من بين الأحداث التي تمخّضت عن الثورة التونسية التي اندلعت يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010، تمكّن عددٌ من نزلاء سجن منطقة المسعدين في محافظة سوسة وسط شرق البلاد، يوم 15 كانون الثاني/ يناير 2011، من الهرب، فووجهوا بالرصاص الحي.
كان الشاب رضا زلفاني (38 سنةً)، يسكن بالقرب من السجن فهبّ لمساعدة المصابين، لكنه سقط جريحاً برصاصة مباشرة اخترقت كتفه، وأصابت عموده الفقري متسببةً له بشلل تام.
فقَد زلفاني عمله كنادل في أحد فنادق منطقته، وهو يقضي أيامه مقعداً على كرسي متحرك تعتريه مشاعر الغضب والحزن بسبب تنكر مختلف الحكومات المتعاقبة لتضحيات جرحى الثورة وشهدائها، خاصةً أن الدولة توقفت عن تقديم العلاج له، ما ضاعف آلامه الجسدية والنفسية اليومية.
بعد انتظار طويل ومعاناة مريرة ونضال جرحى الثورة وعائلات الشهداء والحقوقيين المؤمنين بقضيتهم، صدرت في الجريدة الرسمية للبلاد يوم 19 آذار/ مارس 2021، القائمة النهائية والرسمية لشهداء الثورة ومصابيها، وضمت 129 شهيداً و634 جريحاً.
خطوة أولى مهمة تأمّل الجرحى وأسر الشهداء أن تنصفهم بعد فقدانهم الأمل في إنصافهم طوال أكثر من 10 سنوات واعتصم عدد من جرحى الثورة في مقر الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، مطالبين بإصدار مرسوم خاص بهم وبعائلات شهداء الثورة ومباشرة تفعيله وتطبيقه وبتشريكهم في المؤسسة التي ستتولى تطبيق هذا المرسوم.
"مؤسسة فداء"
يوم 9 نيسان/ أبريل 2022، أعلنت رئاسة الجمهورية التونسية إصدار المرسوم عدد 20 لسنة 2022، في الجريدة الرسمية التونسية، والذي يتعلق "بمؤسسة فداء للإحاطة بضحايا الاعتداءات الإرهابية من العسكريين وأعوان قوات الأمن الداخلي والديوانة وبأولي الحق من شهداء الثورة وجرحاها".
ينص المرسوم على إحداث "مؤسسة عمومية تتمتع بالشخصية القانونية والاستقلالية الإدارية والمالية يطلَق عليها اسم مؤسسة فداء تخضع لإشراف رئاسة الجمهورية ويكون مقرّها في تونس العاصمة، ويضبط التنظيم الإداري والمالي وطرق سير المؤسسة بأمر رئاسي".
من ضمن مهامها "اتخاذ جميع التدابير والإجراءات اللازمة لضمان حصول المعنيين على الحقوق والمنافع المخولة لهم ومساعدتهم ودعمهم ورعايتهم في كافة المجالات، خاصةً منها الصحية والمادية والاجتماعية والتعليمية والمشاركة في عضوية مختلف اللجان الوطنية والوزارية ذات العلاقة بمشمولات المؤسسة وإبداء الرأي في مشاريع النصوص التشريعية والترتيبية التي تُعرَض عليها".
رغم الإعلان عن مؤسسة فداء التي تعنى بشهداء وجرحى الثورة إلا أن كثيرين يتخوفون من أن تظل حبرا على ورق
وقد دشّن رئيس الجمهورية قيس سعيّد، يوم 24 حزيران/ يونيو 2022، مقر مؤسسة فداء، وهو أحد المباني المصادرة، غير أن المؤسسة لم تنطلق بعد في عملها على أرض الواقع، وفي تقديم خدماتها للمعنيين بالأمر، فما هي أسباب هذا التأخير ودلالاته؟
"وعود وأكاذيب"
بالنسبة إلى جريح الثورة رضا زلفاني، لم يتغير شيء في تونس واستمرت الوعود والأكاذيب ذاتها، والأمر يعود إلى مؤسسة فداء "التي طالبنا بأن تضم ممثلاً عن جرحى الثورة حتى لا تستأثر السلطة باتخاذ القرارات بمفردها من دون إشراكنا، ولكنها تجاهلتنا ولم تجبنا إلى الآن"، يقول لرصيف22.
عن أسباب تأخر انطلاق عملها، يرجع رضا ذلك إلى افتقار الدولة التونسية للميزانية المخصصة لهذه المؤسسة ولبقاء كل المعطيات بشأنها مجهولةً، "برأيي ما زالت حكايتها طويلةً"، يختم.
يوم 27 شباط/ فبراير 2011، أصابت رصاصة غادرة قلب شهيد محافظة سيدي بوزيد وسط غرب تونس، عبد الباسط خضراوي (22 سنةً)، وأردته قتيلاً خلال أحداث الثورة حينها.
"طالبنا بأن تضم ممثلاً عن جرحى الثورة حتى لا تستأثر السلطة باتخاذ القرارات بمفردها من دون إشراكنا، ولكنها تجاهلتنا ولم تجبنا إلى الآن"
بعد استشهاده، رفعت أسرة عبد الباسط، منذ آذار/ مارس 2011، قضيةً ضد وزير الداخلية الأسبق أحمد فريعة، ورئيس الجمهورية المؤقت الأسبق فؤاد المبزع، وعدد من القيادات الأمنية بـ"تهمة القتل العمد والمشاركة فيه"، وهي تنتظر إلى اليوم تحقيق العدالة ومحاسبة الجناة، يوضح ميمون خضراوي، شقيق عبد الباسط، لرصيف22.
"تؤسس للمصالحة"
بدوره، يرى ميمون أن مؤسسة فداء "تأسست من أجل عيون العسكريين والشرطة وأنها لن تذهب بعيداً وكترضية فقط تحت غطاء مطالب اجتماعية بالرغم من قرب رئيس الجمهورية من أسر الشهداء والجرحى ومعرفته الجيدة بالمظلمة التي يتعرضون لها لأن القضاء لم يحسم في أغلب قضاياهم ولم يحاسب الجناة".
ويرى أنها تؤسس "لمصالحة مع الأمنيين والعسكريين المتورطين في قتل الشهداء، ونحن نرفض أن نكون جزءاً من ذلك وأن تكون هناك مصالحة من دون محاسبة وتحمّل للمسؤوليات، وشهداء الثورة وجرحاها ضحوا من أجل الديمقراطية والحرية ونحن نرفض أن نكون في ذيل مرسوم في الجريدة الرسمية للبلاد"، يؤكد.
"تأسست من أجل عيون العسكريين والشرطة وأنها لن تذهب بعيداً وكترضية فقط تحت غطاء مطالب اجتماعية بالرغم من قرب رئيس الجمهورية من أسر الشهداء والجرحى ومعرفته الجيدة بالمظلمة التي يتعرضون لها"
وشدد خضراوي على رفضهم "المشاركة في هذه المؤسسة بهذه الطريقة الأحادية من دون استشارتهم، وعلى تمسكهم بمطلب استقلالية ملف شهداء الثورة وجرحاها عن كل الملفات، وينتقد بشدة ما وصفه بجمع الجلّاد بالضحية في الملف نفسه، "فكيف يضعنا مع المؤسستين الأمنية والعسكرية؟ من قتل الشهداء وأصاب الجرحى؟"، يتساءل.
يؤكد احترامه شهداءَ المؤسستين الأمنية والعسكرية الأبرياء، عادّاً أن أفضل تكريم يُمنح لشهداء الثورة وجرحاها من المواطنين هو "استقلالية ملفهم والدفاع عن حقوقهم ومعرفة الحقيقة وكشف قتلتهم ومحاسبتهم وفق القانون في محاكمات عادلة تنصف الأموات والأحياء".
"تكرار لفشل سابق"
من جانبه، يرى الناشط الحقوقي المتابع لملف شهداء الثورة وجرحاها، عادل بن غازي، مؤسسة فداء "تكراراً لفشل مؤسسات سابقة شبيهة تحت مسمى لجان وهيئات تُعنى بهذا الملف".
يوضح لرصيف22، أنه ومنذ سنة 2011، تكوّنت في البداية لجنة شهداء وجرحى الثورة والعفو التشريعي العام وتلتها هيئة شهداء وجرحى الثورة والعمليات الإرهابية ثم الهيئة العامة للمقاومين والشهداء وجرحى الثورة والعمليات الإرهابية، وأخيراً مؤسسة فداء.
يرى بن غازي، أن مكانة ملف شهداء الثورة وجرحاها في تراجع مستمر منذ 10 أعوام، وأنه يتم استغلال القضية منذ سنوات لخدمة ملفات أخرى "وكلما كان هناك حرف العطف ‘واو’ مع الملف، يكون ملفاً متروكاً وخير دليل أننا لم نلمس إلى اليوم أي نتائج على أرض الواقع"، حسب تصريحه.
ملف شهداء الثورة وجرحاها في تراجع مستمر منذ 10 أعوام، يتم استغلال القضية منذ سنوات لخدمة ملفات أخرى
وأشار إلى عدم حصول العديد من الجرحى وأسر الشهداء على العلاج الطبي والنفسي وإلى شعورهم اليوم "بظلم أكبر لأن نظام الحكم لم يفِ بوعوده تجاههم على غرار الأنظمة السابقة التي خذلتهم".
"غياب حلول واضحة"
برأيه، يعود تأخير انطلاق عمل مؤسسة فداء إلى انعدام الحلول الواضحة منذ إصدار المرسوم في الجريدة الرسمية وافتقار السلطة إلى ميزانية مخصصة لها لتمويلها وإلى أشخاص أكفاء متمكنين من الملف مع غياب إرادة سياسية فعلية، "فليس هناك سوى شعارات والكلام وحده من دون فعل لا يكفي".
وينتقد الناشط الحقوقي بشدّة ما قال عنه "وضع الضحية والجلّاد"، أي الأمنيين والمدنيين، في خانة واحدة، ودعا إلى ضرورة تحييد ملف شهداء وجرحى الثورة من المواطنين عن أي ملف آخر وعن كل التجاذبات.
وطالب بضرورة تخصيص مؤسسة خاصة بهم، يشرف عليها أشخاص أكفّاء من أخصائيين اجتماعيين وأطباء ورجال قانون لخدمة الملف ولتحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع.
وشدد عادل بن غازي، على وجود أناس ما زالوا يؤمنون بالثورة ويقدّرون ضحاياها من جرحى وشهداء سيقدّمون المساعدة المالية، وعلى حاجة الشهداء والجرحى وأسرهم الماسة إلى محاسبة الجناة وفق القانون "لأن كثيرين منهم طلقاء ما زاد من معاناة الجرحى والأسر النفسية".
"فكرة ممتازة"
في المقابل، يعلّق الناشط السياسي طارق رحالي، على منتقدي مؤسسة فداء لأن "الجميع يرون المسألة من منظور ذاتي".
ويصف الفكرة "بالممتازة في حال تم تطبيقها بالشكل الصحيح خاصةً أنه وقع تسفيه لمئات القوانين الرائدة والثورية سواء عمداً عن طريق اللوبي الإداري أو المالي الذي يرى أنها تمس بمصالحه، أو بانعدام الكفاءة حين أُسند الأمر إلى غير أهل الاختصاص"، يقول لرصيف22.
ويؤكد أن المؤسسة حسب القانون المنظم لها، ستضمن حقوق الجميع وفق ضوابط "ولا أرى داعياً للقلق في مسألة جمع الأمنيين بالمواطنين في المرسوم ذاته".
"الجسم المريض داخل الإدارة"
في شأن تأخّر انطلاق عمل مؤسسة فداء، يرى طارق رحالي، أن السبب يعود "إلى الجسم المريض داخل الإدارة التونسية حتى على مستوى صعوبة اختيار الأشخاص الذين سيشرفون عليها في ظل ما حدث سابقاً من تلاعب في قوائم شهداء الثورة وجرحاها".
يرفض الناشط السياسي وصف المؤسسة بالمشروع الوهمي، نظراً إلى افتقارها إلى التمويل المالي اللازم للنشاط ويرى أنه سيتم إدراجها ضمن قانون الميزانية التكميلي "الذي سيكون جاهزاً بعد أيام".
ويشدّد على حق الجرحى وأسر الشهداء "في التذمر بالنظر إلى معاناتهم المستمرة منذ سنوات"، مذكّراً "بجريح الثورة طارق الدزيري ‘الشهيد’ الذي توفي سنة 2020، بعد عجزه عن توفير ثمن العلاج والدواء".
يشار إلى أن رئيس الجمهورية قيس سعيّد، التقى يوم 21 أيلول/ سبتمبر 2022، ويوم 28 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، رئيسة الحكومة نجلاء بودن، وبحث معها "ملف إرساء مؤسسة فداء ومشروع النّص الذي سيحدد تنظيمها"، وشدد على ضرورة انطلاق المؤسسة في أعمالها حتى تُنجَز، في أقرب الآجال، الأهداف التي أُنشئت من أجلها"، نقلاً عن بلاغ صادر عن رئاسة الجمهورية التونسية.
كما أكد سعيّد، خلال لقائه يوم الأربعاء 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، رئيس مؤسسة فداء، محمد الطيب الغزي، "ضرورة الإسراع في تركيز هذه المؤسسة حتى تحقق الأهداف التي أُحدثت من أجلها"، وفق بلاغ لرئاسة الجمهورية.
وأوضح قيس سعيّد، أن لمرسوم هذه المؤسسة "مفعولاً رجعياً سواء بالنسبة إلى شهداء القوات المسلحة العسكرية والأمنية أو بالنسبة إلى عائلات شهداء الثورة وجرحاها"، وفق المصدر ذاته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...