".
تعب وتساؤلات
توضح عربية جنايحي، أنه عندما كان القضاء العسكري هو من ينظر في القضايا، كان المتهمون يحضرون. وبتولي المحاكم الإدارية الأمر يرفض المتّهمون الحضور ومع طول فترات الترافع "حدث نقص في المحامين وتعبت عائلات الشهداء والجرحى من التأجيل المستمر من دون تقدّم يُذكَر حتى أن بعض أمهات الشهداء وآبائهم وأخواتهم ماتوا ولم يحصلوا على حقوقهم".
عندما كان القضاء العسكري هو من ينظر في القضايا، كان المتهمون يحضرون
انتشرت هذه الدوائر في 13 محكمةً في تونس، وكانت تضم 91 قاضياً، من بينهم 13 رئيس دائرة جنائية بالإضافة إلى 52 عضواً قاراً، وقد تمّ في ما بعد إلحاق 43 قاضياً آخرين بها.
بحسب تقرير صادر سنة 2021 عن منظمة "بوصلة"، فإن الدوائر القضائية المتخصّصة في العدالة الانتقالية نظرت منذ عام 2018، تاريخ انطلاق عملها، في 38 قضيةً من بين 173 ملفاً أحالتها عليها هيئة الحقيقة والكرامة، وقد بلغ عدد الضحايا 541 ضحيةً و687 متهماً.
و"بوصلة" هي منظمة غير حكومية مستقلة، من مهامها مراقبة العمل التشريعي والتنفيذي والمشاركة في الجهود من أجل التقدم الاجتماعي وتحرر المواطن.
وفق الفصل الـ16 من قانون العدالة الانتقالية: "تُحدَث هيئة مستقلة تسمى هيئة الحقيقة والكرامة تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري يكون مقرّها تونس العاصمة، ويمكن أن تعقد جلساتها في أي مكان داخل تراب الجمهورية".
نظرت العدالة الانتقالية منذ عام 2018، في 38 قضيةً من بين 173 ملفاً أحالتها عليها هيئة الحقيقة والكرامة
كما ينص الفصل الـ17 من القانون ذاته، على أن يغطّي عمل الهيئة "الفترة الممتدة من 1 تموز/ يوليو 1955 إلى حين صدور هذا القانون"، وقد انتهت أعمالها يوم 31 أيار/ مايو 2019، وسلّمت نسخاً من تقريرها النهائي للرئاسات الثلاث ونشرته على صفحتها الرسمية في آذار/ مارس 2019.
لا نتائج ولا أحكام
يشار إلى أن ممثل جمعية "محامون بلا حدود"، خيّام الشملي، أفاد في كانون الأول/ ديسمبر 2021، بأن الدوائر القضائية المتخصّصة في العدالة الانتقالية تنظر في مئتين وخمسة ملفات أحيلت إليها من طرف هيئة الحقيقة والكرامة، "وبأنّ الجلسات تُعقد منذ 2018 من دون إصدار أي نتيجة أو حكم".
تنتقد عربية جنايحي، بشدة ما تعرضت له عائلات شهداء الثورة وجرحاها طوال هذه الفترة، من "وجع وإهانة خلال جلسات المحاكمة من المتهمين الذي يستهزئون في إجاباتهم عن أسئلة القضاة، لقد توترت أعصابنا"، تؤكد.
"وجع وإهانة خلال جلسات المحاكمة من المتهمين الذي يستهزئون في إجاباتهم عن أسئلة القضاة، لقد توترت أعصابنا"
وبرأيها، فإن "كل الأطراف التي تداولت على ملف زوجها طوال 12 سنةً، تتاجر بالقضية برغم معرفة المتهمين ووجودهم فإنه لم يتم الفصل فيها"، لكنها وبرغم حالة التعب والإحباط التي تعيشها، لم تفقد الثقة بالحصول على حق زوجها الشهيد"، وفق تصريحها.
تشدد على أن "الدائرة القضائية المتخصصة التي تهتم بقضية زوجها لم تحرز أي تقدّم فيها منذ 12 عاماً وأن القضاء لم يعيّن ولو مرةً واحدةً جلسةً للنطق بالحكم. لقد تعبتُ من الذهاب إلى المحاكم والعودة منها ولكني لن أسلّم في حق زوجي حتى آخر رمق في عمري".
خمسة أعوام من دوائر "العدالة الانتقالية"
"نحيي يوم 29 أيار/ مايو 2023، الذكرى الخامسة لانطلاق عمل الدوائر القضائية المتخصصة في مسار العدالة الانتقالية، وكانت قضية الشهيد كمال المطماطي في محافظة قابس أولى القضايا التي نظرت فيها"، يقول كاتب عام الشبكة التونسية للعدالة الانتقالية الحسين بوشيبة، لرصيف22.
مات المطماطي، وهو سجين سياسي معارض، تحت التعذيب يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 1991، في عهد نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وما زالت عائلته تجهل إلى اليوم مكان دفنه.
وكانت هيئة "الحقيقة والكرامة"، قد أحالت ملف المطماطي الذي يشمل 14 متهماً في آذار/ مارس 2018، على هذه الدوائر كأول ملف يُعرَض عليها.
نجاح نسبي
عن مدى نجاح تجربة هذه الدوائر إلى الآن، يرى بوشيبة، في ما يتعلق بقضية المطماطي ومثيلاتها، أن "النجاح نسبي نظراً إلى تعقّد هذه القضايا في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ما يجعل آجال الترافع فيها معقولةً نسبياً"، مؤكداً التمسك بهذه الدوائر وبعملها ضمن معايير العدالة والإنصاف.
يضيف بوشيبة، أن تعطّل الفصل في القضايا كافة قبل الثورة وبعدها، يعود أيضاً إلى "تعقيداتها ولأنه تتم محاكمة رموز كبيرة من سنة 1955 حتى 2013، وتالياً ليس من السهل إنجازها وهناك إرادة وتقدّم وإن بخطى صغيرة".
من جهته، يرى رئيس اللجنة الوطنية لمناضلي اليسار مكرم حجري، أنه حسب النص القانوني يمكن القول إن تجربة الدوائر القضائية المتخصصة "رائدة"، غير أن الواقع الحالي مغاير تماماً "بما أن القضاة أصبحوا موظفين ووزارة الداخلية لا تنفذ بطاقات الجلب بحق المنسوب إليهم الانتهاك، ولذلك تعطلت أعمالها"، يقول لرصيف22.
أما الناشط الحقوقي المهتم بملف شهداء وجرحى الثورة عادل بن غازي، فيرى أن نجاح مسار العدالة الانتقالية في تونس مرتبط بنجاح مسار الثورة.
يقول لرصيف22، إن عمل الدوائر القضائية المتخصصة في مسار العدالة الانتقالية لم يكتمل بعد، "لذلك لا نستطيع الحكم بنجاح التجربة أو بفشلها، ولكن يمكن الحكم عليها بالبطء"، مؤكداً أن النجاح والفشل مرتبطان بالإرادة السياسية وباستقلالية القضاء "الذي يمكن عدّه حرّاً، ولكنه ما زال إلى الآن غير مستقل".
بالنظر إلى استمرار عمل هذه الدوائر منذ إحداثها إلى اليوم، وإلى التأجيل المتكرر والمتواصل لمختلف القضايا المعروضة أمامها، يتفق محدثو رصيف22، على وجود جملة من العراقيل وراء ذلك.
تعطيلات
يتحدث الحسين بوشيبة، عن تعطيلات "موضوعية" لعمل هذه الدوائر على رأسها الحركة القضائية السنوية بتغيير القضاة ونقلهم وما ينجرّ عنه من عدم الاستمرارية بالإضافة إلى جائحة كورونا خاصةً في ذروة انتشارها وتعليق عمل المحاكم وتعطل جلسات المحاكمات ناهيك بإضراب القضاة.
وأشار إلى ما تشهده غالبية القضايا من "رفض أو عدم حضور المتهمين جلسات المحاكمة مقابل حضور المشتكين يسبب تكرار تأجيل االقضايا، واستشهد في ذلك بإحدى القضايا التي يتابعها ويرفض أمنيٌّ متهم فيها الحضور وهو يزاول عمله الآن في أحد الأسلاك الأمنية".
كما شدد على دور الوضع الحالي القائم في تونس الذي "لا يشجع على نجاح كل القضايا في ظل الضغوط المسلطة على القضاة وعدم قيام المجلس الأعلى للقضاء منذ تنصيبه بأي شيء".
ويلفت بوشيبة، إلى أن هذه التعطيلات والإشكاليات ذات أبعاد متعددة ومختلفة ويقول إن أطرافاً عدة تتداخل فيها ولذلك "المسألة معقدة وتتأجل القضايا".
لا يختلف عنه رئيس اللجنة الوطنية لمناضلي اليسار مكرم حجري، الذي يرى أن السلطة السياسية في تونس على رأس أسباب تعطل عمل هذه الدوائر، بالإضافة إلى حركة نقل القضاة وتغييرهم أو مشاركتهم في دورات تكوينية.
وبيّن أن "آخر جلسات قضية الشهيد نبيل البركاتي، كانت يوم 12 أيار/ مايو 2023، وتأجلت مرةً أخرى بسبب تغيير القضاة برغم وجود قضاة جاهزين للحكم فيها".
ومات البركاتي أيضاً، وهو نقابي يساري معارض، تحت التعذيب خلال حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي يوم 8 أيار/ مايو 1987.
كما أشار إلى "الأوضاع غير المستقرة في المجالات كافة في تونس التي لها تأثير سلبي على عمل الدوائر، وإلى المتهمين الذين لا يحضرون جلسات المحاكمة وهم محميون من الدولة"، وفق تعبيره.
أما الناشط الحقوقي المهتم بملف جرحى الثورة عادل بن غازي، فيعزو تأخر الفصل في القضايا المعروضة على هذه الدوائر إلى "الإرادة السياسية خاصةً أن هذه الدوائر لم تجد إمكانيات وإن وُجدت الإرادة القضائية لذلك وجب رفع اليد عن القضاء لإنجاح المسار".
كما يعود هذا التأخر إلى "رفض الأمنيين المتهمين حضور الجلسات ما يستدعي وجوب مراجعة هذه النقطة وعلى السلطة السياسية أن تأخذ بزمام الأمور وتقدّم توجهاً واضحاً للدولة".
وبحسب بن غازي، فإن السؤال الرئيسي المطروح، والذي بحاجة إلى إجابة في هذه النقطة، هو "هل هناك ثورة وعدالة انتقالية أم لا بالأساس؟ وهل ستنجح كل هذه العراقيل والتحديات في إفشال مهمة الدوائر القضائية المتخصصة وتحول دون استكمال مسار العدالة الانتقالية في تونس بمحاسبة المتهمين وإرجاع الحقوق لأصحابها؟
"ما ضاع حق وراءه مطالب"
برأي كاتب عام الشبكة التونسية للعدالة الانتقالية، "ليس من الوارد تخلي السلطة عن هذه الدوائر أو قبرها برغم إمكانية استمرار طول عملها، وخير دليل على ذلك أن المكلف العام بنزاعات الدولة الذي يمثل الدولة يحضر جلسات المحاكمة ما يعني وجود إرادة للمواصلة إلى جانب تأكيد رئيس الجمهورية قيس سعيّد في خطاباته كافة عدم تدخله في القضاء".
وبشأن حديث محامين وعائلات ضحايا حول وجود تعطيلات كبيرة تحول دون الفصل النهائي في القضايا، يشير بوشيبة إلى وجود مسارات أخرى للتقاضي دولياً.
ويؤكد أنه "وكما في كل التجارب سيستكمل مسار العدالة الانتقالية في تونس نظراً إلى وجود حقائق وأناس يطالبون بها، وما ضاع حق وراءه مطالب، وإن طال الزمان أو قصر ستظهر الحقيقة".
في السياق ذاته، يشدد رئيس اللجنة الوطنية لمناضلي اليسار مكرم حجري، على أن ملفات العدالة الانتقالية في التجارب المقارنة كافة، لم يكن من السهل تطبيقها ورأى المسار في تونس "عادياً وحتى الصراع الحالي داخل المنظومة من مصلحة الديمقراطية والشعب"، وأكد "مواصلة النضال لتأسيس ديمقراطية حقيقية هي السبيل الوحيد للرقي بالمجتمع والبلاد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...