تتغير نظرتنا إلى أمور كثيرة، ونحن نعيش في الوطن العربي. وعندما يضيق بنا الحال ونلجأ إلى ذكرياتنا، نكتشف أننا جميعاً عشنا الحدث نفسه مرات ومرات. لكلّ منّا نصيبه من الصدمات والقهر، وإن اختلفت مرجعياته ودرجاته وألوانه. ومع ذلك تكون الآثار والأزمات النفسية أقوى وأفجع في ظل مجتمعات مقهورة ومكبوتة كمجتمعنا العربي.
منذ ما يزيد على مئة عام، أثبتت كل الأنظمة السياسية في العالم العربي على تنوع أشكالها، سواء كانت ملكيةً أو جمهوريةً مدنيةً أو عسكريةً، فشلها على مستوى الإنسان وحقوقه. أنظمة تعيش على القمع والاستبداد، ولم تنجح في بناء الإنسان قبل بناء التنمية وتحقيق الإصلاح إن وُجدا.
غالباً ما عملت الأنظمة العربية على الاهتمام بالمؤسسات الأمنية فقط على حساب حقوق الإنسان واحتياجاته الأساسية، ما أسفر عن كوارث على الأصعدة كافة، وما زال الناس يعيشون في ظل أنظمة تعتقد وتؤمن بأن الحفاظ على أمنها ورفاهة أفرادها هو الأهم، ولو على حساب قهر ما تبقى من بشر يشاركونها المساحة نفسها.
عملت الأنظمة العربية على الاهتمام بالمؤسسات الأمنية فقط على حساب حقوق الإنسان واحتياجاته الأساسية، ما أسفر عن كوارث على الأصعدة كافة
مصر في زنزانة
منذ أن اعتلى عبد الفتاح السيسي، السلطة في 2014، ازداد التوسّع في بناء السجون بشكل لم يعرف مثيلاً من قبل، فقد صدرت خلال الفترة الممتدة من 2013 إلى 2021، قرارات بإنشاء 35 سجناً جديداً وسط أزمات معيشية خانقة تعيشها البلاد، ليصل عدد السجون فيها إلى 78. وبحسب تقرير الشبكة العربية لحقوق الإنسان الصادر في نيسان/ أبريل من العام 2021، فإن السبب في التوسع الهائل لبناء السجون هو ازدياد أعداد المعتقلين الذين تُقدَّر أعدادهم بما بين 65 و100 ألف سجين سياسي، بخلاف المسجونين العاديين.
من مآثر الرئيس عبد الفتاح السيسي، أنه أطلق الحبس الاحتياطي من دون حد أقصى، وكل من يختلف في الرأي مع النظام هو مدان وعرضة للسجن، بالإضافة إلى التعذيب الروتيني ضد الناشطين السياسيين، أو المشتبه بهم، وكذلك المواطنين العاديين، واختفاء مئات الأشخاص قسراً، وفق ما وثّق آخر تقرير لهيومن رايتس ووتش، الصادر في كانون الثاني/ يناير من العام الحالي. لكن اللافت أن بناء السجون في عهد السيسي صار الرؤية المستقبلية التي تعبّر عنها السلطة وتحتفي بها، وكأن شعارها القادم سيكون: في السجن متسع للجميع!
يقول البعض إن السجون هي مرآة للمجتمعات، فهي تكشف عن مستوى حقوق الإنسان في الدولة، فإذا امتلأت بآلاف الأبرياء من السياسيين والثوار والحقوقيين، فأنت أمام نظام مستبد، وهذا حال الإنسان في الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه
يقول البعض إن السجون هي مرآة للمجتمعات، فهي تكشف عن مستوى حقوق الإنسان في الدولة، فإذا امتلأت بآلاف الأبرياء من السياسيين والثوار والحقوقيين، فأنت أمام نظام مستبد، يقود المجتمع نحو الانحدار، وهو ما يظهر بشكل واضح من خلال انشغال النظام بالسيطرة الأمنية على حساب التنمية والمجتمع، إذ بات 30 مليون مواطن يعيشون تحت خط الفقر وفقاً للإحصاءات الرسمية، بالإضافة إلى وصول الدين الخارجي إلى 145 مليار دولار، وما تدفعه مصر هو فوائد هذه الديون، ما أدى إلى استنزاف الناتج القومي وتدهور الخدمات الأساسية.
لكن هذا الإنسان الذي أنهكه السجن، وسرق سنوات كثيرةً من حياته، إلى متى تؤجَّل عدالته؟ وهل سيتم تعويضه عن السنوات التي صودرت من حياته من دون وجه حق؟ بعد تسع سنوات من قتل الحالة السياسية وحبس الكثير من المعارضين وقتلهم، تفرج السلطة عن قلة قلية من المعتقلين لم يتجاوز عددهم الـ40 شخصاً، بسبب الخوف من حالة التذمر الاجتماعي، وتخفيف الضغط عنها، إذا ما تفاقمت الأمور، وبينما خرج بعض السجناء المفرَج عنهم، قبضت السلطات المصرية على آخرين لبدء الحلقة التي لا نهاية لها، فيما يرى كُثر من الناشطين أن القصد من الإفراجات بشكل أساسي هو تفادي الانتقادات المحلية والدولية، وفق ما تؤكده "هيومن رايتس".
انشغل النظام المصري بالسيطرة الأمنية على حساب التنمية والمجتمع، إذ بات 30 مليون مواطن يعيشون تحت خط الفقر، بالإضافة إلى وصول الدين الخارجي إلى 145 مليار دولار
قاتل سوريا يضحك
أثارت مشاهد الاحتفال الممنهج بالقتل والتلذذ بالتعذيب المعروضة في تقرير مجزرة التضامن الذي نشرته صحيفة غارديان The Guardian البريطانية، في نيسان/ أبريل الماضي، ألم الذكريات المستمر ووجعها، والإرث الهائل من المظالم؛ المنازل والمدن التي دُمرت، والبراميل المدمرة التي رُميت على رؤوس السوريين، والإعاقات مدى الحياة، والأجيال التي دفعت تكاليف حريتها قتلاً وتشريداً.
وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، قُتل نحو 400 ألف إنسان على أقل تقدير، و100 ألف قُتلوا في سجون النظام في أثناء التعذيب، و200 ألف في عداد المفقودين، ونحو ستة ملايين سوري هُجّروا من وطنهم، مشتتين في بلاد العالم، بالإضافة إلى سبعة ملايين يعيشون في مخيمات غير صحية وغير آمنة وتفتقر إلى مقومات العيش الضروري، و%60 من أطفال سوريا يعانون من الجوع، وأكثر من 2.5 مليون طفل سوري خارج النظام التعليمي وفق تقديرات منظمةSave the children.
سوريا تعيش أكبر كارثة إنسانية بعد الحرب العالمية الثانية، وحجمها الحقيقي لم يتضح بعد. وبحسب مارتن غريفيث، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، فإن الدمار الذي حل في سوريا منذ عام 2011، لا مثيل له في التاريخ المعاصر!
في المقابل ما الذي يحصل؟ أنظمة عربية عادت إلى التطبيع مع نظام الأسد؛ بدأت الإمارات بالخطوة ولحقها وسيلحقها كُثر، في مسلسل مستمر لكيفية دفن العدالة في مهدها. أما دول العالم فصارت انشغالاتها خارج حدود ما يحصل في سوريا، ولم تعد القضية أولويةً بالرغم من أن لا شيء تغير بالنسبة إلى الإنسان السوري.
مجزرة التضامن نقطة من بحر الوحشية ومن استمرار مسلسل العدالة المؤجلة، وإذا كانت هذه المجزرة حدثت أمام الكاميرات، فكيف بما حدث ويحدث خلفها؟ وكم مذبحةً ارتكبها هذا النظام ولم يُكشف عنها إلى الآن؟
السعودية والقتل بصمت
تستغل السعودية عنوان الإرهاب الذي يدغدغ مشاعر الغرب لقمع أفواه أي معارض يخالف وجهة النظر الرسمية وتكميمها، فولي العهد والحاكم الفعلي للبلاد، محمد بن سلمان، عزز سلطته بأكبر موجة اعتقالات جماعية في تاريخ السعودية، مستهدفاً عدداً من أصحاب الفكر، والأكاديميين، ورجال الدين، والحقوقيين، وقادة الرأي، والصحافيين، والناشطين المعارضين. قمع بن سلمان بشكل تعسفي أي معارضة محتملة له، وزج بالجميع في غياهب السجون من دون أسباب قانونية أو حتى تهم ومحاكمات علنية!
مناخ قمع كبير تحت فزاعة التطرف والإرهاب، ولم تفرّق يد المستبد بين صحافي وكاتب وقارئ ومدوّن ومغرّد، وحتى بين رجل وامرأة، إذ تم اعتقال الكثير من الناشطات الحقوقيات المعتقلات تعسفياً على خلفية نشاطهن الحقوقي، مثل الحقوقية سميرة الحوري التي اعتُقلت مع ابنها في مدينة الرياض، وأيضاً حليمة الحويطي، التي اعتُقلت مع ابنها وزوجها في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، والكاتبة الصحافية الشابة زانة الشهري، وما تزال أخبارها مقطوعةً منذ اعتقالها، والسيدة عائدة الغامدي، التي تعرضت للتعذيب البدني الشديد، بهدف ابتزاز نجلها الناشط عبد الله الغامدي وإرغامه على العودة إلى المملكة وتسليم نفسه، ومنى البيالي التي تم اعتقالها في 2018، ولا تزال أخبارها مقطوعةً تماماً، والقائمة تطول.
ذكرت لجنة حقوق الإنسان في لندن في العام 2011، أن هناك أكثر من 30,000 معتقل سياسي في سجون السعودية، وبالرغم من عدم وجود إحصاءات حالياً، إلا أن عداد الاعتقالات ما زال مستمراً
ذكرت لجنة حقوق الإنسان في لندن في العام 2011، أن هناك أكثر من 30,000 معتقل سياسي في سجون السعودية، وبالرغم من عدم وجود إحصاءات حالياً، إلا أن عداد الاعتقالات ما زال مستمراً، فلا صوت يعلو فوق صوت الحاكم، واللافت أن الاعتقال صار لأهون الأسباب، مثل الحقوقي محمد الودعاني، الذي يقضي حكماً بالسجن مدة 15 سنةً، بسبب دعوته للتظاهر السلمي للمطالبة بإصلاحات سياسية، والمحلل الاقتصادي عصام الزامل، الذي اعتُقل بسبب نقده لبيع شركة أرامكو النفطية، والكاتب جميل فارسي، وعبد الله المالكي، والدكتور علي العمري الذي لا يُعرف إلى الآن مقر احتجازه، وسلمان العودة المحتجز منذ ثلاث سنوات في الحبس الانفرادي في سجن الذهبان في جدة بسبب تغريدة تمنّى فيها مصالحةً بين قطر ودول الخليج، وأيضاً الباحث في التاريخ الإسلامي، محمد موسى الشريف، الذي سُجن بسبب تأييده لثورات الربيع العربي ووصفه الحكام العرب بالطغاة، وتطول قائمة من اعتُقلوا على خلفية التعبير عن الرأي في مواقع التواصل الاجتماعي بعيداً حتى عن الكلام في السياسة، مثل "أبو الفدا"، و"أبو نوره" اللذَين اعتُقلا بسبب بوست على تطبيق سناب، والبناخي وبو جاسم اللذين اعتُقلا بسبب تغريدات بسيطة.
لا يحق لأي شخص التحدث عن الانتهاكات التي يتعرض لها المعتقلون وسوء حالتهم الصحية، ومن يفعل يُتَّهم بنزع الطاعة والخروج على ولي الأمر، والإساءة إلى سمعة المملكة والاتصال بجهات أجنبية، الأمر الذي يؤدي إلى عدم معرفة أوضاع كثيرين من المعتقلين، بالإضافة إلى أن أي شخص من أسر الضحايا يحاول الوصول إلى المنظمات الحقوقية يتم اعتقاله وإخفاؤه ومعاقبته، ولو كتب تغريدةً واحدةً فقط، مثل الدكتور خالد العودة، شقيق سلمان العودة، إذ تمت مداهمة منزله بعد ساعات من كتابة تغريدة، وأودِع في غياهب السجن، ولا أحد يعلم عنه شيئاً.
الاختفاء القسري متكرر وموجود أيضاً في السعودية، ولا أحد يعتقد بأنه قد تم طرح موضوع حقوق الإنسان بجدية أمام طرح صفقات أسلحة بمليارات الدولارات.
اليمن مأساة بلا عدالة
مرت أكثر من سبع سنوات على المأساة اليمنية. فصول من الألم والتشرد يعيش فيها اليمنيون كل أصناف الموت والحصار والجوع في بلد هو في الأساس فقير، ويعتمد على المساعدات الدولية، ونصف سكانه قبل الحرب كانوا تحت خط الفقر، ثم بعد الحرب بات أكثر من ثلثي السكان اليوم تحت الفقر الغذائي، الأمر الذي دفع الأمم المتحدة إلى التحذير من أن اليمن يقترب من المجاعة، ليس بسبب زلازل أو فيضانات، وإنما بسبب الصراع.
الإخفاء القسري، التعذيب، الاعتقال السياسي، القتل والمجازر المتنقلة، لا شيء سوى الموت في ما يُسمّى الوطن العربي. مجزرة التضامن نقطة في بحر ما يحصل في كُل بلد، الفارق أن ما يظهر إلى العلن نسبته لا تُقاس مقارنة بما يحصل في أقبية أنظمة الاستبداد
تُنتهج في اليمن سياسة الاحتلال، فالشرعية لا تأتي من الشعب، إنما من الإمارات والسعودية اللتين تديران المشهد السياسي والعسكري. على الأراضي اليمنية تشهد البلاد صراعاً إماراتياً سعودياً من ناحية، وصراعاً سعودياً إيرانياً من ناحية ثانية، وصراعاً بين الحوثيين والحكومة المسلوبة الإرادة والقرار من ناحية أخرى، وفي المحصلة دُفعت البلاد إلى محرقة التدخلات الإقليمية، وصار اليمن مرتعاً للميليشيات شمالاً وجنوباً.
ومع ازدياد هجمات الحرب الشرسة في اليمن، لم تسفر المعارك عن هزيمة أحد الأطراف، ولا حتى السياسة الشكلية نجحت، لكن المؤكد أن الضحية الأكبر هم اليمنيون الذين وجدوا أنفسهم وقوداً لصراع الأشقاء والجيران وكيدهم، وعليهم تدور رحى الحرب.
لا يبدو أن هناك نهايةً واضحةً للوضع القاتم في اليمن الذي أسفر عن 233 ألف ضحية لقيت مصرعها، وجرح أكثر من 200 ألف مدني، و16 مليون إنسان يستيقظون جوعى كل يوم
اليمن الآن في حالة دمار شامل، بعد أن عاش موجة قتال هي الأعنف في تاريخه. فصائل سياسية لا تراعي مصلحة الشعب، وغياب للاستقرار النفسي والاجتماعي، وميليشيات وكيانات عسكرية خارج السلطة، ومئات الآلاف تركوا ديارهم وفروا شمالاً وجنوباً، وانتشار الجوع والأمراض ونقص الأدوية والمساعدات الغذائية للبقاء أحياءً، أمور كلها تعرّض المواطنين للموت اليومي، ناهيك عن اختطاف عدد كبير من الناشطين والإعلاميين واعتقالهم، وحتى المساعدات الدولية للنازحين تصطدم بالمشكلات السياسية والأمنية.
كل ذلك حدث أمام مرأى العالم ومسمعه، وبأيدي أنظمة عربية متورطة ومستفيدة من استفحال الأزمة وغياب الأفق السياسي، فضلاً عن متاجرتها بمعاناة اليمنيين، ولا يبدو أن هناك نهايةً واضحةً لهذا الوضع القاتم الذي أسفر عن 233 ألف ضحية لقيت مصرعها، وجرح أكثر من 200 ألف مدني، و16 مليون إنسان يستيقظون جوعى كل يوم، ونحو 4 ملايين أُجبروا على ترك منازلهم، فمن الذي سيحاسب على هذه الفاتورة؟
فشلت عملية عاصفة الحزم، وأعلن التحالف عن عملية حرية اليمن السعيد، كما أعلن المبعوث الثالث الخاص للأمم المتحدة، هانس غروندبرغ، هدنةً لمدة شهرين، ثم أعلن الرئيس عبد ربه منصور تسليم السلطة ونقل صلاحياته إلى مجلس رئاسي، فهل ستنجح هذه المساعي أم ستضيف فشلاً جديداً إلى سابقاتها، وتستمر معاناة اليمنيين الذين لم يعد لديهم ما يخسرونه اليوم، فهكذا أو هكذا، يموتون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون