شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
ما يضحكنا في هذا المجتمع قد يقتل غيرنا…

ما يضحكنا في هذا المجتمع قد يقتل غيرنا… "ملحمة رأس الكلب"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحريات الشخصية

الخميس 13 يوليو 202312:13 م

في روايته "ملحمة رأس الكلب" التي صدرت عن دار الشروق للنشر والتوزيع، خلال العام الجاري 2023، يقدّم الكاتب المصري محمد أبو زيد، صراعاً سردياً ممتلئاً بالتفاصيل والأفكار المتناقضة حول الحقيقة والخيال، عبر الخلط بينهما، والدمج بين الأسطوري والمتجسد، من خلال مخاض روائي يشهد تحولات للشخصيات، وانقلابات في تركيباتها.

وبطريقة مختلفة عن المتّبع في روايته "عنكبوت في القلب"، التي جسّد خلالها شخصيات تعيش على هامش الحياة تحاول أن تتكيف مع الواقع، فإنه هذه المرة، ينطلق من هامش الحياة وصورتها الافتراضية، إلى عمق التجريب، محدثاً التحول في سلوك الشخصيات وتركيبها.

ما قبل وما بعد

تتمركز أحداث الرواية حول شخصيتَي "دو" ولبنى، اللتين تحاولان، بدايةً، اكتشاف الذات من خلال الانطلاق نحو الحياة واكتشاف مضمونها، بعد تجارب محصورة في حدود العائلة والواقع الافتراضي المتمثل في مواقع التواصل الاجتماعي، إذ لا صراعات ولا تجارب مشتعلة تمرّ في طريق كلّ منهما. تلك الحياة الهادئة، الخالية من الانقلابات، جعلت منهما مادةً خاماً للتلوث بسلوك الحياة الواقعية في ما بعد.

يقدّم الكاتب المصري محمد أبو زيد في روايته، صراعاً سردياً ممتلئاً بالتفاصيل والأفكار المتناقضة حول الحقيقة والخيال، عبر الخلط بينهما، والدمج بين الأسطوري والمتجسد، من خلال مخاض روائي، يشهد تحولات للشخصيات، وانقلابات في تركيباتها

تمتد شخصية "دو"، ما بين حياتها المعتمدة على أفكارها الخيالية، التي اكتسبتها من المسلسلات وأبطالها، فتحلم أن تكون الشخصية المؤثرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ويلاحقها المتابعون وتتشكل هويتهم بفعل اليوميات التي تضعها من على تلك المنصات، ولطالما كانت "دو" الشخصية الباحثة عن الحب، الذي عدّته ملاذاً آمناً للمشاعر الإنسانية، والتي كشفت عن عشقها للقرفة في المأكولات، وانطبعت في شخصيتها نبرة التحدي من أجل إثبات قدرتها على انتقاء الأشياء الممتعة في العالم.

أما لبنى، فكانت الصديقة المقربة من دو، التي عدّتها عبّارةً نحو الأمان في العالم من خلال الصداقة المحفزة بينهما، فانطلقت بفعل تلك الصداقة نحو المشاركة في الحياة، بعد أن التزمت العتمة والنبرة السوداوية في تطلعها إلى الحياة بعد وفاة جدتها، التي أفقدتها روحها بذهابها إلى العالم الآخر. كما اعتقدت لبنى بقدرتها على إحداث السحر في العالم، وحاولت في ما بعد أن تغيّر من خلاله الواقع، فهل استطاعت ذلك؟

ترتبط شخصية لبنى بالقطة "أليس"، التي بوجودها كانت تجسد الصوت الدافئ الذي يمكّن وجود الجدّة في تفاصيل لبنى اليومية. وبعد أن فقدت جدّتها، كان غياب أليس بمثابة انهيار كامل للأمان في حياتها، فيما كانت لعودة القطة، قصة أخرى، اعتمد عليها الكاتب في الربط بين العالم الواقعي، والعالم الآخر، عالم الأرواح.

هذه الصوتية السردية، كانت بمثابة مقدّمة من الكاتب حول شخصيتي البطلتين، لكن كان في الجواب السردي له، ما هو أكثر إثارةً، فيكشف تدريجياً وبأسلوب مشوّق، ولغة متماسكة، عن انقلاب الحال في حياة الصديقتين، بفعل الحدث الطارئ، الذي تبدأ من خلاله حبكة العمل بالدوران.

رمية صائبة

إن وجود شخصية "رأس الكلب"، جسّد الرمية الصائبة التي يطمح إليها أي كاتب في عمله، فكانت الصدفة في تحول شخصية رأس الكلب من إنسان عادي تقليدي، إلى إنسان برأس كلب وملامحه، هي الفكرة الفلسفية الخيالية، التي أراد أبو زيد من خلالها، تحريك الرياح داخل روايته.

الخطوة الأولى نحو إقلاع السرد في إشعال فضول القراء، هي انطلاق الصديقتين نحو حارة السماء، المكان الذي تباع فيه الحيوانات المختلفة، لكن يحدث ما لا يُتوقع، وتعود دو ومشاعرها معلقة بالفضول نحو شخصية رأس الكلب، وتبدأ رحلة التشابك المحتدم ما بين الشخصيات، ويطلق المعنى إيحاءاته خلال سرد الأحداث حتى نهاية الرواية الممتدة حتى 200 صفحة من القطع المتوسط.

كان رأس الكلب، بمثابة رمزية يضعها الكاتب على مائدة السرد، ليحرّك التناقضات الاجتماعية، ما بين الادعاء بثبات الفضيلة، ورسوخها في المجتمعات العربية، لكن شخصية رأس الكلب باختلافها عن المألوف، تكشف عورة الأفكار في هذه المجتمعات التي ترفض كل من يختلف عنها.

الفكرة لم تكن في اختلاف الأفكار، بل في اختلاف الشكل، فماذا لو كان كلبٌ يفكّر مثلنا ويعيش بمقاييس الحياة الثابتة داخلنا؟ هل نتقبله؟

ثقب يتسبب في الانهيار

الصورة غير المألوفة لوجود إنسان برأس كلب، كانت الثقب الذي انهارت من خلاله فكرة مجتمع بأكمله، فكان التنمر والتمييز العنصري والإبعاد، والاضطهاد، والاستغلال، ثيمات فرضها السرد، وأراد تفكيكها، من أجل الوقوف على تركيبة المجتمع المزيّف الذي نعيش داخله، ضمن إطار الواقعية السحرية، التي تثير الأسئلة حول الواقعي والخيالي في المجتمعات، عبر انتزاع العادي من عاديته، ووضع السحري والمختلف عن المألوف فكرةً خياليةً أسطوريةً، تزيد من وهج السرد، الذي اشتمل على فلسفة مثيرة للكاتب، وقدّم صوراً شعريةً خلف المواقف والأحداث.

كما اهتم الكاتب بتقنيات السرد من خلال تقسيمات وفصول قصيرة، قدّم من خلالها كل شخصية وتطوراتها بشكل منفصل، معتمداً على دمج عناصر السرد والقيمة الفكرية لروايته خلال تحليله لشخصياته وتطوراتها.

فيما وضح ارتكاز أبو زيد على الشكل السينمائي، من خلال تقسيمات المشاهد التي اعتمد فيها أداة القطع للمشهد، للانتقال إلى الآخر، تاركاً في مساحة القطع هذه أسئلة الفضول، حول مصير الحدث المقطوع، كما من خلال بدء المشهد الجديد، فهو يضرب جرس انتباه، حول مستوى آخر من المعنى.

فتح إطار الصورة كاملاً

ولطالما أراد السرد عند أبو زيد، أن يفتح إطار الصورة كاملاً، لا تاريخها، فليس المهم كيف وصل رأس الكلب كشخصية إلى هذا الإطار المنبوذ، لكن المهم هنا هي نظرة المجتمع إلى الاختلاف، وعدم امتلاك أدوات الاحتواء والتقبل، والخروج إلى الصناديق الأخرى، بدلاً من التزاحم على فكرة قد تقتل الجميع.

يكتب أبو زيد بطريقة فلسفية: "ليس كل ما تراه حقيقياً، أنت لا ترى إلا ما تريد أن تراه".

كما أنه حاول تمرير القسوة التي تمضي من خلالها الحياة دون مبررات واضحة، بحيث يصير كل من وقع في فخ المأساة، شيئاً آخر غير الإنسان الذي يطلبه كاتالوغ المجتمع الثابت، ومن يخرج عنه، فهو المغترب الجديد، عن العالم. يكتب: "هل هناك مبرر للّذين يموتون كل يوم في الشارع، للائي يتعرضن للاغتصاب، للذين يتهمون بالخطأ في جرائم قتل وقد يقضون كامل أعمارهم في السجن بدون ذنب، للّاجئين والذين يموتون في الحروب، للأطفال الذين يولدون بعاهات؟".

نكتة تقتل إنساناً

في الرواية تبرز لمحة خفية حول سخرية الكاتب من أفكار القوالب الاجتماعية، كأن تتمكن نكتة مربكة من قتل الإنسان، فقط لأنه لم يحتمل هول الضحك الذي فرضته على حواسه. لقد غادر العالم بضحكة متصلّبة، وكأن الكاتب أراد أن يقول إن ما يضحكنا في هذا المجتمع قد يقتل غيرنا، فالتنمر فيه نوع من الفكاهة، لكنه يحمل رصاصات موجهةً إلى صدر الضحية، يقتله بينما نحن نضحك، ونسخر، لنثبت أننا الأقوى.

مدينة للتائهين

فيما ينطلق الكاتب لتعميم فكرة الاغتراب، الشعور الذي يعيشه كل من يختلف في الشكل أو الفكرة عن المجتمع، فإنه ينطلق نحو نفق كبير، يقبع في الخفاء، ويبتعد عن حلبة المصارعة الكبيرة التي تدور من خلالها الأحداث في المجتمعات الكبيرة.

لذا كانت مدينة التائهين هي الملاذ الخيالي الآمن الذي ينطلق إليه رأس الكلب، ورأس الثعلب، وغيرهما من الشخصيات المختلفة في المجتمع، فهم في مجتمع يوتوبي، ليس بالمفهوم الأفلاطوني المألوف، بل بتعريف تنتجه صورة الأحداث خلال السرد، فيكتب أبو زيد: "اليوتوبيا لا تعني مجتمعاً ملائكيًاً، كلّ من فيه طيبون. اليوتوبيا هي أن تعرف حقيقة من أمامك، طيب أم شرير، صادق أم كاذب، أن تعرف ما يؤدي إليه الطريق وتختار بإرادتك أن تسلكه أو لا. اليوتوبيا تعني أن الحق بيِّن والشرّ بيِّن، أما المشتبهات التي بينهما فهي الحياة الدنيا التي جئنا منها".

السحر النبيل

لقد كان السحر هو أداة الشك التي حملتها لبنى في طريقها، من أجل تغيير الواقع، وإحداث الفارق، فكانت فكرتها عن المستحيل، غير موجودة، لكنها حينما ارتطمت بحائط الواقع، سقطت أفكارها عن التغيير المحتمل، وتحولت طريقتها السحرية، إلى رؤوس مقطّعة تسقط من السماء تباعاً، كرمز لموت السحر النبيل، والأمل في تغيير الواقع، فيكتب أبو زيد، بطريقة فلسفية: "ليس كل ما تراه حقيقياً، أنت لا ترى إلا ما تريد أن تراه".

قبّعات

إن تيه الذات وانتقالها بين الحقيقة والتزييف، بين المأساة والهدوء الداخلي، هما الخيط الذي تحمله حقيبة السرد وتفرده على مكونات الرواية، منذ الصفحة الأولى، فالإنسان يحب القبّعات، برمزيتها، وأثرها، فالفكرة قبعة يلبسها الرأس، وإن اختلافها ما بين ذات وأخرى، هو مصبّ النهر الذي تدور داخله الدوامة الكبيرة.

رأس الكلب بمثابة رمزية يضعها الكاتب على مائدة السرد، ليحرّك التناقضات الاجتماعية ما بين الادعاء بثبات الفضيلة، ورسوخها في المجتمعات العربية

هنا ينطلق الجدل بين الخيارات التي نملكها في الحياة في التغيير، فتحولت حياة دو من الواقع الافتراضي والخيال، إلى الوقع الصلب الثقيل، وحاولت أن تسحب إنساناً غارقاً في غربته لتدمجه في المدار السريع للحياة، لكنها فشلت في خطوتها.

فلقد كانت خطى الحياة الواقعية، أكثر عمقاً من أن تضع دو خطاها فوقها لتمضي في طريقها، فوقعت في حُفر الحياة المختلفة. لكن هل اختارت دو أن تذهب إلى الواقع بقسوته؟ هل كانت مخيّرةً في ذلك؟ يريد الكاتب أن يخبرنا بأن " الغربة ليست خياراً"، فلا ترفيه في ذلك.

يكتب أبو زيد: "وهذه هي المرة الأولى لها التي تضع قدمها في أرض الواقع، التي تحب رجلاً من لحم ودم ورأس كلب، الحب هو الذي جرّها من شعرها إلى الشارع لتعرف الواقع، ويصفعها في عنف".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard