غابت مظاهر الاحتفال بذكرى الثورة التونسية، للمرة الأولى منذ 12 عاماً، تاريخ اندلاعها، وتزامنت هذا العام مع أكثر انتخابات تشريعية تشهد عزوفاً من طرف الناخبين عرفتها تونس الثورة حسب نتائج هيئة الانتخابات، مع مؤشرات سلبية اقتصادياً واجتماعياً وحتى سياسياً بعد احتدام الصراع بين الأحزاب السياسية ورئيس الجمهورية قيس سعيّد، في وقت تئن فيه البلاد تحت وطأة أزمات متتالية.
مؤشرات سلبية زادت من قلق التونسيين، ودفعت بعضهم للتشكيك في مدى نجاح الثورة التي يرون أنها أدخلت البلاد في دوامة من العنف ترجمتها الاغتيالات السياسية بالإضافة إلى تقسيم التونسيين، والانشغال بالصراع حول الحكم، إذ تعاقب على البلاد 5 رؤساء و13 حكومةً حتى اليوم، مع تصاعد المخاوف بخصوص القضاء على المسار الديمقراطي بسبب الإجراءات الاستثنائية، بما فيها سنّ دستور جديد، التي اتخذها رئيس الجمهورية قيس سعيّد وكرّست العودة إلى حكم الفرد.
ترى تيارات أخرى أن البلاد على الطريق الصحيح، وأن الثورات في جميع دول العالم تعيش منعرجات ومنعطفات خطيرةً حتى تجد في النهاية الطريق السويّ الذي سيخرج البلاد إلى برّ الأمان بالرغم من الضبابية التي تسيطر على الوضع الحالي.
رسالة إلى قيس سعيّد
يبدو أن عزوف التونسيين عن الانتخابات ليس بمحض الصدفة، بل هو نتيجة الخذلان الذي تعرّضوا له منذ ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، إذ تناسلت الوعود وغابت النتائج على أرض الواقع، كما تمثّل رسالةً مضمونة الوصول إلى رئيس الجمهورية قيس سعيّد الذي يواصل صمّ أذنيه عن سماع الأصوات المنادية بضرورة الجلوس إلى طاولة الحوار.
دعت جبهة الخلاص المعارضة في مؤتمر صحافي، إلى ضرورة تخلي سعيّد عن الحكم بعد نتائج الانتخابات المحتشمة، كما طالبت بأن يتولى منصب رئيس الدولة قاضٍ من القضاة الكبار يكون مشهوداً له بالاستقامة والنزاهة لتسيير فترة انتقالية تُفضي إلى انتخابات رئاسية مبكرة وانتخاب رئيس جديد وتنظيم حوار وطني بعد انتخابات شارك فيها نحو 11 في المئة من المواطنين.
يعيش التونسيون حالةً من الإحباط واليأس وهو ما يترجمه الهروب الجماعي نحو الغرب عبر "قوارب الموت"، أو عن طريق مسالك بريّة أخرى تؤدي إلى الوجهة نفسها، إذ يؤكد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (منظمة حقوقية مستقلة)، ارتفاع أعداد المهاجرين التونسيين غير النظاميين بين تموز/ يوليو 2021، والشهر ذاته من العام الجاري 2022، إذ بلغ عدد الواصلين إلى أوروبا عبر مختلف الطرق أكثر من 20 ألف تونسي.
في ذكرى الثورة يعيش التونسيون حالةً من الإحباط واليأس وهو ما يترجمه الهروب الجماعي نحو الغرب أو التنكر لثورة الياسمين.... فهل هي المؤشرات على غضب أوسع؟
تشهد البلاد هذه الأيام أحلك فتراتها بسبب النقص الحاد في بعض المواد الأساسية وازدياد نسب التضخم، إذ أكدت وزارة المالية التونسية ارتفاع الدين العام إلى أكثر من 110 مليارات دينار، أي نحو 35.5 مليار دولار أمريكي، ما يشكل 80.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل 79.9 في المئة مسجلة في العام الماضي 2021.
يأتي ذلك في ظل عجز الحكومة عن إقناع صندوق النقد الدولي بالحصول على قرض، مع ضغوط داخلية وخارجية قد تؤدي إلى انفجار اجتماعي في أي لحظة ممكنة.
سنوات عجاف
يقول الناشط في المجتمع المدني محمد عروسي (43 عاماً)، إن الحياة في تونس باتت صعبةً، بسبب عدم توفر أبسط مقومات العيش الكريم، فالوضع العام ازداد تأزماً بعد الثورة ولم نرَ أي تغيير يُذكر.
يؤكد العروسي، أنه كان يعلّق آمالاً كبيرةً على هذه الثورة من أجل الدفع بالبلاد نحو الأفضل، لكن الوضع ازداد تأزماً وبات "مقرفاً وغير مقبول"، و"على جميع الحكومات التي تداولت على البلاد منذ 2011، تحمّل مسؤولياتها تجاه هذا الوطن الذي قدّم لهم كل شيء ليكونوا في مناصب الحكم والقرار"، يقول.
وكان البنك الدولي قد أقرّ في بيان له، بتباطؤ أداء الاقتصاد التونسي بعد ثورة 2011، مما أدى إلى ضياع عقد من النمو، تفاقم بسبب جائحة كورونا، التي ضربت البلاد في عام 2020. وانخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 1.7 في المئة في المتوسط بين عامي 2011 و2019. كما لوحظ حسب البيان نفسه، انخفاض كبير في نمو الإنتاجية نتيجة الاستخدام المفرط للوائح المنظّمة للنشاط الاقتصادي، وانخفاض التوجه التجاري، وتدني معدلات الاستثمار، فضلاً عن محدودية الابتكار.
ويعاني اقتصاد تونس من تصاعد المؤشرات السلبية، وضعف مؤشرات النمو، ما يزيد من حاجة البلاد إلى الديون الخارجية.
ويرى طارق المطماطي (40 عاماً)، أستاذ عاطل عن العمل، أن ما نعيشه اليوم في تونس يجعلنا نفكّر فعلياً في جدوى القيام بالثورة، بما أننا عدنا على أعقابنا ورجعنا إلى النقطة صفر بعودة الحكم الفردي، بالإضافة إلى عدم تحقيق أهداف الثورة القائمة على الشغل والكرامة الوطنية. وأضاف أن الثورة "عطّلت قطار التنمية وحرمت البلاد من قفزة نوعية كما حصل في بعض دول الجوار كالمغرب مثلاً". وأسترسل قائلاً: "في حال المواصلة على هذا النحو فإن هذه الثورة ستكون نكبةً في تاريخ تونس وليست خطوةً إلى الأمام".
حكم "سلطويّ"
يتخوف تونسيون من مغبة العودة إلى الوراء، والقضاء على الديمقراطية الناشئة في البلاد بعد التفاف رئيس الجمهورية على كل السلطات وتعيين موالين له في كل المناصب.
أمّا الرئيس قيس سعيّد، فقد طمأن في خطاب سابق له الشعب التونسي، قائلاً إنه لن يبدأ مرحلةً جديدةً في حياته "تقوم على الديكتاتورية"، مضيفاً: "لا خوف على حرية التعبير أو التنظيم، وما تم اتخاذه من إجراءات كان وفق الدستور وليس خارجه".
يواجه سعيّد، مع انهيار الاقتصاد التونسي ومع أزمة المالية العامة، في الوقت نفسه، احتمال تنامي الغضب الشعبي من ارتفاع معدلات التضخم والبطالة، وتراجع الخدمات العامة.
أما طارق الفازعي، (35 عاماً)، صاحب مقهى في العاصمة، فيملك رأياً سلبياً تجاه العشرية الأخيرة، إذ رأى في حديثه إلى رصيف22، أن الثورة "كذبة كبرى" صدّقها الفقراء واستمتع بها الأغنياء، إذ "غرق الفقير في فقره وزاد الغني من حصته، ولا يمكن الحديث عن ثورة في ظل غياب قائد لها وبرنامج واضح للتغيير، مضيفاً أنه لا يوجد أي فرق بين السابق والحاضر سوى في حرية التعبير".
يواجه سعيّد، مع انهيار الاقتصاد التونسي ومع أزمة المالية العامة، في الوقت نفسه، احتمال تنامي الغضب الشعبي من ارتفاع معدلات التضخم والبطالة، وتراجع الخدمات العامة
ويرى محدثنا أنه لا توجد أي بوادر للإصلاح، فالرئيس سعيّد، ومنذ ثلاث سنوات لم يقدّم شيئاً للشعب الذي ينتظر إجراءات تشمله من خلال جلب الاستثمارات وتوفير العيش الكريم وتوفير مواطن الشغل، بل إن سعيّد ذهب إلى تصفية خصومه وإعادة بناء نظام وفق تصوّراته.
"هناك أمل..."
بالرغم من المؤشرات السلبية والرسائل المحبطة التي قدمتها الحكومات التي مرّت على البلاد منذ الثورة، إلا أن هناك فئةً كبيرةً لا يزال لديها إيمان كبير بأنه في الإمكان الإصلاح لو توفرت الإرادة، وتحمّل كل طرف مسؤوليته تجاه هذا الوطن.
يقول خليل الغربي، (27 عاماً)، إن الثورة لا تزال قائمةً وإن إمكانية الإصلاح واردة، ومن يتحدثون عن النظام السابق هم من أعداء النجاح ولا يريدون لهذه الدولة أن تتقدم، مردفاً: "من ينظر إلى الخلف لا يمكنه الحديث عن المستقبل".
يشير الغربي إلى ضرورة دعم المسار الذي ينهجه قيس سعيّد حالياً، داعياً الأطراف السياسية في تونس إلى تغليب مصلحة البلاد على المصالح الشخصية لأجل النهوض بهذا الوطن وترك التجاذبات جانباً لأنها من مقومات الفشل.
ويذكِّر الغربي بأن الثورة سقط خلالها 129 "شهيداً" وأصيب 634 شخصاً، ويجب علينا احترام هؤلاء وأن نكون في مستوى التطلعات والناس التي ضحت بأرواحها من أجل الوطن.
الثورة أزالت عن البلاد مشكلةً كبيرةً بدحر نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي الذي ظل جاثما على صدورنا 23 عاماً
أما سهى البراهمي، وهي ممرضة في أحد المستشفيات، فترى أن الثورة أزالت عن البلاد مشكلةً كبيرةً بدحر نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وتقول: "بقي جاثماً على صدورنا لمدة 23 سنةً، عانى خلالها الشعب الويلات والظلم والقهر، أما اليوم فنحن بخير، هكذا بالرغم من الصعوبات الكبيرة التي نمر بها. الشعب يراقب اليوم ما سيحدث بعد تنصيب مجلس نواب الشعب".
وأضافت أن البلاد في الطريق الصحيح والثورة كانت فرصةً ذهبيةً لإعادة البناء والتجديد والقطع مع منظومة الفساد والمحسوبية والظلم والديكتاتورية.
فرصة تاريخية
المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي، أكد لرصيف22، أن التونسيين لم يدركوا حتى اليوم ماذا تعني الثورة، وما هي أهميتها في مسارهم التاريخي، وما يحصل حالياً هو محاولة لتفويت هذه الفرصة وتحويلها إلى نكسة أكثر من الاعتماد عليها لتحقيق تقدم نوعي في البلاد، مشيراً إلى أنه لا يمكن المقارنة أبداً بين زمنين، لأنه حتى قبل الثورة كانت هناك أزمة اقتصادية وسياسية، لكن كان هناك حد أدنى من التماسك في المجتمع وفي الدولة، أما اليوم فهناك سلسلة من المغالطات التي يعيش فيها التونسي وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً.
يؤكد الجورشي، أن السبب الرئيسي في الأزمة الحالية، هي النخبة التي لم تكن في مستوى معاني الثورة وأهميتها، والسبب الثاني هو غياب قيادة حقيقية واعية ولها رؤية وقدرة على تقدير التونسيين والدفع بهم إلى الأمام، ومع ذلك فإن هناك عناصر قوة يجب الاعتماد عليها للخروج من المأزق الراهن، فالقول إن البلاد وصلت إلى طريق مسدود هو نوع من تعميق جانب الإحباط لدى التونسيين. فكل شعب له مفاتيح وقدرة على إعادة بناء ذاته والمهم في ذلك هو اختيار الطرق السليمة.
المعارضة في تونس لم تصل بعد إلى مستوى التوحد والقدرة على أن تتحمل مسؤولياتها في حال استقال قيس سعيّد أو في حال إقالته
يضيف محدثنا، أن الأزمة الحالية ليست أزمة الرئيس قيس سعيّد فحسب، بل هي أزمة مشتركة، فنحن نعيش أزمة قيادة وأزمة معارضة وأخرى مجتمعية، وعلى هذه الأطراف أن تقرّ بأنها جزء من الأزمة وعليهم التفكير في المستقبل، وليس انتظار لحظة الانهيار الكامل، لأن ذلك لا يُعدّ عملاً تقدمياً أو إيجابياً.
يلاحظ المتحدث أن المعارضة في تونس لم تصل بعد إلى مستوى التوحد والقدرة على أن تتحمل مسؤولياتها في حال استقال قيس سعيّد أو في حال إقالته، وتالياً فإن المطالبة حالياً بعزل الرئيس قيس سعيّد لا تستقيم، مشيراً إلى أنه يجب التحضّر لهذه اللحظة بطرق أكثر جديةً، لتعويض هذا الانهيار، فإذا استعدّت المعارضة استعداداً جيداً وعلمياً، وكان لها برنامج ومقومات واضحة ستكون قادرةً على النهوض بالوضع الراهن وستكون في مستوى تطلعات التونسي، وإذا لم تتوفر هذه الخصائص فإن العملية ستكون عملية خروج من مأزق ودخول في مأزق آخر.
في الانتظار يظل مسار "ثورة الياسمين" مفتوحاً أمام كل الاحتمالات، ومهما كان النفق المظلم طويلاً... ففي نهايته أمل بالضوء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...